الخميس ١ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم إبراهيم مشارة

الساحة الحمراء

La langue française utilise neuf espèces de mots , cinq mots variables , quatre mots invariables……

كتب ذلك بخط واضح جميل على اللوح الأسود واستدار نحونا ساردا علينا الكلمات المعربة والمبنية في اللغة الفرنسية قبل أن يدونها وبعضنا كان يخوض في الحديث مع زملائه أو تائها سارحا خارج القسم وآخرون كانوا يمقتون هذه اللغة وأهلها و لا يعرفون منها كلمة ولا هم يحبون أن يعرفوها فقد وقع في روعهم أنها لغة المستعمر وأن أهلها لا خلاق لهم ثم هي لغة خليقة بمن يعيش عيشة هنية ويرتدي لباسا نظيفا أنيقا وأهل المدن هم أهل هذه اللغة ولذلك أعرضوا عنها وعن من يفهمها ويحبها وكان من هذا الفريق الكثير في القسم فلا يفوته أن يشوش إن كان يملك القدرة على ذلك أو يتيه في القسم أوينشغل بحل مسألة من مسائل الرياضة أو إعراب جملة على أن المدرس توقف فجأة عن إلقاء الدرس واستدار نحونا قائلا:

 يا بني داب ( حمار ) تعلموا الرياضيات والعلوم و ادرسوا اللغة الإنجليزية ( لغة العلم ) أمريكا غزت القمر بالعلم كفّوا عن حفظ دروس التاريخ والجغرافيا تسعة عشر من عشرين في التاريخ واحد في الرياضيات مهزلة أفهمتم يا بني داب ؟

وكان كلا مه هذا الذي انتهى إلى مسامع مدّرس التاريخ قد أغضبه ونال منه وحملها ضغينة له في قلبه على أنه لم يقل شيئا يلتقيان فتنكسر النظرات و يتنافر القلبان وينأى كل عن صاحبه!

وسيدي الطاهر كما كان يدعى في الحيّ هو مدرس اللغة الفرنسية رجل جاوز الأربعين بقليل طويل القامة مع نحافة ظاهرة و شعر أشقر و سحنة محمرة عيناه رماديتان كأنهما انتزعتا من سماء باريس أما الشارب فكان يقصه و يرعاه كلما حلق ذقنه . لا مرية أن ابتسامته كانت أجمل مافيه تلعب بقلب الصغير والكبير وتفعل فعلها فيه علىأن تلك الابتسامة تكشف عن أسنان صفراء فعل فيها التدخين فعله ومن عادته إذا مشى وضع يديه إلى ظهره المنحني قليلا ، كان اجتماعيا كثيرا مرحا ودودا يحب الحديث معه الكبار والصغار الرجال والنساء إذ يحدث أن يمر في زقاق من أزقة الحيّ فيبتدره طفل :

 صباح الخير سيدي الطاهر

فيرد مبتسما :

صباح الخير ألم تذهب إلى الكوليج ( المدرسة ) ؟

فيجيبه الطفل :

 عند العاشرة

فيلقي عليه موعظة صغيرة تناسب سنه :- اقرأ واجتهد لا أفضل من الدراسة هي المستقبل لا تخالط الكسالى و البلداء حتى لا تكون في المستقبل ( لصّ حقول ) أليس كذلك ؟

ويكمل مشواره حتى إذا لقي أحدهم عائدا إلى البيت وقد ملأ قربة الماء من العين العمومية ووضعها على ظهره يسير بها في مشقة وهو يسرع في مشيه فيبتدره :

 المختار كان الله في عونك دائما كما عهدتك قويا جلدا " هوست " ويمد ذراعه و قد عقد يده مضمومة تعبيرا عن الجلد والقوة حين العمل .

وتخرج عجوز لما سمعت كلامه من بيتها :

 الطاهر صباح الخير جاءتني رسالة من فرنسا كالعادة من صندوق التقاعد ( فرنكات الشيخ الله يرحمه ) تعال اقرأها واكتب لهم ردا كنت في بالي هذا الصباح حتى ساقك الله إلي ّ !

فيهش الرجل لها و يبش و يشفع ذلك كله بابتسامته الحلوة التي تبدي أسنانه الصفراء .

 ن خديجة هات الرسالة وأحضري ورقة .

ويجلس الرجل عند الباب وقد أحضرت له العجوز ما أراد وفنجان قهوة حتى إذا قرأ الرسالة أعد لها ردا وسلمها إليها وهو يسل يده سلا إن ألحت ن خديجة على تقبيلها!

عاش سيدي الطاهر شطرا من شبابه في بلاد الروس دارسا في بعثة قيادة وإصلاح الطيران الحربي و تنقل خلالها في بعض دول أروبا فاكتسب معرفة بالغرب ثقافة وأخلاقا وتقاليد واستفاد من صداقات كثيرة وحين عودته إلى بلده أبى في إصرار أن ينسجم مع صرامة الكلية الحربية وانضباطها فهجرها مفضلا البقاء في بلدته بعد أن يئست تلك الكلية من استدعائه بالإلحاح أو إحضاره بالقوة و معاقبته فسرح بعد أن عز الإمساك بالشدة أو بالإحسان وما كان ينبغي لمثله أن يظل بلا عمل وهو أب لحزمة من الأولاد وأمه تعيش معه فلاذ بمتوسطة البلدة مدرسا للفرنسية وما كان أيسر التعليم في ذلك الوقت تذهب إلى المدير وتقدم أوراقا فإذا أنت في الغد تصبح مدرسا للفرنسية أو الإنجليزية و أنت حامل شهادة في الرياضيات أو مدرسا للتاريخ وأنت حامل شهادة في الكيمياء وما كان المدرس يصطدم بعقبات خاصة من يعلم اللغات والجميع من التلاميذ يكادون يزهدون فيها وأيسر السبل أن يكلف تلامذته حفظ تصريف الأفعال في جميع الأزمنة و يقضي المعلم العام ناعم البال مستريحه !

أما سيدي الطاهر فقد أقبل بنية العمل وذلك بحسن تدريس و تعليم الفرنسية لأبناء البلدة لكنه وجد من التلاميذ التثاقل ومن البيئة اللامبالاة حد الإعراض فألقى الحبل على الغارب مكتفيا بالنزر اليسير اليسير !

تناثرت أوراق الخريف مصفرة ونحن في الدرس الأول وتساقط الثلج كأنه قطع من القطن محولا البلدة الجبلية إلى قرية من قرى جبال الألب ومازلنا في موضوعنا الأول وذاب الثلج وغردت الأطيار وأفاقت أرض زمورة من سباتها مكتسية حلة خضراء موشاة بالزهر وأزهر اللوز كذلك ونحن في سرد كلمات الفرنسية المعربة والمبنية ويكاد العام ينصرم والفلاحون يهرعون إلى حقولهم يحصدون القمح و الشعير و يهيئون البيادر ونحن في درسنا الأول وربما انتقلنا إلى تصريف فعل في جميع الأزمنة وعدنا إلى ذلك الدرس عودة المهاجر إلى وطنه !

وربما أقبل علينا الأستاذ صباحا فراودنا عن أنفسنا مغريا إيانا بلعب الكرة عوضا عن الدرس و كنا نستجيب له فرحا وشوقا :

 تلعبون مقابلة أم تدرسون ؟

فنجيب على الفور في صوت واحد :

 ماتش ماتش

فيرد مبتسما اخرجوا إلى الساحة و ينادي عمي أحمد حارس المتوسطة و القائم على شؤونها طالبا منه إحضار كرتين إحداهما للبنات والأخرى لنا ويوزعنا إلى فريقين و يلعب هو مع فريق ضد الآخر أما البنات فينتحين بعيدا يلعبن كرة اليد حتى تنتهي حصة الفرنسية و هي ساعتان !

و الغريب أن ذلك يحدث على مرأى و مسمع من مدير المتوسطة دون أن يحرك ساكنا أو يسكن متحركا !

وربما طلب مني أن أذهب إلى البيت لأحضر له قدحا من اللبن أو الحليب الرائب وكسرة خبز أحملهما إليه فرحا بخدمته لأنه كلفني بالمهمة دون غيري ولم يكن ذلك لسبب إلا لكوني أسكن قريبا منه على أن هذا الدرس الذي يستمر عاما كانت تتخلله المواعظ والنكت والتشهير ببعضنا والحكايات عن بلاد الروس وكنا نعرف شيئا عنها من مدرسنا عن عادات أهلها والساحة الحمراء وشراب الروس للفودكا مغالبة لقسوة المناخ واستجلابا للنشوة و الدفء عرفنا ذلك كله منه وسط قهقهاتنا إن حكى لنا نكتة أو شهر بأحدنا لقلة نظافته أو إهماله هندامه وكان يتهرب من تصحيح أوراق الامتحانات متناسيا إياها في بيته مختلقا الأسباب مستغفلا إيانا بنكتة أو تغيير الموضوع حتي إذا أكثرنا عليه ذهبت إلى بيته بأمر منه وأحضرت له الأوراق جلس إلى المكتب وشرع يصححها وأي تصحيح ؟ ينادي على أحدنا فيقوم مغمغما : حاضر، ينظر المدرس فيه طويلا ثم يقول :

 قذارة قامة طويلة بلا فائدة حفاظ تاريخ و جغرافيا لماذا تضع قدميك في هذه النعل المطاطية المنتنة. فتؤذ يهما ؟ واحد (آن) صدقة و يرسم واحدا في طول الصفحة على الهامش و نقهقه على ذلك طويلا وكثيرا ما كان يدور بين الصفوف يعابث الفتيات أو يحكي معهن و بعضهن فاتنات جمعن بين سحر الخدود فتنة القدود وبروز النهود وتزيدهن البسمة في خفر جمالا وقد وضعت إحداهن في شعرها وردة أو ضحكت الأخرى ضحكة بدت مغرية وكان كل واحد منا مفتونا بواحدة ينظر إليها طويلا وربما لا يكلمها لأنها تزدريه أو يغني أحدهم في صوت كأنه الهمس وهو يضرب بأصابعه على الطاولة : سيري سيري يالرومية أنا نبغي العربية ولابد أن يحرص كل واحد على حفظ سره متقيا الوشاة من تلامذة القسم إذ ربما علم به أهل الفتاة فجاء إخوتها أشبعوه لكما وركلا وربما أرسل إليها برسالة أو وضعها لها في درج الطاولة مستهلا إياها بتلك العبارة التي حفظها العشاق وتداولوها في مراسلاتهم الغرامية ( بسم الله مسبب الأسباب وخالق آدم وحواء من تراب وجاعل الرسالة رسولا بين الأحباب .... ثم يبوح لها بحبه و سهاده) .

و كان المدرس يدور بينهن وربما وضع يده على عنق إحداهن مثبتا فيها نظراته

 أدق لك المنافس! وتخجل الفتاة مبتسمة في خفر ويعود إلى خطبه هذه المرة

 اسمعوا الاشتراكية نبيلة تحرص على العدالة الاجتماعية الكل يعيش في كرامة الدولة هي المالك والناس أجراء لا طبقية لا ظلم الناس سواسية كأسنان المشط ابن الفقير يمكنه أن يدرس ويتخرج من موسكو أو باريس أو واشنطن طيارا أو طبيبا أو مهندسا كل ذلك على نفقة الدولة أليس هذا رائعا ؟ عيبها في بلاد الروس أنها تزدري الأديان وإذا فقد الانسان الإيمان فقد المعنى في هذه الحياة .

وكذلك درسنا الفرنسية عبثنا ما شاء الله أن نعبث ولعبنا الكرة ما شاء الله أن نلعب وكنا نحب سيدي الطاهر حبا منقطع النظير ونفتقده إن غاب عنا يوما

وقد لازمته تلك العادة منذ عاد من بلاد الروس أن يشرب أحيانا دون أن نلاحظ ذلك أو ربما حشا السيجارة بشىء بني فيهتز جسمه نشوة ويستمرأ الحديث والضحك وقد ألح عليه بعض كبار الحي أن يدرسهم الفرنسية دروسا خصوصية في بيته القديم المتهالك واستزدنا نحن من ذاك الدرس الأول فكان الكبار يأتون مساء بمعاطفهم وبرانسهم وأقلامهم وأوراقهم يدخنون و يستهلكون سعوطا ويبصقون خلسة وسرعان ما يتركون الدرس ليخوضوا في حديث عن أهل البلدة أو عن الروس ، وعاداتهم ويقهقهون طويلا ثم نأتي نحن بعدهم نستكمل ما تركوه على أن حدثا جللا حدث ذات مساء كنا في حجرة الدرس التي تقع في الطابق الأول أرضيتها من الطين و القش والأحطاب السوداء المتآكلة ونادت الأم على المدرس فنزل إليها ملبيا فاغتنمنا الفرصة وقمنا نعبث يمسك هذا بخناق الآخر و يضرب ذلك زميلا له برجله فيرد عليه باللكم والسباب حتى كادت الأرض أن تقع من تحت أقدامنا المتصاكة وأحدثنا فيها ثغرة كبيرة فتناثر الغبار وأشرفنا على المدرس وأمه من عل وهما يتحدثان والغبار يذرذر عليهما وصعد إلينا هائجا مرغيا مزبدا لاعنا إيانا والدروس الخصوصية :

 بني داب اخرجوا في لعنة الله اللعنة على اليوم الذي رأيتكم فيه لم تدفعوا أجرة لقاء الدروس ثم زدتم فخرقتم السقف لا تروني وجوهكم !

و من ذلك اليوم توقف عن تقديم دروسه في البيت و بعدها بقليل ترك التدريس إلى غير رجعة !

ابتسمت له الدنيا قليلا بعد عبوس وأنشأ مخبزة وعرفت حاله يسرا بعد عسر على أنه في تلك الفترة عرف بصحبته لرهط يحيون الليالي ذاكرين مترنمين كل ليلة في بيت أحدهم ينشدون أشعار للعلاوية ويسمون اجتماعهم هذا جمعا حتى إذا حمى الوطيس وأحسوا أن أرواحهم لتوشك أن تحلق بهم في الآفاق فتضيق عنها أجسادهم وأن تلك الأجساد انتشت بذلك الإيقاع وتلك الغنة فيقوم كبيرهم يتمايل يمينا وشمالا ورأسه يهتز والقوم ينشدون بصوت واحد :

هيا يا طبيب الأرواح

داوي لي قلبي و أجراحي

هــــيــا يا طبيب

ثم يقوم الجميع يهزون رؤوسهم والعرق يتصبب على وجوههم حتى إذا نال منهم العياء جلسوا رافعين سباباتهم مغمغمين : حي دايم واحد!

ويحضر المسفوف بالزبيب و الرائب أواللبن ثم الشاي والقهوة وقد استأنس سيدي الطاهر بأولئك الرهط يحضر كل ليلة بقشابيته البنية اللون المنسوجة من وبر البعير تقيه من البرد و تيسر له أن يلف سجائره التي ربما حشاها بشىء بني يزيده أنسا على أنس ونشوة على نشوة ومسرة على مسرة !

و ابتدأ الصلاة ثم دأب عليها غير أن الأفق اغبر والرياح عصفت، والشمس اختفت من وراء حجاب زمجرت السماء مرعدة منذرة بالصواعق و كان كل واحد يلوذ بجذع أو يتعلق بفنن أو يختفي في داره منذرا نفسه و غيره بأوخم العواقب كان السحاب بالنسبة إليه جهاما يقول لك هامسا : إذا حمل الوادي ما تبقى فيه غير حجارته، وأهل البلدة انقسموا فريقين أحدهما رأى الربيع وشيكا كانت السنون المنصرمة مخاضا يبشر بميلاده كل شىء يحتاج إلى زمن والله خلق الأرض والسماوات في ستة أيام وتهيأ هذا الفريق للربيع تخفف من لباسه مكتفيا بالأبيض و قد أعفى كثيرون ذقونهم من الحلق وأما الفريق الآخر رأى الربيع وهما لن يحمل لا عشبا ولا ثمارا غير السراب وفي كل عام ربيع يأتي وفق سنن الطبيعية الصارمة والله الذي فتق السماوات والأرض وقد كانتا رتقا وأعطى الأرض كينونتها واحد لا شريك له واختلف الفريقان إلى حد الخصام و السباب وربما داخل البيت الواحد من يؤمن بالربيع ومن يراه مجرد سراب!

وآمن سيدي الطاهر مدرسنا السابق بالربيع لقيني مرة وكان يحادثني ويناقشني وقد صار يصطنعني صديقا وكم كنا نتناقش حول نظرية التطور والمادية التاريخية واللاشعور وكنت مزهوا وأنا أرى صحابي والكبار يفتحون أفواههم عجبا حين أذكر أسماء غريبة كسان سيمون فرويد بافلوف وداروين ولا يخفي البعض امتعاضهم فيرد أحدهم : أعوذ بالله من تلك الأسماء أعداؤنا و أعداء نبينا " مافرطنا في الكتاب من شىء " لكن هذه المرة أغراني بالربيع وراودني عن نفسي أن أتخفف من لباسي وأستعد له قائلا :

 اسمع منذ عشرين سنة يأتينا الحمام الزاجل من جهة مشرق الشمس يحمل إلينا رسائل أخوة من أحبة القلب أنارت بصائرنا و أزالت غشاوتها كان يغافل الحارس ذا النظرة الصارمة والشنب المنضد وقد كنا جديانه يذهب بنا إلى المرعى والكمامة على فم كل جدي شهد الله أنه تعهد المرعى فأخصب لكن ثلجه الاصطناعي غطى قرميد كل بيت شمسنا الحارة لم تذبه و ظل الحمام الزاجل يتردد علينا من تلك الجهة والحارس الآخر يجلس في حضن فتاة شقراء عيناها في زرقة البحر والخد أسيل أبيض و الشفتان في حمرة الكرز إنه حارس أنيق متعطر يحب الشكولاطة كثيرا ويؤمن بكرامات الأولياء لم ينكر تردد الحمام الزاجل علينا بل صار يجلسه في حضنه ويداعب منه الرأس بأنامله المعطرة ويتركه يطير حاملا إلينا رسائل الأحبة الميلاد يوشك أن يتم هذا العام والحجر الذي رفضه البناؤون سيكون حجر الزاوية الأغصان برعمت والثلج يوشك أن يذوب في رأس الجبل فيجري الماء سلسالا مطمئنا والأرض تستعد لأن تزهر وتخضر، إنه الربيع أتذكر تلك الترنيمة التي كنا نلاقي بها الربيع ونحن صغار مع أمهاتنا :

 حاجينا و جينا

لاقينا الربيع وجينا

لأنتم دخان الكوشة لحنا محارم بوشوشة

سيحمل الربيع الخير للناس

وستضيق الأرض بالجديان والحملان بلا كمائم الناس سيشبعون وسيدخرون القوت وسيشعرون بالأمان حقا لا أحد يظلم الآخر وسيكونون سواسية حقا في حضن هذا الربيع تلك الأفنان التي حطت عليها الغربان والبوم ستطير مع تلك الغانية الشقراء لتعود الأطيار في صحبة اليمام و الحجل مالئة أغصان تلك الشجرة على أن العاصفة ازدادت حدة واحتد قصف الرعد والبرق ومضيه يكاد يذهب بالأبصار، الريح تسمع لها صفيرا كأنه عزيف الجن والأفق امتلأ قسطلا وعثيرا أما الناس فبعضهم ينتحب وبعضهم يصمد مبشرا بالربيع، والبعض الآخر يراها سحابة صيف وظل سيدي الطاهر يبشر بالربيع يتفقد الأرض أن تخضر و الماء أن يسيل جداول والثلج قد ذاب في رأس الجبل لكن العاصفة صارت لعلعة و صليلا واحمر الأفق وجرى على الأرض شىء قاني حولها إلى ساحة حمراء غيبت تلك العاصفة الكثيرين إلى حيث لا أوبة وكان مدرسنا منهم ولم تهدأ إلا بعد لأي! القلوب واجفة والأكباد راجفة العيون دامعة والأصوات المتشنجة اجتمعت في صوت واحد مبحوح :

 الحمد الله قدر الله وما شاء فعل لامرد لقضائه هكذا ولا أكثر!

وعاد سكان البلدة يحدقون في أفنان تلك الشجرة مختلفين في رحمة متجادلين في مودة حول تلك الأطيار رآها البعض غربانا وأصر البعض على أنها اليمام وأقسم الآخرون أنها نسور وهزأ بعضهم الآخر منهم ومن قوة أبصارهم أن كانوا لا يعرفون طائر الكناري من النسر وانصرف آخرون متعللين أن بقية من عثير تمنعهم من الرؤية الصحيحة ومازالوا كذلك يختلفون من حين لآخر على أن مشقة الحياة و مغالبة تصاريف الأيام و منظر الأفق المحمر والشىء القاني الذي جرى على الأرض عوضا عن الماء المنساب جداول إذ يذوب الثلج في رأس الجبل ينسيهم ذلك كله التحديق في تلك الشجرة والاختلاف بشأنها !

أما سيدي الطاهر فلم ينسه أحد بل يذكره كل واحد كلما دق جرس الكوليج الضخم دون أن ينسى ذلك الدرس الوحيد والجميل وقد يحكي لك أحدهم نكتة سمعها منه أو قصة قصها عن بلاد القوقاز أو ذكرى من الدانوب أوأعاد على مسامعك بعضا من ألفاظه : أدق لك المنافس، هوست. وأنت اليوم إذا سألت في زمورة أحدا عن الكلمات المبنية Les mots invariables يجيبك عفو الخاطر سيدي الطاهر!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى