الخميس ٨ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم إبراهيم مشارة

عـــــــفــريت الإنــــــــــس

شهر ماي في البلدة من أمتع شهورها لا تخاف فيه من زمهرير الشتاء ولا تسأم فيه من قيظ الصيف، ترتفع الشمس بعد الشروق شاقة صفحة السماء كعادتها ولكن في هذا الشهر تفيض على البلدة من ضيائها وتغدق على انسها وحيوانها من دفئها، ولا تكلفهم من الأمر رهقا فيخف الفلاحون إلى حقولهم باكرا ويلحق بهم أولادهم بعد الانصراف من الكتاب ولا يعودون إلا والشمس قد أنهت مداومتها وعلى ظهورهم أو ظهور دوابهم محصول اليوم من الغلال والأولاد تراهم فرحين بباقات الورد التي جمعوها من الحقول ويقبل الليل بارا عطوفا محتفظا بقسط من دفئ النهار ليوزعه بالقسطاس المستقيم على الأحياء حتى البكور لولا نسمة الفجر الباردة، وقد أشرق القمر بدرا فبدا كوجه آدمي تميز منه العينين والأنف فاستأنست النجوم بصحبته واستطاب لها السرى وقد أنار صفحة السماء الدامسة ومن حين لآخر تهب نسمة خفيفة يستجيب لها الشجر بحفيف أوراقه غير أن هبة النسيم تختلط برائحة النبات وروث البهائم ورائحة العلف فتستسيغها النفس وينبسط لها القلب فيطمئن الواحد إلى عطاء الأرض وبركة الحياة، في هذا الشهر تبدأ حركة الناس في الليل للسمر وتستمر حتى آخر الصيف ولا يعودون إلى بيوتهم إلا والليل قد انتصف ولا تشذ أمي عن أسر الحي تصطحبني معها - وما شب عمرو عن الطوق بعد – إلى زيارة بعض الأسر القريبة وأحيانا نزور بيت الحنفي الذي يستقر في حي يقع على أطراف البلدة وهذا البيت صاحبته امرأة عجوز تعيش مع بنتيها وكانتا في سن الزواج، يغشى الناس البيت من كل حدب وصوب فالعجوز يأتيها هاتف من الجن"جلجال" يخبرها بمصائر الناس وأرزاقهم وأقدارهم كما يعتقدون ولا مشغلة لهم إلا بهذه المسائل الثلاث، فلا حرج أن تكن أمي للعجوز المودة وأن تخصها بالتعظيم ولا تذكرها إلا وضمت يديها كأنهما مغلولتان معقبة " مسلمين مكتفين" وقد سهرنا الليلة في بيت الحنفي وسمعنا من جلجال ما يطمئن أمي إلى النجاح في مشواري الدراسي وعن عودة جدي الوشيكة من ديار الغربة بعد غياب متصل دام أكثر من عشرين سنة، وقد قطع القمر نصف المشوار وانتصف الليل وهدأت البلدة إلا من نباح كلب أو نهيق حمار أو هبة قوية لوطواط يفرقع لها الهواء أو نقيق ضفدع وظلال الأشياء قاتمة يخيل للمرء أنها تسير إلى جنبه، حتى إذا سمعنا خرير الماء من بعيد اطمأن، الواحد منا إلى وصوله إلى "السويقة" حينا، وأما الخرير فمنشؤه العين العمومية القابعة أسفل الطريق خمسة أعين تتدفق بالماء الغدق منذ عشرات السنين فتروي الناس والحيوان والأرض بلا من وإلى جوارها المسلخ وكان الماء ينساب في الليل إلى الحقول مارا بالمسلخ وإلى يمين الطريق وهده اتخذها الناس مكانا لرمي فضلاتهم وما هم في غنى عنه، غير أن المرور بهذا المكان ليلا لا تحمد عواقبه تواترت الروايات عن العفاريت والجن التي تمرح فيه وربما آذت المرء، فلا ملاذ له إلا بقراءة آية الكرسي والمعوذتين ليسلم المرء من أذاها ونكاد نشرف عليها والفرائص ترتعد والبدن يقشعر والشفاه تتمتم بآي الذكر الحكيم وقد التصقت بأمي عسى أن يخف الذعر وآن له أن يخف وأمامنا يتقدمنا أحد كهول الحي تعود على السهر في المقاهي يلعب "الدومينو" ولا يعود إلى بيته إلا إذا انفض المجلس وأغلق المقهى أبوابه غير أن خرخشة ثم قرقعة تصل إلى آذاننا من جهة الوهدة المستقبحة الرائحة جمدت الدم في العروق وجحظت القلوب وهي تدق بعنف حتى لتوشك أن تخرج من الصدور، وهاهو الشبح يبرز من المكان هيئته هيئة رجل كما يظهر تحت نور القمر سرعان ما تبيناه فيصيح به الكهل:

 لعنة الله عليك كدت أبول في ثيابي ذعرا

 فيرد عليه العفريت الآدمي:

 لا جن ولا عفاريت إذا سمعتم قرقعة وضجيجا في أنصاف الليالي فأنا صاحبهما يحلو لي العمل في هذا الوقت والناس نيام فأجد ضالتي وأنفذ إلى بغيتي، وودعنا متمنيا لنا الخير حين نصبح وعاد هو إلى موقع عمله عودة الليث منيع غابه.

و أحمد قنيبري رجل غريب جمع بين الفرادة والشذوذ تقدم به العمر حتى أوشكت خواتم الأربعين أن تسلمه إلى فواتح الخمسين فلم تغير منه الكهولة ولا رشد أو أناب.

أما الوجه فمحمر ولكنه على حمرته يبس وتصلب لكثرة ما تعاقب عليه الصقيع والحرور إذا لمسته حسبته مطاط عجلة تستقر في أعلاه عينان مستديرتان ضيقتان وقد غطى بعض الجفن جزءا من العين اليسرى فغدا كقرصان من قراصنة البحر وكان يملك القدرة على تثبيت عينيه فيك وهو يحدثك فلا يريم نظره مختلقا الأكاذيب ناسجا الافتراءات عن رحلاته الوهمية وصراعه مع الجن والعفاريت ومن حين لآخر يترك لحيته تسترسل قليلا فتوحي إليك بلامبالاة صاحبها وضيق وقته فلا هو يقص شاربه ولا هو ينسق لحيته، وكان مدمن سيجارة يحشوها أحيانا بالحشيش فلا غرو أن تصفر أسنانه حتى لتعافها ويزيد الحشيش من نشوته وآية ذلك أن يحرك ر أسه بل يرقص بدنه كله وهو يحدث، وقد سلم من عيوب الطول والقصر فكان وسطا بينهما، مازال يدخر بقية من حيوية الشباب وعنفوان القوة يمشي في خفة وحماسة وقد لف رأسه تارة بعمامة صفراء أو بيضاء أو اتخذ له قبعة أو كان حاسر الرأس حسب الظروف والمستجدات غير أنه في الشتاء كان لا يخلع الواقية من المطر سترة النايلون الصفراء التي تمنع عنه البلل إلى بدنه وتهبه الحرية فلا يحول المطر أو الثلج بينه وبين ممارسة هواياته وأعماله وقد ربط سرواله البالي إلى ساقيه ولفه حولهما بخيط حتى لا يعيقه أو يثقل بالبلل مضاعفا الإعاقة ودس قدميه في نعل مطاطي لا يسلم أنفك من شم الروائح المستقبحة وأنت تجالسه عاش بيننا خفيف الظل حرا معفيا نفسه من كل تكليف وتحرر من قيود العرف وضوابط الحياة الاجتماعية ينام حين يستيقظ الناس ويستيقظ حين ينام الناس ولا يجمعه بهم إلا زمن يسير حين يمارس عمله أو يقص على الناس قصصه الغريبة وافتراءاته المحببة إلى الأنفس، وكان وحيد أمه العجوز يعيشان في كوخ متهدم زينته العنكبوت ببديع اللوحات واتخذت الحشرات من سقفه البالي ذي الأحطاب السوداء مرتعا لها، وتشابهت أرضية الكوخ مع أرض الزقاق حتى لا تدري أأنت في الداخل أم في الخارج، غير أن قنيبري أحب المرح واختص بالفكاهة يوزعها بالمجان ولم يجد من منفذ ينفس به عن كربه إلا الغناء صنع آلة موسيقية إذ اصطنع ظهر سلحفاة وركب فيه عمودا واتخذ خيوطا من النايلون فغدت أوتارا وكنا نسمي هذه الآلة الشبيهة بالعود القنيبري وقد لصقت باسمه وبها عرف ودعي بيننا.

عمل سقاء يملأ قرب الماء للبيوت ويحملها على ظهره لقاء أجر زهيد لا يدفع خصاصة ولا يقي من مسغبة، وأما جحشه فقد أعفاه من أوزار هذا العمل الشاق عطف عليه ونظر إليه نظرة حانية وجحشه طرفة فلا هو بالحمار البالغ الذي يلحف في طلب العلف ويتخابث في المسير ولا هو بالجحش الصغير الذي لا يقوى على حمله، كان جحشا فتيا شابا يوشك أن يودع المراهقة ويستقبل طلائع الرجولة فتسند إليه المهمات الجسام صنع له برذعة جميلة واصطنعه لركوبه والجحش يسرع في مشيه فخورا بمن على ظهره ومن حين لآخر يأخذ سيده إلى العين العمومية فيأخذ دشا بالماء والصابون وربما مشط له شعره فأخرجه آية في النظافة والجمال والأناقة وقد فاته أن يختص نفسه بنصيب منها!

لا يخلو يوم من رؤية وجهه ومن سماع طرائفه ومجونه وقهقهاته وأغانيه ممزوجة بصفيره على الرغم من اختلاف مواعيد نومه وصحوه عن مواعيد أهل البلدة يضاحك هذا ويكذب على آخر ويماجن ذاك حتى إذا فرغ من ملء القرب ونام في كوخه وأقبل الليل خف إلى هواياته باحثا في القمامة يبحث عن كل شئ هذه مقلاة هرمة معوجة قذرة سيصلحها وينظفها ويقلي فيها الفلفل أو ربما باعها وانتفع بثمنها، وهذا إطار حاك قديم سيصنع منه صندوقا يجمع فيه بعض أدواته وهذه شفرة صدئة سيصقلها ويتخذها آلة لفتح علب السردين، وتلك قطعة من المطاط سيفصلها على مقاس جحشه حتى لا تؤذيه البرذعة، لا يخاف جنا ولا يقوى عليه برد شتاء أو حر صيف، كان يسخر من خوف الناس من المرور بالمقابر ليلا وحكاية الأموات الذين تتمثل أرواحهم للأحياء في الزقاق المجاور للمقبرة أو سماع أنات بعضهم فكان يملك الجرأة على أن يدخل مقبرة ويبيت فيها حتى ليخاف منه الأموات ويلوذون بأكفانهم وأجداثهم!

أما موهبته فتجلت في دعابته ومرحه وقدرته على استنسال النادرة من أخرى واختلاق القصص ونسج الافتراءات يتوسط الجمع فيخلب ألباب الجميع شيبا وشبانا مثبتا فيهم نظراته الرزينة والرذاذ يتطاير من فمه ونفاضة السيجارة استطالت وأبت في اصرار أن تسقط على الأرض وقد أحرق عينيه دخانها فأوشك الجفنان أن ينطبقا عليهما يهدأ في موضع الهدوء ويقوم في موضع القيام وتنبسط أسارير الوجه حين يشاء وتنقبض حين يستدعي الموقف ذلك واليدان تشاركانه الحديث والجسم كله يتفاعل مع القصة وأي قصة؟ صراعه وحسن تخلصه من لصوص الطريق حين عودته من المروك (المغرب)، وعراكه مع عفريت أو افتتان الناس به في مدينة بعيدة ونجاحه في صفقة بيع سلعة فاسدة، حديث طويل وافتراء كبير على أنه الكذب الحلو المستساغ الذي يجمع الشمل ويطبع المجلس بطابع المرح والدعابة. ومن نوادره أنه إذا جاع واستعصى عليه الطعام أو اشتاق إلى الشواء ولم يكن معه دينار ربما اختطف دجاجة لقيها في زقاق وأولم مع ضيوفه في "غار الغولة" وكان كهفا منعزلا بمحاذاة أحد الحقول مرتعا للصوص الحقول يلتقون فيه يأكلون ويشربون ويقيلون ويلعبون الورق مقامرين ويخططون لسرقة الغلال من الحقول يأخذون كفايتهم منها ويبيعون ما زاد عن حاجتهم في سوق البلدة وأما أصحاب الحقول إذا سرق أحدهم تفقد المسروق في السوق يأخذ هراوة ويصطحب أولاده حتى إذا رأى اللص البائع صاح حالفا بأغلظ الأيمان:

 بالحـــرام فلفلي وطماطمي

و يهرول إلى البائع السارق منهالا عليه بالهراوة ضربا وربما تفطن السارق إلى مقدمه فيهرب ويقع هرج وضجيج وتطاير للغلال وصراخ وسباب.

وقد أحب قنيبري الخمر وكلف بها كما أحب الحشيش وادخره للشدائد ولأوقات المرح وروي مرة أنه حصل على زجاجة صغيرة من شراب فاخر كان يشرب منها من حين لآخر على طريقة رعاة البقر ولما سألته أمه عنها أخبرها أنها دواء يخفف من نوبة السعال ويشفي منها فلما انتابت الأم نوبة برد شربت منها فانتشت وأخبرت قرة عينها عن النشوة والبهجة التي أحست بها حين شربت من هذا الدواء.. احتفظ بروح الشباب وهواية المغامرة وكان يملك دراجة اصطنعها لتجواله خارج البلدة حين لا يقدر الجحش على مصاحبته وربما سابق "كار بو كامل" حافلة عتيقة هرمة نصفها الأعلى مطلي بالأبيض والآخر بالأخضر وركابها يتمخطون ويتقيؤون يكاد الناس يختنقون داخلها من رائحة المازوت هي أبطأ من فند وربما سبقها المرء وهو يمشي على رجليه وهي في سيرها كأنها شيخ مصدور يسعل ويتمخط وكان يحلو لقنيبري مسابقتها بدراجته والوصول قبلها مزهوا بالانتصار عليها محدثا الناس بهذا النصر ناسجا كثيرا من الافتراءات!

أما إذا استعصى عليه النبيذ صنع خمرته الخاصة "الكازوزة" يخلطها بالكحول فحيثما قعد أو سار كانت رائحة الكحول تزكم الأنوف ولربما أراد أن ينسى كربه ويستعين بالكحول على الكآبة السوداء إذا رفرفت بأجنحتها فوقه، فقد اكتمل يتمه برحيل أمه، فلا زوجة يسكن إليها أو ولد تقر به عينه ولا سمعة يمشي بها بين الناس ولا دخل قار يخفف به من غلواء الزمن وتصاريف الأيام الكدح سقاء في النهار وسندباد مزابل في الليل والعمر يتقدم والصحة على ثباتها يوشك الكحول أن يفعل بها الأفاعيل والرجل يقاوم ذلك كله بالتمرد والإيغال في الحرية والقهقهة والسمر وفي إشاعة الدفء بين الناس وهؤلاء ينصرفون إلى بيوتهم إلى أهليهم وأولادهم أما هو فيأوي إلى كوخ قديم تستقبله الوحشة وتؤنسه العناكب والفئران حتى جحشه تخلى عنه وما تبقى له إلا القنيبري يعزف عليه ويدندن إذا آنس من نفسه القدرة على العزف والغناء فتسمع "القرابة" وهي حيه في سكون الليل أنات نفس وحشرجات روح ما أتيح لهم في النهار أن يسمعوها.

وكان آخر عهدنا به منذ حوالي خمس وعشرين عاما لقيته وثلة من الأتراب متمددا في أحد الأزقة وقد أسند ظهره إلى الحائط وأمامه زجاجة كازوزة مخلوطة بالكحول وكانت الرائحة تزكم الأنوف، لقد ثقلت حركته وعيناه الضيقتان ذبلت نظراتهما وكنت تحس بشهقاته وزفراته وصدره يتسع ويضيق لقد شله الكحول وكلامه لا يكاد يبين والسكر قد تعتعه وكان لا يبالي بالمار ولو كان إمام الحي وشيخه الذي يهابه الجميع ويعظمونه ولو كان يعرف الشعر لصدع بقول أبي نواس:

ألا فاسقني خمرا وقل هي الخمر

ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر


ومن ذلك اليوم أو بعده بيسير اختفى أحمد ركب دراجته وذهب إلى غير رجعة لم يعد في البلدة المتسع لحريته وعربدته وكيف يبقى فيها وهو يرى أقرانه يكادون يصبحون أجدادا؟ قد سعوا في الحياة فظهر سعيهم في رعاية أسرهم وتدبير معاشها وما يستتبع ذلك من لذة وبهجة أما هو فجراحه العميقة التي تستر عليها بالقهقهة والعبث لا تندمل ورؤية أقرانه تنكؤها فالبعض يشفق عليه والقليل يسخر منه لا جرم أنه يرحل وفي الأرض متسع ومنأى فالنظرات ستخف والغمزات ستتلاشى ولو أن الجراح لن تندمل ولكن لا بأس أن تتكسر النصال على النصال في بلد لا يعرفه فيه أحد ذهب من دون أوبة ومن دون توديع الأحباب والأصحاب والمعجبين وغارت لحظات الأنس بعد أن تلاشى مسرحه، وتكر الأيام والناس يكادون أن ينسوه ولا يذكرونه إلا لماما وشأن الزمن أنه يحتوي المرء بهمومه ومشاغله ومستجداته فيكاد ينسى من حوله حتى سمعنا من يخبرنا أن قطارا دهس أحمد قنيبري منذ سنوات قليلة بضواحي إحدى المدن وولربما كان في غير وعيه وزاده التقدم في العمر وانحطاط الصحة وضعف أداء الحواس عجزا فلم ير القطار ولم يسمع صفيره فأكمل القطار بذلك صنيع الحياة التي دهسته صغيرا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى