الأربعاء ٣١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم عبد العزيز غوردو

الفزاعــــة

الليلة الأولى:

لا أريد أن أنام: سأظل هكذا مفتوح العينين، جاحظهما، محملقا في كل شيء كمثل مصباح بليد موقد ليل نهار...
لا أريد أن أنام... يقولون بأن الليل صنو الموت، من يدريني إذن لعلي إذا نمت ألا أستيقظ بعدها أبدا؟ من يدريني أني لو غفوت مجرد برهة أنها ستكون النهاية، سيكون آخر عهدي بالنور... بالحياة... بالوجود...
لا أريد أن أنام... سأظل هكذا مفتوح العينين، جاحظهما، أنظر ما تفعل الكائنات بعضها ببعض: سأراقب دبيب كل نملة وسقوط كل ورقة توت أو رمان... سأتفحص كيف تغرز الأوابد مخالبها الحديدية في اللحم الطري، وكيف تبتلع الحيات صغار الضفادع المائية... كيف تخون أنثى طيور الجنة زوجها مع عشيق آخر، وكيف يبكي التمساح وهو يهصر بين شدقيه بقايا فريسته...

سأراقب كل شيء، سأفترس كل شيء بنظراتي: لن تغرز الأوابد مخالبها الحديدية في اللحم الطري إلا تحت نظراتي، ولن تخون طيور الجنة زوجها مع عشيقها الغجري إلا تحت نظراتي، ولن يبكي التمساح إلا وأنا أحملق فيه، أتأمل برودة الدم التي يهصر بها العظام كما الأغصان اليابسة...
لن تغفو لي عين ولن أنام، سأتأمل كيف يسرق القط طعام ولي نعمته... وكيف ينبح الكلب في وجه كلب الجيران، فقط لأنه غريب عن الديار... وكيف يضاجع الذئب أخته التوأم دونما مراعاة لعلاقات الدم والقرابة...
سأراقب كل شيء ولن أنام... سأراقب كل شيء وأصمت: فقد مللت الكلام... سأظل هكذا طوال النهار... وفي الليل، آه من الليل، سأسامر ظلي... أختلي مع ضميري أعذبه وأقض مضجعه: أحكي له عن كل ما رأيت طول النهار، أحكي له عن مخالب الأوابد الحديدية، وعن دموع التماسيح، وعن عشق طيور الجنة الذي تضرب به الأمثال... هكذا سأعذب الضمير وأرعبه... سأكشفه أمام نفسه... تحت نظراتي سأجرده من ثيابه الكثيرة كالبصل: سأعريه قشرة قشرة، وكلما نزعت عنه غشاء إلا واحمر خجلا، وأنا أفترسه بنظراتي، أرعبه بحكاياتي... بكل ما رأيت طول النهار... وكلما حكيت له حكاية إلا وخلع ثوبا من ثيابه الأربعين... مثل البصل... وفي الأخير، وإذ يتعرى تماما لن أجد أي شيء، فقط كومة من الثياب كانت فوق بعضها البعض... فقط كومة من الثياب كانت تخفي بعضها بعضا... ولا شيء بالداخل غير العفونة...


الليلة الثانية:

انقضى الليل طويلا... كئيبا ثقيلا... وأنا ما زلت أسامر ظلي الذي بدأ يتلاشى مع طلائع النور رويدا رويدا...
ما زلت أرفض النوم وأجحظ بعيوني في كل شيء حتى لو كان الظلام... سأراقب كل شيء وأصمت: فقد كرهت الكلام...
تعتقد الأوابد أن عباءة الليل الكحلية تخفي جرائمها... لكني أجحظ في الظلام فأفضحها: تفترسها مقلتي فتكشف ما يعجز الليل عن إخفائه: هاهنا تنقض بومة بشعة على جرذ صغير فزع يحاول الفرار دون جدوى... وهناك يتسلل ثعلب مخاتل بين فراخ الدجاج فيثير فيها الرعب والقشعريرة... وهذا الأسد الجبار يلغ بلسانه داخل أحشاء مهر جريح، بينما يتربع عقاب ضخم على أشلاء جيفة قذرة يبعثرها بمنقاره الناري... أما أميرة النحل فتضاجع عشيقها في ارتخاء... غدا سيصبح صريعا على شباك الخلية...
سأظل أجحظ في الظلام... تفترس مقلتي ما يعجز الليل عن إخفائه: تكشف أغشية البصل حتى النخاع... تعريها... وبعد قليل ستنقضي خلوتي، سيطلع النهار... لكنه مثل الليل مليء بالأوابد، وأنا سأتأملها وهي تستغرق وقتها في نهش بعضها بعضا، بهدوء... والساعات تنقضي بهدوء: تنطفئ مثل فقاعات الصابون الفارغة... وكلما انقضت ساعة إلا وطرقت مسمارا جديدا في نعشي...

سأظل هكذا، هادئا، قابعا في مكاني، ولن أوذي أحدا: حتى هذه الذبابة التي ترتطم بزجاج نافذتي باحثة عن مخرج... عن منفذ للخارج... فيستفزني طنينها... لن أحرك أي ساكن لإيذائها، سأتركها تبحث عن هذا "الخارج" وهي لا تعلم أنها ستسحق بمجرد عبورها لهذا الزجاج ووجودها بهذا الخارج الذي تجهد نفسها للدخول فيه... سأتركها تختار مصيرها بنفسها ولتتحمل مسؤولية ما اختارت... أما أنا فيكفيني أنني سأظل هكذا قابعا في مكاني ولن أؤذيها...

الليلة الثالثة:

لم أعد أستطيع الاحتمال: عيناي تسدلان الستار بتثاقل وأنا أحاول فتحهما... لم أعد أطلب منهما الجحوظ، فقط أن تظلا مفتوحتين كي لا أنام... لكني مهدود كالحطام... عيناي لم تعودا تسعفاني بعد كأنهما ليستا عيني... وأنا أرفض أن أنام... لكنهما تسدلان الستار: من يدريني أني لو طاوعتهما للحظة واحدة أنها ستكون النهاية ولن يرفع الستار بعدها أبدا... سينهشني الموت سيد الأوابد...

لكنني لم أعد أستطيع: هناك دائما فرق بين ما نريد وما نستطيع... سأغمض عيني فقط، لكني لن أنام... سأستغرق في التفكير كيما أحطم أشلاء الظلام... لكني بدل أن أستغرق في التفكير... استغرقت، دون شعور مني، في النوم... وتقاذفتني الأحلام:
في عمق الحلم رأيتني أتجول داخل حقل شوفان، عاري الرأس حافي الأقدام... في الطرف الآخر للحقل تنتصب فزاعة ضخمة، متشحة بالسواد وهي تمسك منجلا مصقولا يتطاير الموت منه... تماما كما كان "هوغو" يصور الموت في مؤلفاته... وأنا عاري الرأس حافي الأقدام: أطأ الشوك فيدميني، والحقل فارغ إلا مني... حتى الطيور هجرت هذا الحقل المشؤوم... وحدها الفزاعة المرعبة تنتصب قبالتي لا تحرك ساكنا... لكنها تشدني إليها بجاذبية قوية... أريد أن أقاومها، أغرز أقدامي في الأرض، لكنها تقتلعني من جذوري كأزهار الأقحوان، وتسحبني إليها... هكذا، خطوة خطوة... تشدني إليها بينما تنتصب هي دون تحريك أدنى ساكن، والمنجل الصارم بين يديها... أحاول أن أسير في اتجاه آخر لكني لا أستطيع... شيء ما يدفعني نحوها بقوة، ورجلاي داميتان كأزهار الأقحوان... لم يعد بيني وبينها غير مسافة قصيرة... خطوة أو خطوتان... عيناها الناريتان أوقدتا في وجه ليس بوجه، ودثارها الفولاذي كأنما هو قطعة منه، أو امتداد له! وفجأة، وبسرعة البرق كمارد من الجان، لم أشعر إلا والمنجل السحري يلف عنقي بقوة: يحتز رأسي البائس الذي تدحرج مخضبا بدمائه... وبقيت عيناي في محاجرها تحملقان في جسدي المترنح تارة... وتفترسان الفزاعة التي عادت إلى وضعها الأول الساكن، تارة أخرى... ثم صرخت...

استيقظت مفزوعا من النوم وعدت أجحظ بعيوني في جوف الظلام... لست أدري كم استغرق هذا الكابوس البشع... خيل إلي للحظة أنها كانت النهاية فعلا، لكني طردت النوم عن مقلتي، نفضت الموت عن جفوني، وعدت أفترس كل شيء بعيوني...

الليلة الرابعة:

هذه الليلة تكرر الكابوس البشع عندما تعبت وصرعني النوم: حقل الشوفان... ورجلاي داميتان... والفزاعة المشؤومة احتزت رأسي بضربة قوية من منجلها الصارم بعد أن جرتني إليها... تدحرج رأسي ثم صرخت... استيقظت مفزوعا وبدأت أفترس كل شيء بعيوني...
وفي الليلة الخامسة تكرر الكابوس أيضا... ثم في الليلة السادسة، تكرر بنفس التفاصيل والحيثيات: حقل الشوفان... حقل الشوفان المشؤوم الذي هجرته الطيور... وفزاعة الأحزان... ورجلاي داميتان كأزهار الأقحوان... ثم رأسي الذي تدحرج تحت منجل الشيطان...

الليلة السابعة:

خرجت من الجحر الذي كنت فيه... مثل تلك الذبابة، انطلقت للخارج باحثا عن مصيري: إن بقائي داخل جحري يعني صراعا جديدا مع النوم اللعين وأنا اكتفيت من الصراع والكوابيس... بعد أن سرت مدة من الزمن، وجدتني أمام جحري من جديد: عندما تسير في مضمار مغلق فكلما ابتعدت عن نقطة انطلاقك إلا واقتربت منها في نفس الوقت... هكذا أخذت طريقا آخر مختلفا ومشيت الهوينى... ثم مشيت... خيل إلي أنني أمشي في هذه الطريق من سنين طويلة، وباستثناء هذه الخيالات فرأسي فارغ، خال من كل تفكير كالفقاعة... وحدها عيوني تبحث عن شيء تفترسه... وفجأة...
تسمرت في مكاني: وجدتني داخل حقل شوفان... تماما كما في الحلم اللعين... وفي الطرف الآخر للحقل تنتصب فزاعة ضخمة متشحة بالسواد وهي تمسك منجلا صارما ولا تحرك ساكنا... تماما كما في الحلم اللعين... حاولت أن أغرز أقدامي في الأرض لكنها اقتلعتني من جذوري كأزهار الأقحوان... حاولت أن أسير في اتجاه آخر دون جدوى... جاذبية قوية تشدني إليها وتسحبني، ورجلاي داميتان كأزهار الأقحوان... أصبحت الآن قريبا منها، حملقت فيها: في العينين الناريتين والوجه الذي لا يشبه الوجه... تماما كما في الحلم اللعين... والمنجل الصارم بين يديها... جف ريقي... جحظت عيناي فزعا... بعد قليل سيتدحرج رأسي مخضبا بدمائه... لم يطل انتظاري: هوت علي بمنجلها كالصاعقة... صرخت...
استيقظت مفزوعا وبدأت أفترس كل شيء بعيوني...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى