الاثنين ٢٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم محمد السموري

من تجليات الإرث الحضاري في الأسطورة العربية

يبدو أن الحديث عن الأسطورة :بات من ضروب ثقافة يزعم دعاة ما بعد الحداثة ومشتقاتها أنها أصبحت من الموديلات القديمة ، التي تكبل الثقافة العصرية وتعيقها من الانعتاق إلى فضاءات ما بعد الفكر البرجوازي السلفوي،أو على الأقل طالبوا بإخضاعها الى معايير ليست بالضرورة تنسجم والمعايير المرعية في الدراسات الأركولوجية عادة ، كمفارقة اتهام الفكر الأسطوري بمجافاة العلم وكأن الأسطورة نظرية علمية ، فكثر المصفقون الاعتباطيون لمثل هذه الدعوة، متجاهلين دور الأسطورة في حفظ القيم والعادات والطقوس والإرث الحضاري عبر الأجيال، لترسيخ الثقافة ومنحها قوة التثبيت التي لاغنى عنها لضمان استمرار الثقافة بحيويتها، وتأصيلها عبر ارتباطها بجذورها، لتتماهى با لمعطيات المعرفية الإبداعية ،لأنها تشارك هذه المعطيات في التأسيس المعرفي وتشكل الأرضية المؤازرة للمعطى الإبداعي والفكري، وتساهم في إيجاد حلول فريدة، ولما كان الإبداع هو تلك القدرة على إيجاد الحلول للمشكلات، فان الأسطورة تقدم النظائر والدروس والعبر والأمثال والقرائن لهذه المشكلات، وبالتالي تقدم الروافد المعرفية والسلوكية والرمزية لتهيئة الفعل الإبداعي ، فكما كان لعشتار المعبودة البابلية ومعادلها المصري ايزيس تلك القوة في التثبيت لإلهة الحب والحرب الفينيقية(عشتروت) ومساهمتها في التكوينات الإبداعية عبر التاريخ ، فان من الجائز تماما الحديث عن دورها التقليدي في تكريس هذا الحيز لدى المثقف العربي ودعم الركائز المعرفية التاريخية التي يستند إليها, بما أنها أسطورة عربية جذورها التاريخية متأصلة في الذاكرة الجمعية، وإذا كانت قد عرفت بمسميات مختلفة لدى الشعوب عبر التاريخ فان ذلك لا يحبط مشروعية تناولها عربيا ،في الوقت الذي تشهد فيه الثقافة العربية حملات التشكيك والإنكار والتجني والتطاول على أصالتها وقيمها،عبر غزو ثقافي منظم مشبوه ، تقوده الصهيونية العالمية ويروج له الإعلام المتاجر والهابط والمثقفون الذين ركبوا هذه الموجه. والأسطورة معجميا : كالأعجوبة والأحدوثة , من سطر, أي كتب وما كتبه الأولون من أخبار الأمم , قال ابن قتيبة: أساطير الأولين وما سطر منها،ما كتب منها،وكاد المفسرون يجمعون على معنى واحد هو الأباطيل, فهذا القرطبي يعدها الأقاويل التي تكتب أما في صحيح البخاري فهي الترهات ، والبيضاوي يعدها من الأكاذيب ,والثعالبي يفسرها بالأعجوبة والأضحوكة, وأبي السعود ينسبها إلى ماسطره المتقدمون من الخرافات, وفي كتاب فتح القدير وردت على أنها من الأباطيل والترهات والكذب، أما في لسان العرب فالأسطورة واحدة من اسطارة وهو جمع الجمع واحدة اسطار جمع سطر،فهي أحاديث تشبه الباطل, وهي كتب الأولين لدى ابن كثير وغيره (1) ..الخ وقياسا على هذه التعريفات والنعوت للأسطورة التي ألبستها لبوسا ً مأشوبا ً مماحال دون وضع الأسطورة بموضعها الصحيح على أنها معطى ثقافي وقيمي وحضاري فعدها العامة من قبيل الخرافات التي لا تصلح سوى للتسلية وعدها الدين من أباطيل الأولين الضالين مما لحق بها من التهميش والازدراء والمصارمة فجاء ت الأسطورة في آخر اهتمامات الباحثين المتقدمين وهذا برأينا أحد أسباب الإفك الذي لحق بالأسطورة العربية وفيما بعد كان الإهمال والرفض والإلغاء إلا أن الأسطورة متجلية في ثقافتنا ومخزونة في ذاكرتنا البعيدة ، وبصرف النظر على الموقف منها فهي كينونة تاريخية متجسدة ومتجذرة في أعماقنا

الكواكب المقدسة:

ندرس فيما يلي الأساطير المتعلقة بالكواكب المقدسة ولا سيما الشمس والقمر والزهرة التي خص القرآن الكريم كل منها بسورة ،وقد أكثر من ذكرها(2) للرد على الاعتقاد السالف من كونها إلهات وما صيغ من أساطير متعلقة بها ، أما أن الله تعالى أقسم بها فإثباتا لقدرته في خلقها لا تعظيما لها وحسبنا دراسة انعكاس الأسطورة في المعتقد البداهي للفئات الاجتماعية المختلفة, إن التقاليد والأعراف والعادات المتوارثة لدى العرب تفصح عن مخزون حضاري عظيم يغري الباحثين بالدراسة والتحليل ولاسيما التحليل الانتربولوجي وما يتناوله من التجليات الأسطورية الطقسية وبنيتها السيسيولوجية المعرفية ، لقد نشأ العرب في بيئة تبعث على التأمل والتخيل التصوري الذي هو أساس صنع الأساطير ، فالصحراء بزرقة سمائها وقلة أدواتها وامتدادها اللامتناهي هي الفسحة المثلى للتأمل وصفاء الذهن وابتكار الحكايات والأساطير إلى جانب إبداع الشعر والبلاغة والبيان (3) فانعتق العربي من أسر الكينونة المكانية في أسطورته ليرتقي بها إلى فضاءات أوسع من بيئته ، إلى زرقة السماء ومجاهيلها, ذلك ليمنحها قوة التثبيت وقابلية الديمومة, فالمجهول الميتافيزيقي مهاب ا لجانب لانعدام قدرة العربي صاحب الأنفة والإباء على مقاومة ذلك المجهول الذي لا تناله السيوف والحراب، فتلبس الأسطورة مرغما لاطائعا ,ذلك لكونه بحث عن حلول للمشكلات التي واجهت وعيه في بواكيره الاولى ليؤسس ويعوّل عليها ،فلم يجد بدا من الأسطورة التي نمقها خياله البدوي,كما يرغب ذوقه و تقتضي حاجاته الروحية ويلبي له الضرورات النفسية بما يضمن له تأسيس حياته الاجتماعية بشكل متوازن ولهذا أكرمت العرب زحلا والجوزاء والجبار وعبدت بنو لخم وجرهم المشتري وبعض طىء سهيلا ذلك النجم الذي إذا وقعت عين الجمل عليه مات لساعته وعبدت بعض قبائل ربيعة المرزمان ،و هما نجمان مع الشعريين وعطارد. تقول الأسطورة : إن القمر أراد أن يزوج الدبران مع الثريا فأبت عليه وولت عنه لكونه لامال له ، حتى أوفى بالمهر، وقد أشار طفيل الغنوي إلى هذا الإيفاء بقوله

أما ابن طوق فقد أوفى بذمته
كما أوفى بقلاص النجم حاديها

العَيُّوق: كوكب أَحمر مضيء بِحِيالِ الثُّرَيّا فـي ناحية الشِّمال ويطلع قبل الـجوزاء، سمي بذلك لأَنه يَعُوق الدَّبَران عن لقاء الثُّرَيّا؛:أما الدَّبَرانُ فنـجم يلـي الثرَيّا إِذا طلع علـم أَن الثُّرَيّا قد طلعت. وقد عظم الدبران كنانة وقريش رهبة منه لا رغبة فيه, فهو كوكب مشؤوم لا يمطرون بنوئه فقالوا في المثل :( أنكد من تالي النجم) ويستعمل في الجزيرة السورية اليوم، أما عبادة الثريا فليس للرهبة فقد قالوا :( إذا رأيت الثريا تدبر فشهر نتاج ومطر ) أَي إِذا بدأَت للغروب مع الـمغرب فذلك وقت الـمطر ووقت نَتاج الإِبل، وإِذا رأَيت الشِّعْرَى تُقْبِلُ فمَـجْدُ فَتـىً ومَـجْدُ حَمْلٍ، أَي إِذا رأَيت الشِّعْرَى مع الـمغرب فذلك صَمِيمُ القُرِّ، فلا يصبر علـى القِرَى وفعل الـخير فـي ذلك الوقت غير الفتـى الكريم الـماجد الـحرّ، اذا هو تقديس براغماتي كونه يجلب المطر،وينبت الزرع، وورد ذكر الثريا في القرآن الكريم باسم النجم في ثلاثة َ عشرَ موضعا ً،أما الشعريان فلأنهما تقطعان السماء عرضا ،وعرفتا بطلوعهما في شدّة الحر يقول الشنفري : ويوم من الشعرى يذوب لوابه*أفاعيه من رمضائه تتململ وتزعم الأسطورة إن الشعريان أختا سهيل الذي أنحدر فصار يمانيا ً وتبعته الشعرى اليمانيه عابرة المجره ولذلك سميت عبوراً وأختها أقامت مكانها وبكت لفقدها حتى غمصت(*) فسميت الغميصاء أما سهيل فكان عشارا ًظلوما على طريق اليمن فمسخه الله كوكبا ً وإنه ركض الجوزاء فركلته وطرحته حيث هو فضربها بالسيف فقطع وسطها كما إن الجدي قتل ًفبناته تدور به تريده . ولا زالت الجدات يروين هذه الحوادث الأسطورية بأشكال مختلفة . أما إله الأدباء عند العرب فعطارد وقد خصصوا له يوم الأربعاء وقد عرف هذا الإله في الأساطيرا ليونانية والرومانية باسم هرمس وكان إلى جانب أبولو قال ابن الرومي :

ونحن معاشر الشعراء ننمى
إلى نسب من الكتاب دان
أبونا عند نسبتهم أبوهم
_ عطارد السماوي المكان(*)

أسطورة الزهرة

هي إلهة الجمال والحب,عشتار العرب , سماها الهنود مايا ,وبهافاني ، والفرس ميترا , والاشوريون أناييتيس, والرومان واليونان فينوس ، (5) ورد في بعض المؤلفات اليونانية والسريانية : أن العرب المجاورين للشام والعراق( ولعلهم الجزريون ) كانوا يعبدونها عند ظهورها وأسموها العزى , وكانت عبادتها قائمة بإستباحة المنكرات وارتكاب القبائح الناشئة عن روح العشق في الطبيعة والبشر مثلتها بابل بعشتار امرأة حسناء عارية فالزهرة حملت معاني البياض والحسن والبر ودعيت عند المنجمين بالسعد الأصغر لأنها دون المشتري وأضافوا إليها الطرب والسرور واللهو فالنظر إليها يوجب الفرح وتخفف عن الناظر إليها حرارة العشق وتثير غريزة الحب، وتذهب الأسطورة إلى أنها فتنت الملائكة لمّا وقع الناس من بعد آدم عليه السلام في الضلال, شرعت الملائكة تطعن في أعمالهم فأراد الله إبتلاء الملائكة فاهبط هاروت وماروت إلى الأرض بعد أن ركّب بهما شهوات الإنس وفي الأرض عرضت لهما امرأة حسناء (هي الزهرة) فابتليا بالمعصية وتطلب منهما تعليمها الكلام الذي تصعد به إلى السماء فعلماها وعرجت به إلى السماء وهناك نسيت الكلام الذي ينزلها فبقيت مكانها وجعلها الله ذلك الكوكب الجميل . الذي يطلع في آخر الليل ويسمى نجمة الصبح .اقسم الله تعالى بها في القرآن الكريم أيضا باسم النجم ( والنجم إذا هوى)أي الثريا إذا سقطت مع الفجر.وتتجلى اسطورتها في الاعتقادات الشعبية أنها تنتقم ممن يلعنها.

أسطورة القمر :

تذهب الأسطورة إلى أن للقمر تأثيرا في الكائنات وفي تصرفات الإنسان وقد أتخذه الحميريون إلها ً واتخذوا له صنم على شكل عجل وبيده جوهرة ,أما أعراب الجزيرة فيعتقدون إن بنات الله ثلاث (اللاة والعزى ومناة ) إنما هي إلهات القمر فكان من أحيائهم بنو قمر ،ومن بطونهم بنو قمير. فهل أظهر لبدوي الجزيرة من القمر؟ في حالة اكتماله فيضئ له مضارب أقدامه ، البدوي الذي ما زالت السماء في حلة وترحاله مكشوفة بأجرامها وشهبها يسبح في عرضها القمر راميا ً بأشعته الفضية قلب الصحراء حيث يمتزج برمالها العسجدية فتنعكس في نفس ذلك البدوي أنوار الطمأنينة وهو يحدو الإبل في روعة ليالي الصحراء فكيف لا يخشى على قمره حتى من حيتان البحر حيث كان يعتقد أنها تبتلع القمر في حالة خسوفه ونجد اليوم في الذاكرة الجمعية للجزيرة السورية ذلك الخوف على هذا الكوكب الجميل، فهم يقرعون الدفوف مرددين (حوته يامنحوته هدّي قمرنا العالي) ولا يزالون كذلك حتى نهاية الخسوف وبالممارسة غير المسوغة تحولت إلى اعتقاد من قبيل الخرافة . فضلا عن استبشارهم بنوئه فيعولون على شكل هلاله, مستقبلهم وأحوالهم أويتشائمون , فيلوذون بالأدعية اتقاء من شره. وقدوردذكر القمر في القرآن الكريم سبع وعشرون مرة،مرتبطة بورود الشمس

اسطورة الشمس
تكوّن الشمس مع الزهرة و القمر الثالوث الإلهي الوحيد الذي ابتدأت به الديانة العربية الأولى وقد عبد أهل سبأ الشمس بدليل حديث سليمان والهدهد الذي جاء بنبأ لم يحط به . ظن العرب أنها تنتقم من الظالم والمجرم وقد وجدت صور لحمورابي وهو يستلم دستوره قبل نحو عشرين قرنا ً من الإلهة الشمس روحا ً وجسدا ً فظاهرها جسدها أما الروح والبعل ففي داخلها .وقد ارتبطت عبادة الشمس بالعصر الزراعي لكونها إلهة تمنح غلال الأرض وعرفت ببطن الجزيرة وفي الواحات ومساقط الأمطار التي كان يؤمها انتجاعا ً للماء والكلأ أو إيفاء بالنذور وقد خصص لها العرب هيكلا ً ووجدت أسماء كعبد شمس وجاء في بيت شعر لعتبة بن الحارث

:تروحنا من اللعباء* عصرا ً
فأعجلنا الإلهة أن تؤوبا

وفي تراث الجزيرة السورية يقذف الأطفال بأسنانهم اللبنية باتجاه شمس الضحى وهم يطلبون منها استبدالهم من أسنان أبنائها القوية ضمن طقوس خاصة كما عرف الجزريون إله الشمس (أوتو) الذي أراد لأخته ربة الخصب والجمال (إينانا) الزواج من الراعي (تموز) طمعا ً بلحم الخروف وحليب الماعز لكنها كانت ترغب بالزواج من الفلاح (أنكيدو) طمعا ً بالسنابل لكن تموز بقوة حجته استطاع إقناع (اينانا ) أن تتزوج منه على أن يقايض (أنكيدو) بما لديه من خيرات فتكتمل وليمة العرس ولا زالت حتى يومنا الحاضر مظاهر التنازع بين الفلاح والراعي على خطب ود الأرض ولا أبلغ من العبارة التي تجمع الفلاح بالراعي وتعبر عن علاقتهما التكاملية ( لا تسرح على من كان راعي ولا تفلح على من كان فلاح)مثلا ً للتعبير عن هذا التنازع التاريخي تجسده الأسطورة . فصارمثلا ً يضرب بكل من أتقن عمله على ما يرام .أما ورودات الشمس في القرآن الكريم فثلاث وثلاثون مرة أغلبها مرتبطة بورودات القمر. الأسطورة والخِلاسية: في اللغة خَلَس الشيء من باب ضرب ،و اخْتَلَسَهُ و تَخَلَّسَهُ أي استلبه والاسم بالضم يقال الفرصة خُلسة والنظر الخلس الذي يختلس ساعة بعد ساعة , من قولهم شَعْرٌ مُخْلِسٌ وخَلِيس . والخِلاَسيّ : الولد بَيْنَ أبوين أَسْود وأبيض ، وأن يكون خَلِيساً , أو خِلاَسِيَّة على تقدير حذف الزائدتين , كأنك جمعت خِلاسَاً , والقياس خُلُس مَوْتاً خَالِساً أي يَخْتَلِسُكم على غَفْلة ً ونِساء خُلْساً الخُلْسُ السُّمْر: خلس الشيء,سلبه بمخاتلة وعاجلا وتخالس القوم الشيء تسالبوه أما االخلسة , الفرصة المناسبة ومنه قولهم الخلسة سريعة الفوت , أي أن الفرصة المناسبة تفوت بسرعة من لم يحسن انتهازها (5). ومنها قولنا كلام خلاسي إذا كان مدسوسا خلسةقد نفاجأ عندما نعلم إن العديد من الخلاسيات(6) الأسطورية تسكن ليس فقط الفئات الهامشية من المجتمع ولكن المثقفين أيضا , ويقف المرء مندهشا حيال ظاهرة تستوجب توجيه اهتمامه نحوها بحذر شديد وهو يتحاور مع مجموعة من المثقفين للإجابة على أسئلة قد يعتبرونها مهينة أو ساذجة سيما إذا تعرضت لمواضيع يعدونها من قبيل الاعتقادات الدينية وهم موهومون بها ,كونها دخلت خلسة، فيتغافلون عن الخوض فيها , رغم عدم قدرة أي منهم البرهان عليها أو الاعتراف أنها أدخلت على التراث العربي عن طريق اسرائيليات كعب الأحبار(7) وأمثاله , كم يندهش المرء وهو يكتشف إن الأسطورة تسكن المثقف بالقدر الذي تسكن فيه الفئات الهامشية ونأسف كثيرا للخلط بين الأسطورة والخرافة والخلاسية ،ففي الوقت الذي ابتلي فيه تراثنا العربي بخلاسيات و خرافات إسرائيلية أو تفسيرات بين غبية ومشبوهة لظواهر الحياة والدين ، نجد في الجانب المقابل الأسطورة في كونها معطى حضاري تشدنا إليها بقوة إنها تتجسد فينا وتتقمصنا من حيث لا ندري , أو ربما لأن البيئة الاجتماعية العربية هي بيئة واحدة لذا من الطبيعي أن تكون منسجمة فالمدينة العربية في الأغلب هي مدينة ريفية والبيئة الزراعية هي البيئة الغالبة ومن جهة أخرى فلأن الأسطورة في مداها التاريخي تشكل بنية معرفية ثقافية قلنا بضرورتها في حفظ الإرث الحضاري للأمة ومنحها قوة التثبيت , تلك القوة الآتية من التواتر الشفا هي, قلما نتساءل عن سر توضعها في عاداتنا أو ممارساتنا ولم نشأ يوما الانتباه إلى سر استمرارها وتمسكنا بها وتثبيتها في أنفسنا وخافيتنا وقد تدلنا النتائج المهمة لذلك التثبيت النفسي للأسطورة عند أخذ عينات من أسماء العلم المتداولة ودراسة التوضعات الأسطورية فيها (ففضلا عن انعكاس الورودات المقدسة لهذه الكواكب في القرآن الكريم ) كانت الورودات الأسطورية لأنها سابقة له في الزمان،مثل ( شمسه) وعلاقته باله الشمس ( أوتو ) عند الجزريين أو الإلهة الشمس في العصر الزراعي التي تقبل النذور وما التسمي باسمها إلا ضرب من هذه النذور كما عرف اسم (زهرة ) تيمنا بإلهة الجمال والحب (عشتار العرب) ألا تسمع المرأة الجزريه وهي تردّ على من يعيب ولدها في جماله بكلمة (عشتو) ؟إنها بهذه اللفظة تستدعي عشتار من لا وعيها استنجادا بالربة القديمة التي منحت الجمال لولدها ، ولعل القمر كان له الحظ الأوفر من هذه التجليات ذلك لما ذهبت إليه الأسطورة إلى أن له تأثير في الكائنات وتجسد هذا التأثير في ضروب مختلفة من الأسماء, مثل : قمر وكمرة ,وهلال وهلالة ، وبدر وبدرية ، وبدران،أما ورود الألف والنون مع اسم بدران فيؤكد ما زعمنا به تماما إذا علمنا أن (آن)صيغة عرفت في حوض النهرين في الألف الرابعة قبل الميلاد ترمز للقوة والسلطة المطلقة التي في السماء ( الله بمفهومنا ) وعلى هذه الصيغة عرفت أسماء كثيرة مثل عدنان وقحطان وأسماء أماكن كظهران وهمدان لارتباطها ب (آن) المقدس العلوي( الله ) ويشفع لموافقتنا على هذا الرأي تعدد الأسماء التي عرف بها الله عبر التاريخ (8), كما عرفت أسماء شتى مثل : ثريا ، وكوكب , وسهيل وسهيلة،ونجم , أما النجم فهو الثريا بدليل قول العرب : إذا طلع النجم فالبرد في هدم . وقالوا : طلع النجم عشاء ابتغى الراعي كساء . وقالوا : طلع النجم غديةابتغى الراعي شكيّة (القربة) وقال عمر بن أبي ربيعة : في مقاربة بديعة

أحسن النجم في السماء الثريا والثريا في الأرض زين النساء

ومن التجليات الأكثر وضوحا ما نجده في تلك التوضعات الخافية فيفصح عنها بعبارة ترد ضمن سياق حديث عابر يقفز من اللاشعور من النفس الخافية إلى واعية تتجسد في تصرف أو على هيئة قناعة سلوكية أو دينية أو ما شابه،فترد على أنها من البديهيات غير القابلة حتى لمجرد النقاش ، فالدلائل تشير إلى نسب مرتفعة من المثقفين أفصحوا عن رفضهم الذهاب ليلا إلى المقبرة بدعوى أن المقابر هي سكنى الجن وهم يعتقدون فعلا أن( عبقر ) هي قرى الجن الموجودة في المقابر والتلال , كما أن أعدادا لابأس بها من شرائح مختلفة لا يغتسلون مساء ولاسيما ليلة الأربعاء لما يعتقدون أن الجن يظهر في هذه الأوقات وتتجسد هذه التجليات في الامتناع عن سح الماء الحار مساء إلي الخارج،قبل قراءة مجموعة من التعاويذ الخاصة ومن ضروب ذلك امتناع العروسين عن الاغتسال لمدة أسبوع من ليلة الزفاف خشية أن يصابا بمرض ( أبو العرسي) وتحدّث البعض عن أسطورة زواج الإنسان من الجنيات على أنها وقائع تاريخية وذكروا أسماء من فعلوا هذا ،نفسرها على أنها مجرد خلاسية مختلطة بالأسطورة ومتوضعة في المخيال الجمعي , وأتيه من مصادر المخيال الروائي الشفاهي تثبتت في المرحلة الطفلية عبر ما يعرف بحكايا الجدات (السالوفة )أو من كتب التراث الملوثة بالإسرائيليات يشفع لزعمنا هذا ورود اعتقادات غريبة مثل إمكانية التعايش مع السعالي فهي مصدر البركة إذا سكنت عنابر المؤن وحظائر الماشية والمطابخ وعن خلاسيات متعددة تنم عن هذاالخلط بوضوح، في المقابل نجد في الذاكرة الجمعية العربية توضعات أسطورية عديدة تفصح للدارس عن بيئة حضارية عربية راشدة،كون الأسطورة لا تصنع بين ليلة وضحاها ،فهي تراكم من الخبرات والمعارف لدى شعب ما ،وقد تتناقل إلى غير ه من الشعوب بالتثاقف وهذا برأينا ما جعل علماء ودارسي الميثيولوجيا ومنهم (شتراوس) ينسبون الأسطورة إلى التراث العالمي الإنساني بدل تخصيصها لشعب دون غيره ،وهذا الإسناد جائز علميا فهناك أساطير تخص شعبا دون غيره إلي جانب الأساطير الإنسانية التي اكتسبت صفتها العالمية ، بسبب انتقال ومداورة الثقافة عن طريق الانتقال بالترجمة والاختلاط التجاري وحتى الحروب فصاغتها كل جماعة بشرية بما يلائم بيئتها وثقافتها كما أن تخصيص الأسطورة لبيئتها لا يجافي العلم كما لا يؤدي إلى أذية فكرية فلكل شعب خصوصيته الحضارية التاريخية وثقافته التي تعبر عن كينونته،وبالتالي نعتقد أن الشعوب الهجينة والأمم المختلقة قد تتاجر بهذه المقولة لصالح التزوير التاريخي عبر الاتكاء على حضارات الأمم الحية فتصنع لنفسها تراثا وتاريخا وحضارة استنادا إلى هذه المقولات العالمية فالتوراة مثلا هو مجموعة أساطير مسروقة من البابليين،إذا نحن نرى من الأولى نسب الأسطورة إلى بيئتها وهذا برأينا يفسح المجالات الرحبة للباحثين لتصويب مسارات الانحراف المنهجي الذي يلح في الاشتغال به عدونا الصهيوني عبر اختلاق تاريخ وحقوق مرجعيتها الأسطورة المسروقة أو المختلقة.والتنقيب في ساحات وتحت أسوار المسجد الأقصى من أمثلة ذلك اللهاث البائس ومنها أيضا التوجه الجاد نحو تزييف الأسطورة العربية عبر دس الكتب الرخيصة في موضوعات التراث فجعلوا نسب بلقيس للجن, وخلقوا المسيح عليه السلام من عطسة آدم ,وكلما سمعت متحدثا يستشهد بعابد من بني إسرائيل ..الخ فذاك ضرب من الخِلاسية لليهود الدور الأساس بحشره في ثقافتنا .

الاسطورة والطوطمية

لم تدلنا الدراسات الميثيولوجية على وجود الطوطمية Totemism( تقديس الحيوان) بشكل واضح عند العرب , يشفع لزعمنا هذا انهم كانوا يتناولون لحوم هذه الحيوانات , بينما يكتفي الرب بالروح ،أما التقديس فهو نفعي لم يصل إلى مرحلة العبادة المطلقة . أكثر منه تحريم الحيوانات التي تضل فتلجأ إلى حمى الآلهة . إلا أن التجليات التي نستنتجها عبر دراستنا المتواضعة تفصح عن بعض الملامح التي لا نجزم بإسنادها الصريح إلى الطوطمية فندرسها على أنها تجليات حضارية للأسطورة آتية من منعكسات تاريخية سيما إذا علمنا أن الأسطورة في مداها الزمكاني عرفت في المرحلة الزراعية –حسب جل مصادرها –وأن تداخلا حاصلا بين المرحلتين الرعوية والزراعية يجسده المشهد الحضاري في الوطن العربي عموما (وأسطورة الراعي تموز, والفلاح أنكيدو) الجزرية،تؤكد هذا التداخل كما تطالعنا أسطورة حي بن يقظان الذي التقطته ظبية كانت فقدت ابنها فحنّت إليه وأرضعته في الوقت الذي أرادت أمه قمرة التخلي عنه،وهو بدوره أصبح يحاكي جميع الظباء وسائر الحيوان ,فقدمت فابولات خلعت على الحيوان خصائص بشرية جعلتها تتصرف كالإنسان وتنطق بالحكمة ,وعلى هذه الشاكلة نتتبع الفابولات في خرافات أيسوب الإغريقية وروايات كليلة ودمنة القرن الثامن الميلادي, أما أسطورة حي بن يقظان فهي لا تحاكي جلجامش أو أوديب لأنها معالجة عربية للفابولات نجد مثيلاتها أو ضروبها في الحكايات الشعبية عبر معالجة عكسية للداروينية في اسطورة المرأة التي نظفت ولدها برغيف التنور فمسخها الله قردة تناسلت منها القردة ومن ضروب هذا النوع من الأساطير منها ما يدعو إلى التحلي بالفضيلة كأسطورة (اساف ونائلة)الممسوخين إلى حجر بسبب فجورهما . وعلى هذه الشاكلة نجد في الحكاية الشعبية العربية المعاصرة مؤشرات تنم عن نضج حضاري مبكر, وتجد اسناداتها التاريخية في محاكاة غير منقطعة مع أساطير الجزيرة العربية في غزالي مكة الذهبيين ,وجمل طيء الأسود , والأفعى النحاسية التي كانوا يضحون لها ، وطائر العوف الذي يرادف السعد والفال المتعلق به ،أما نسر فقد ورد اسمه في المصادر السريانية, بصيغته الآرامية (نشرا) على أنه اله عربي عبدته حمير وهكذا : يغوث ,ويعوق, واليعبوب , وعرفت العرب الناقة السائبة وابنتها البحيرة والشاة الوصيلة والفحل الحامي فعظموها لانتاجها عشرة إناث , فأنكرها عليهم القرآن الكريم , وعرفوا اله دعوه (مطعم الطير) نصبوه على المروة وأهدوه الحنطة والشعير،وقدسوا حمام مكة،وبعد : فلنسقط أسماء العرب مثل : حيدرة وأسامة , بمعنى الأسد وأوس ونهشل بمعنى الذئب وكلثوم( الفيل) والحنش والأرقم (الحيات) وعكرمة (الحمامة ) وذر، وجندب . فضلا عن العديد من الأسماء المعاصرة التي لها دلالات أسطورية طوطمية مثل:صقر , وهيثم ، وليث ، وسواهم .إن بعدها الديني يمكن تأويله إلى كثرة ورود أسامي الحيوان في القرآن الكريم, وفضلا عن هذا تسمية سبع سور بأسمائها(9)ويبدو أن أبعادا أخرى لهذه ألا سامي مثل تسميتهم بأسماء الحيوانات من قبيل إعدادهم للحرب فقالوا: نسمي عبيدنا لنا ونسمي أولادنا لأعدائنا . أو اللجوء إليها حمية من الحسّاد لكي يعيش الأولاد وهذا الرأي هو الغالب بسبب تآزر شواهد داعمة تؤيده وتؤكده كاستعمال التمائم والخرز والحجب والتعاويذ ،لها مد لولاتها التي تستوجب الدراسة وتشكل حقلا خصبا أمام الباحثين في مجالات الميثيولوجيا وحفرياتها المعرفية فالتراث الميثي العربي بمختلف تكويناته من عادات ومعارف وحكايات وأسلوب عيش ونمط حياة وسواها نجده مؤهلا تماما لان يشكل الأرضية الملائمة لانطلاقة إعادة النظر بالصورة النمطية التي كوّنها المستشرقون لنا عنا .وبالتالي تنقيته من الخلاسيات والاقحامات الهجينة والمشبوهة .وختاما: لم نشأ نروي هذه الأساطير العربية لغاية التسلية والرواية لأننا نريد القول لمن تقمص فكرة إنكار الأسطورة على العرب : هذا غيض من فيض من أساطير العرب ويجب الاطلاع على تراث الأمم قبل إنكاره تعسفيا,إن القرآن الكريم أثبت وجود الأسطورة لدى العرب, فقد وردت عبارة (أساطير الأولين)في تسع آيات منه (10) ثم لنضع الباحثين والمهتمين أمام أسطورة عربية متكاملة لطرحها على مائدة البحث مثلها مثل نظائرها من أساطير الشعوب القديمة تلك التي حظيت بمكانة هامة في ثقافتنا وحيز مهم في الدراسات النقدية والتحليلية على حساب ارثنا الحضاري . إذا نحن أمام تراث ميثي عربي عريق يشكل منظومة معرفية تعكس أشكال عملية التطور الاجتماعي والتاريخي وترتبط بجوانب الأدب والفلسفة وتحفظ العادات والطقوس والحكمة والذاكرة الجمعية للأمة , فلندعو الباحثين ودارسي الميثيولوجيا المختصين إلى ايلاء هذا الجانب التراثي حقه من البحث المنهجي والتوثيق سيما أنه تراث غني بمفرداته المتنوعة وأصيل بماضيه المديد. والله من وراء القصد

المراجع والمصادر

1-) القرطبي ج13ص4,صحيح البخاري ج 4 ص 1692, البيضاوي ج2ص401,أبو السعود ج-6 ص203فتح القدير ج3ص494 , لسان العرب ج4ص363 ابن كثيرج7ص171 .

2-) القرآن الكريم : البقرة258,الأنعام 77+78 +96, +97الأعراف54,يونس5, يوسف4,الرعد2, إبراهيم 33,النحل 12+ 16 الاسراء78,الكهف17+86+95,طه130,الأنبياء33, الحج 18, الفرقان 45, النمل 24, العنكبوت 61,لقمان 29,فاطر 13, يس38+39+40, الصافات88, الزمر5+6, فصلت 37, ق39, الطور49, النجم 1, , القمر1, الرحمن5, الواقعة 75, نوح16, المدثر 32, القيامة 8+9, الانسان13, المرسلات 8, التكوير 1+2, ,الطارق3 الشمس 1+2, الانشقاق18, 88

3-) فلسفة الصمت –محمد السموري –دار المعارف حمص 2003

4- )الميثولوجيا عند العرب – محمد سليم الحوت – دار النهار بيروت 983 ص56+89+91 +97+10536

5-) مختار الصحاح / ج1 ص77 ( المنجد ص 191) .

6-) نظرية الشعر – القسم الثاني- تحرير محمد كامل الخطيب – وزارة الثقافة 1997-

7-) مجلة المعرفة السورية العدد395آب 1996(الخلاسية أزمة الفكر العربي ) مقال يوسف فجر رسلان ص 29

8-)البقرة , الأنعام , النحل , النمل , العنكبوت , العاديات الفيل

9-) تاريخ الله – الدكتور جورجي كنعان

10-)الأنعام 25,الأنفال 31, النحل 24, المؤمنون83, الفرقان5 , النمل68, الأحقاف17 , القلم 15, المطفف2

حواشي

 اللواب: العطش, استدارة الحائم حول الماء وهو عطشان لايصل اليه ( لسان العرب ج 1 ص745 ) ص559
 غمص: الغمص ما سال من الرمص, وهو وسخ أبيض يكون في مجرى الدمع من العين( المنجد)

 اللعباء: اسم سبخة في البحرين بحذاء القطيف , وقيل في الحجاز ,أو على طريق اليمن ويسمى لعباء كل واد سال( معجم البلدان ج1 ص223 )


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى