الأربعاء ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم محمد المهدي السقال

عبد اللطيف لن يحضر ليلة الدخلة

السماء غائمة والشمس مازالت كعهدي بها منذ خمسين عاما ,
تخجل من الظهور وفق مدارنا الصفيحي ,
كل يوم أفتح الكوة المطلة على المزبلة ,
فلا أجد التراكم إلا متناسلا أكثر,
يتحلق حوله السخرة من الأطفال, بحثا عما يحولونه قطعا نقدية في المساء , غير مبالين برائحة تزكم أنوفهم أو نفايات تهرق بقاياها على صدورهم ,
تماما كما كنت تفعل قبل ارتحالك إلى خالك في القرية ,
أحاول أن أتذكر العمر الذي تركتني فيه ,
أُفكِّر كثيرا في اللحظة التي ودَّعتَني فيها , وأمُّك تنتظر خلف الباب ,
من فرط الضّرّ الذي مسَّني بعد ارتحالك ,
أظلمتْ في عينيَّ الدنيا , تاركة للنسيان مساحة كبيرة بداخلي ,
أظن أن سنك ساعتها لم يجاوز العشر , سمعت في المذياع عن حادث محاولة الانقلاب الفاشلة , وأنت في الطريق لم تبلغ رأس الحارة ,
ثم سمعت لسنوات بعد ذلك عن تاريخ الحادث , فربطتك به ,
صرت إذا سألني أحد عنك , أذرف دمعة ساخنة ,
ثم أُذكِّر سائلي بحرقة الشوق إلى رؤيتك ,
يزْوَرُّ عنِّي ,
كأنِّي به يريد أن أفرح معه بذكرى الدم ,
بينما لم يكن يشغلني منها غير ندوب ما زالت تحفر في الوجدان ,
ساد الهرج والمرج في الحارة , وغلقت المنافذ إلى كل المدن الكبرى ,
قيل لي بأن المناسبة كانت فرصة للانتقام وتصفية الحسابات باسم الدفاع عن السلطة , أبيحت كل المحرمات , ما ظهر منها وما بطن,
أما أنا , فلم يتحرَّك فـيَّ ساكن , كان انشغالي برحيلك وحده همِّيَ الأكبر ,
بعدما طالت الغيبة وأخذت تتلاشى الصورة , بلغ إلى علم " القايد " ما أُحدِّث الناس به في شأن رحيلك يوم الانقلاب ,
طلبني على عجل ,
رغم عجزي عن الحركة بغير عكاز , لم يمهلني " المقدم " دقيقة واحدة ,
سعيت إلى جر لسانه لمعرفة سبب الاستدعاء , غير أنه ظل واجما طول الطريق ,
لم يزد على جملة واحدة حرفا :
القضية عندك حامضة
الحقيقة ,
ابتسمت بقدر انفتاح شفتيَّ المتعبتين ,
لكنني وجدتني بسرعة أحاول تذكر ما حدث لي مع العالم منذ أسبوع , لم أقبض إلا على الريح ,
وحين فاجأني " السيد القايد " بالسؤال عن حكايتي مع الانقلاب , ظننته يسألني عن ذلك اليوم , أين كنت ؟ ومع من كنت ؟
تصور يا ولدي أنه وضع يده على خده وهو يستمع إلي بإمعان ,
رجل السلطة بقده وقامته يصغي لروايتي عن موقع تواجدي ونشاطي ذلك اليوم ,
حدثه عن مجيئ أمك رفقة خالك " الفقيه " , من أجل انتزاعك مني بالقوة , بدعوى الإهمال الذي لحقك , بعدما توقفت عن العمل بسبب العجز ,
يمر عليَّ الزبائن في " الموقف " دون انتباه لوجودي , لم أعد أصلح لشيء ,
يعودني بعض الأصحاب في " البراكة " التي تأويني , تاركين خلفهم بعض الزاد من الخبز والحليب ,
وأثناء أحاديثنا , لا يحضرني إلا خيالك مقرونا بذلك اليوم ,
هذا ما قلته ,
لكنه لم يصدق حكايتي في البداية , و لم تنفرج أساريره إلا بعد تبادل نظرات مع " المقدم" الذي يبدو أنه زكى كلامي ,
و عدت مع الظهيرة , أخترق نفس الرائحة الكريهة , والشمس ما زالت تتأبى عن الكرم ولو بوميض شعاع يدفئ البرودة في أوصالي,
ليتك تأتي يا " عبد اللطيف ",
فلديَّ كثير من الحكايا عن الوطن الذي تركتني فيه ,
كم أتمنَّى أن تعود ,
إن لم يكن لإنقاذي من الغربة التي تمزِّقني ,
فلْيكن من أجل رؤية وجهك مرة واحدة قبل مماتي.
أبوك
عبد الله

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى