الاثنين ١ آذار (مارس) ٢٠٠٤

و عادت الذاكرة بعد طول إحتجاب

رواية بقلم : نزار الزين

في أمسية ثقيلة تحولت فيها أحياء مدينة يافا إلى أتون ، فركدت نسماتها التي كانت لا تزال تلطف الجو حتى وقت قريب ، و ارتفعت نسبة رطوبتها حتى أصبحت قطرات العرق ترى بوضوح و هي تنبثق من الجباه . مما دفع بعض أسر حي العجمي إلى الشاطئ طلبا لماء البحر الأبيض المنعش يبردون به أجسامهم الملتهبة ، و تجرأت بعض الفتيات مستغلات الظلمة التي أخذت تلقي عباءتها في ليلة غير قمراء ، فألقين بأنفسهن إلى أحضانه بما عليهن من ثياب ؛ في حين ساد الوجوم و الضيق في بيوت الأحياء الداخلية من المدينة و أخذت فيها الأيدي تحاول تحريك بعض نسمات بورق الصحف أو بالمراوح المصنوعة من سعف النخل ، أو تلك التي تدار بالطاقة الكهربائية ، كل وفق مستواه الإقتصادي .

و بشكل عام توترت الأعصاب ، و كثر تأفف العجائز و صياح الأمهات ؛ بينما انخفضت نسبة الحياء فخفف الناس ثيابهم ، كما تجرأ بعض الشبان على التجول بلا قمصان داخلية .
و كان ربحي الرملاوي و هو من كبار تجار البرتقال قد عاد من المقهى و لم يخف عن زوجته سميحة التي يلقبونها
( بالشامية ) شعوره بالضيق و القلق ، التي لا تمت لحالة الجو بصلة .

فاغتنمت فرصة غياب الأطفال الذين توجهوا منذ لحظات إلى الشاطئ مع الآخرين ، فسألته عما يضايقه قبل أن تذهب لتحضير طعام العشاء ؛ أما هو فإنه لم يشعر بالجوع و لا بالرغبة في الثرثرة ، تذمر بادئ الأمر من سؤالها و إلحاحها ، ثم لم يجد مفرا من البوح بسرّه ، فأجابها بشيء من العصبية : " جاء دورنا يا سميحة ! " ثم أخذ يسرد عليها ما حدث له قبل قليل :

 جاءني إلى المقهى غريبان لم أر وجههما من قبل و طلبا مقابلتي شخصيا على انفراد ، فقمت من بين أصحابي و جلست معهما على طاولة منعزلة . ظننت بادئ الأمر أنهما من تجار الشام و لكن سرعانما كشفا عن هويتهما الحقيقية فقد كانا – كما يزعمان – من الثوار ، و أبلغاني أن القيادة فرضت عليّ مبلغ ألف ( جنيه ) تبرعا للثورة ، فرفضت بصراحة و وضوح أن أدفع ( تعريفة ) واحدة ، فقد تبرعت بالكثير حتى أني لم أعد أعرف لمن تتوجه هذه التبرعات ، ثم اشتبكت معهما بنقاش حاد إرتفعت خلاله أصواتنا مما نبه أحد المخبرين الذي استدعى قوة ( بوليس ) فألقت القبض على أحدهما بينما لاذ الآخر بالفرار ؛ و أمام هذا الموقف الخطير غير المحمودة عواقبه ، نصحني رفاقي بالتواري عن الأنظار .

و صمت ليجفف عرقه الغزير ، ثم أكمل حديثه بصوت غاضب و لكن هامس ، بينما أخذت سميحة تضرب كفا على كف :

 تصوري يا سميحة ، يطلبون مني ألف جنيه ، هذا خراب بيت يا سمّوح ، هذا تسلط و ابتزاز ، و ليست ثورة ؛ التبرع هو أن يمنح الإنسان من خاطره لا أن يفرض عليه ، من أنا ليطلبوا مني هذا المبلغ ؟ تبا لهؤلاء الريفيين إنهم يوجهون بنادقهم إلى صدورنا بعد أن عجزوا عن توجيهها إلى أعدائنا الحقيقيين . الآن فقط أدركت أن المعارضة على حق ، فقد تحولت الثورة إلى فوضى تعبث بأمن الناس ، و أصبحت المدن مسرحا للتنفيث عن الضغائن و الأحقاد ، و باتت حياة الإنسان أرخص من ثمن رصاصة

أجابته و قد انتقلت إليها عدوى التوتر مع استمرار ضربها كفا بكف :
 كيف تعرض نفسك للخطر يا ربحي من أجل ألف جنيه و أنت تملك أضعاف أضعاف هذا المبلغ ؟
- لست أنا يا سميحة من يهدر ماله ، المال في مقام العرض و لن أفرط بأي منهما .
 ألف جنيه يا ربحي تعتبرها تفريطا ؟ إذا لم تتبرع أنت و أمثالك من الميسورين فكيف تنفق الثورة على رجالها و تسليحهم و ترعى عيال شهدائهم ؟ تضع نفسك في هذا المأزق من أجل ألف جنيه يا ربحي ؟
 ألف ستجر ألفا أخرى ثم أخرى و سيستمر الإبتزاز إلى ما لا نهاية ، على أي حال لا مجال الآن للندم أو
التراجع .
 أنت في خطر حقيقي يا ربحي بل نحن كلنا في خطر ، فما العمل ؟
 نصحوني بالإختباء ، و لكن أين ؟ لقد اغتالوا مصطفى السكسك في عقر داره ، و محمود أبو كميل و هو يلعب النرد (طاولة الزهر) في المقهى !
 لا ... لا ... لن ينفع الإختباء في المنزل ، يجب أن نغادر يافا في الحال ، و صمتت قليلا ثم أضافت: " لم لا نسافر إلى الشام ؟ "
 و البيت و البيّارة ( بستان البرتقال ) من يحافظ عليهما ؟ لا و ألف لا . إذهبي أنت و الأولاد إلى أهلك في الشام إن شئت أما أنا فلن أفعل .
 التهديد موجه إليك و ليس إلينا يا ربحي ، أرجوك لا وقت للعناد ، يجب أن تتخذ قرارك في الحال .

هنا دخل الأطفال جذلين و في مقدمتهم زكاء كبراهم التي بدأت محاسنها تتكون بسرعة بعد بلوغها الحديث ، و كانت أكثرهم حبورا فقد قضت بين أحضان الأمواج وقتا طيبا جعلها لا تلاحظ الوجوم الذي خيم على والديها .

و بعد أن تناول الأطفال عشاءهم و توجهوا من ثم إلى أسرّتهم ، استأنف الزوجان نقاشهما حتى ساعة متأخرة من الليل ، عندما توصلا إلى حل مناسب ألا و هو التوجه حالا إلى دار عمه في مدينة القدس ، فإذا هدأت الأحوال عادوا إلى يافا و إن ساءت أكملوا نحو الشام .

و تحرك ربحي لتنفيذ الخطة على الفور ، بدءا بتفريغ صندوقه الحديدي مما فيه من مال ، و انتهاء إلى الإتفاق مع سائق تاكسي يعرفه . و على الرغم من أن السائق عاد لتوه من سفر طويل و يحتاج للراحة فقد تصرف بشهامة و وافق على موافاته بعد ساعة على الأكثر ، في نفس الوقت كانت سميحة تحضر لوازم السفر على عجل ؛ و مع الفجر أخذا ينقلان الأطفال إلى السيارة و هم أنصاف نيام .

بعد أن مر على البيارة و أوصى البياري ( حارس البستان ) أبو الوفا بما يلزم ؛ تحركت السيارة نحو القدس . فمرت وسط يازور و بيت دجن و حزبون و الرملة و الصرفند حيث كانت أنوار مطار اللد لا زالت تتراقص من بعيد ، و مع الشعاعات الأولى للشمس وصلوا إلى مفرق باب الواد ، و هناك ملأ السائق خزّانه بالوقود ثم ابتدأ يتسلق بعربته المكتظة المرتفعات المؤدية إلى القدس .

كانت الطريق شبه خالية و مملة في حين أخذت الشمس تداعب عيني السائق من حين لآخر مع تعرج الطريق فتزيدهما نعاسا ، و على منحدر قريب من بلدة القسطل باغته النعاس ثانية فأخذ ينحرف نحو أكتاف الطريق فلم تحتمل إحدى العجلتين الأماميتين القديمتين طعن الأحجار فانفجرت ، و في الحال إختل توازن السيارة فاندفعت نحو عمق الوادي .

و مضت ثوان أو دقائق لم يكن يسمع خلالها سوى صوت ارتطام المعدن بالصخور يتخلله صراخ سميحة و أولادها ، ثم توقف كل صوت .
لم تتوقف السيارة عن تدحرجها إلا في بطن الوادي مهشمة مع من فيها ، أما السائق فقد ألقى بنفسه خارج السيارة في موقع غير مناسب أفقده حياته في الحال ، بينما لفظت الفتاة زكاء إثر إحدى الصدمات العنيفة فتدحرجت بعيدا إلى أن أوقفتها صخرة بعد أن ضربت رأسها أفقدتها وعيها.

و في عمق الوادي بدأت السيارة تشتعل ملتهمة كل شيء بما في ذلك أفراد العائلة المنكوية و أوراقهم الثبوتية و أموالهم ، و لم ينتبه المتدخلون من ( القسطل ) إلى زكاء ، إلى أن مرّ راع بعد ساعة أو تزيد فحملها و نقلها إلى الطريق العام حيث نقلتها شاحنة إلى مستشفى ( الهستس ) في القدس .

و هناك استطاع جراح مخ بريطاني إنقاذها من موت محقق و لكنها ظلت فاقدة وعيها لأيام و عندما فتحت عينيها أول مرة كانت قد خسرت ذاكرتها فلم تتعرف حتى على إسمها ، لولا أنه كان منقوشا على مدالية ذهبية معلقة حول جيدها كانت للأسف تحمل الإسم الأول و حسب .

أما الأقارب المفجوعون الذين علموا بالحادث من عائلة السائق ، فقد ظنوها لقيت نفس مصيرأسرتها و لم يفطنوا إلى إحصاء الجثث المحترقة لدى دفنها .

و عندما تماثلت زكاء للشفاء من جراحها ، نقلت إلى ميتم ( دير عمرو ) .

بعد عشر سنوات

وصلت سرية ( الحرب المقدسة ) على متن أربع حافلات بعد رحلة شاقة إنطلاقا من دمشق إستغرقت عدة أيام ، و عند ساحة باب العمود اصطف المتطوعون في رتل ثلاثي و مضوا في مشية إستعراضية يتقدمهم قارع الطبل الوحيد .

فمنذ أن قيل لمنير- أحد المتطوعين - أن تلك الأبراج و المآذن هي أبراج كنائس القدس و مساجدها ، منذئذ أخذ قلبه يخفق تجاوبا مع مشاعر الشوق و الفداء ، ثم أخذ يزداد خفقانا كلما اقترب من المدينة و خاصة حين لاحت له قبة الصخرة و كنيسة القيامة .

و قامت السرية بجولة شملت حي الشيخ جراح و المصرارة حيث تجمع الناس يصفقون لهم و يشاركونهم هتافاتهم الحماسية ، و عندما عادوا إلى الروضة رحب بهم قائد حامية القدس و طلب منهم الإستراحة إستعدادا للمعارك القادمة .

و كان نصيب منير في التوزيع ، التمركز فوق سطح عمارة في حي المصرارة إلى جوار مدفع ( هاون ) صغير ؛ و بعد أن نال قسطه من الراحة نهض ثم ثبت بندقيته في فوهة بين أكياس الرمل مترقبا المجهول .

و مع خيوط الفجر الأولى دوى إنفجار قريب منه ، جعله يفلت البندقية من بين يديه ليضعهما فوق أذنيه ثم إنبطح أرضا ، و تتابعت من بعد الإنفجارات من حوله ، و عندما أخذ يألفها عاد إلى موقعه مترقبا أي هدف ليطلق عليه .

كان زملاؤه قد أعدوا ( الهاون ) ثم أخذوا يطلقون قذائفه ؛ و توالت من ثم قذائف ( المنجنيق الأسمر ) هكذا لقبه ملقمه ، فسقطت بعضها في عرض شارع ميشاروم إلا أن ثلاثا منها أصابت عمارات سكنية و أخرى سقطت فوق مصنع للأحذية فأشعلت فيه النار في الحال ، ثم ما لبثت النار أن امتدت إلى الأبنية المجاورة .

و دبت الفوضى في الشارع المذكور و بدأ دوي صفارات سيارات الإسعاف و المطافئ يختلط بأصوات القنابل و الرصاص .

ثم بدأ الهجوم العربي لإحتلال المنطقة ، إلا أن الجنود البريطانيين المرابطين في مخفر ( البوليس ) تدخلوا لمنع ذلك بداية ثم أخذ المظليون البريطانيون المتمركزون في ساحة ( مندلبوم ) يتدفقون بمدرعاتهم إلى المنطقة استعدادا لشن هجوم مضاد .

و بمكبرات الصوت أذاع البريطانيون إنذارا موجها للعرب بتوقيع الميجر أندرسون يأمر فيه بوقف الهجوم حالا و الإ نسحاب إلى حيث جاؤوا ! مفوتين كعادتهم فرصة أخرى على جيش الإنقاذ العربي .

*****

و من مكمنه ، شهد و دعم معركة رئيسية أخرى ، فقد إنقض المتطوعون على قافلة صهيونية كانت في طريقها إلى جبل الزيتون ، حيث الجامعة العبرية و مستشفى ( هداسا ) و أخذوا يفجرون الألغام- المصنعة بأيد عربية - بين عجلات مركباتها ، بمهارة فائقة أدت إلى تمزيق حافلتين مصفحتين محليا ، بمن فيهما ؛ مما أدى إلى نكوص بقية القافلة و عودتها من حيث أتت .

و ما كاد منير يضم شفتيه بعد ابتسامة جذلى ، حتى فوجئ بقوة بريطانية بمصفحاتها و سياراتها الخفيفة الحاملة لمدافع (مورتر ) ، فوجئ بها تحتل مفترق الطرق المجاورة ، و لتبتدئ من ثم بإطلاق نيرانها الكثيفة على المنطقة العربية التي صدر منها الهجوم ، و بغضب شديد أخذ منير و زملاؤه يردون على النار بالمثل ، و خلال دقائق إلتهبت المنطقة كلها و تساقطت القذائف عليهم من كل حدب صوب بما فيها منطقة جبل الزيتون المفروض أنها مجردة من السلاح .

ثم عادت القافلة الصهيونية بعد أن أمنت حماية إضافية ؛ في محاولة جديدة لبلوغ جبل الزيتون ، و على حين غرة فتحت أبواب الجحيم من المصرارة – حيث يتمركز منير – و من باب الساهرة و من داخل السور و وادي الجوز و تلال النبي صموئيل ، ثم اندفع المناضلون يحكمون الطوق على القافلة .
و اشتدت حماسة منير فهبط من موقعه لينضم إلى المناضلين يصارع الأعداء بكل ما يملكه من فنون قتالية صقلتها معارك القدس التي خاضها منذ وصوله إليها
و بدت القافلة برجالها و حماتها في حالة ضياع عندما تدخل البريطانيون مجددا مستخدمين كل ما يملكون من قوة بما فيها قنابل الدخان و تلك المسيلة للدموع .

و عاد منير إلى مركزه يتلمس طريقه بيديه صاعدا درج العمارة درجة درجة و قد أعمت الدموع عينيه و أرهق السعال صدره و تعثر مرارا قبل بلوغه مركزه .

*****

صعد الجيش الصهيوني المسمى ( ها بالماخ ) – و هو جيش صغير مدرب تدريبا متقدما فقد شارك في الحرب العالمية الثانية تحت مظلة بريطانية – صعّد هجومه على حي القطمون مستخدما المصفحات و المدفعية من كل العيارات – و التي سرقت من المعسكرات البريطانية كما إدعى البريطانيون - و إذ اشتدت الوطأة على العرب المدافعين أخذوا يطلبون النجدات ، و هب منير – كعادته – يعرض نفسه للفداء ؛ فقد أصبح من أبطال القدس المعروفين إذ جندل ببندقيته التي أتقن تصويبها و التي استخدمها في إطلاق قذائف تركب عليها و تنطلق بواسطتها ، جندل بها العشرات من الأعداء ، فلقبّه رفاقه بالصياد .

كلفه القائد العام بقيادة سريته ، لغياب رئيسها في دمشق ؛ و قد استطاع التسلل مع جنوده إلى أعالي حي البقعة حيث استولوا على فندق ( كلاردج ) و أخذ من ثم يوزع رجاله .

و من إحدى نوافذ الفندق أشرف على تحركات المهاجمين ، كانوا يتسلقون الطريق في رتل من المصفحات يتبع كل منها عشرات من جنود ال ( الهابالماخ ) و ( الهاغانا ) ، و كانت المصفحات ترسل قذائفها بكل اتجاه و إذ اقتربت من الفندق أمر منير بفتح النار .

كانت معركة غير متكافئة رجالا و عتادا ، وعتدما أحس أن المقاومة أصبحت إنتحارية و أن إصابات جنوده فاقت كل توقع أمر بالانسحاب و تحت حمايته الشخصية ، إلا أن جنوده المنسحبين عادوا و هم يطلقون صيحات النصر عندما وجدوه جريحا فاقد الوعي ، فقد أصابته شظية قنبلة في بطنه .

كان أحد صغار الضباط الأردنيين قد أمر بالتدخل بدون الرجوع إلى قيادته البريطانية بحجة حماية السفارة العراقية ، و انضم إليهم من ثم من بقي حيا من المناضلين ملحقين بالصهاينة هزيمة نكراء .

*****

في المستشفى الإيطالي في القدس ، استطاع منير أن يتزحزح من ضجعته الطويلة فجلس لأول مرة منذ أن جيء به إلى المستشفى مستندا إلى وسادتين رتبتهما له الممرضة المسؤولة عن مهجعه الذي يضم ثمانية أسرة . و قد بدأ يشعر انها تخصه – دون الآخرين - بعنايتها ، فلطالما سهرت الليالي إلى جانبه و خاصة خلال الأيام الحرجة يوم كان عزرائيل متكئا على حافة سريره .

أما هي فما أن علمت أنه من الشام حتى أحست برباط خفي غامض يشدها إليه ، و رويدا رويدا وجدت نفسها متعلقة به .

جلس منير اليوم دون أن يشعر بذلك الألم الرهيب في بطنه و كذلك لم يشعر بأي دوار ، إلا أن حرارته لا زالت مرتفعة و إن تدنت قليلا و جرحه لا زال متقيحا و لكن إفرازاته لم تعد تغرق ملاءات السرير ، و أما الصداع فقد زال تماما و هذا ما جعل عقله ينشط قليلا للمرة الأولى منذ أن أصيب .
كانت الممرضة قد ذكرت له أن الشظية نفذت من بطنه فمزقت أمعاءه في عدة مواقع قبل أن تستقر ، مما استدعى إجراء عدة عمليات جراحية ، و بقيت المشكلة في ثغرة واسعة تركت مسألة التحامها للقدر ، و أما العناية الطبية فهي تقتصر حاليا على تنظيف الجرح و القضاء على إلتهابه و تقوية جهاز المقاومة .

*****

فرغت ( سستر زكاء) – هكذا ينادونها - من جولتها الدورية ، ثم جلست – كعادتها – إلى جواره على مقعدها المعتاد و على فمها إبتسامة ذوبت فيها كل ما تملكه من أنوثة و ود ، و لكنه كان متجهما فقد كان يعاني تلك اللحظة مغصا خفيفا ما لبث أن زال فأشرق وجهه ، ثم دار بينهما الحوار التالي :

 لم أنت صامتة على غير عادتك ؟ فأجابته متصنعة الغضب :
 هل تتهمني أنني عادة ثرثارة ؟
 أبدا والله .. لم أقصد
 لا تقسم كنت أمزح !
و لكنها عادت إلى الصمت ، مما زاده فضولا ، فسألها ملحا :
 ماذا هناك ؟ ( سستر ) زكاء ؟ فأجابته :
 سقطت القسطل و استشهد قائد حاميتها
 يا للخسارة ... يا للقهر !
 و لكن لم ظل الإنكليز ينحازون إلى جانب الصهاينة ؟ بم تفسر هذا الظلم ؟
 إنها مؤامرة بريطانية فرنسية مستمرة منذ اتفاقيات سان ريمو و سايكس بيكو و وعد بلفور ؛ و شرحها يحتاج لأيام !
 الأقوياء يبتلعون الضعفاء !
 لقد إختزلت التاريخ بثلاث كلمات !

و همست لنفسها بأسى : " أما تاريخي فقد ضاع "

*****

و في يوم آخر ، جلست إلى جانبه صامتة ، فسألها عن سبب صمتها ، و لكنها ظلت صامتة ، فهمس بعصبية و صبر نافذ :

 تكلمي و إلا ...
 و إلا ماذا ؟
 و إلا سأنام ، فماذا أملك غير النوم ؟
ما الأمر بربك ؟
فضحكت و عندما لملمت نفسها قالت :
 بصراحة خائفة عليك من عيني !
فضحك بدوره حتى أوقفه الألم ، ثم أجابها :
 يا شيخة شغلتيني سامحك الله ، و لكن علام أنت خائفة ؟ على عجزي ؟ على عدم قدرتي على العودة للقتال ؟ أم على غربتي التي طالت ؟
 بل على حالتك اليوم ، لقد بدأت تتعافى و بدأت تتدفق حيوية و نشاطا ، و هذا ما يجعلني خائفة ؟
 خائفة ؟ أتستائين من تماثلي للشفاء ؟
هنا وضعت يدها على فمه و هي تقول بعينين مغرورقتين :
 أعوذ بالله مما تقول .
و بلا شعور منه لثم يدها ، و لكنه إرتعش على حين غرة و اصفر وجهه كمن صعق بتيار كهربي ثم أبعد يدها بعصبية و أخذ يدمدم :
 أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، أعوذ بالله ، ثم نظر إليها و هو يقول بفم مرتعش :
 سامحيني أرجوك
فأجابته متجاهلة ما فعل :
 عن ماذا ؟
فصمت دون أن يجيب ، ثم أخذ يلعن نفسه لإنسياقه وراء عواطفه ، ثم عاد ليجتر لذة تلك اللحظة الخاطفة ثم عاد ليشتم نفسه لضعفه ، سلسلة تكاد لا تنتهي من العواطف المتناقضة .
كانت زكاء قد غادرت ، فقد حسبته غط بالنوم و لكنها حملت معها إلى فراشها أحلى المشاعر التي أيقظتها تلك اللثمة الخاطفة .

ثم أخذت تتزاحم في رأسها تساؤلات كثيرة :

ترى لم أحس منير بالذنب ؟ ترى لم تخيفه العواطف و هل في العواطف الطبيعية ما يعيب ؟ ترى أين يعيش في الشام ؟ الشام ؟! و ما لبثت أن شعرت أنها تحلق وسط ضباب كثيف ثم أخذت تسمع أصوات استغاثة و ارتطامات معدن صاخبة و نداءات استغاثة تردد ماما بابا لتضيع وسط القعقعة و القرقعة ، ثم تتشنج يداها فتتوقف عن التحليق ثم تهوي لينتشر السكون من جديد .

كل ليلة تقريبا يتردد نفس الحلم ، فتنهض من بعده منزعجة و هي تتساءل : " لم تثيرني عبارة الشام ؟ ماذا يمثل هذا الصخب و الرعب ؟ ترى من هؤلاء الذين يستغيثون و من هي تلك المرأة التي تبرز فجأة و كأنها تواسيني أو تشجعني ؟

*****

جلست زكاء في غرفة مدير المستشفى العجوز الذي أخذ يحدثها بلهجة أب عطوف :- يخيل إلي يا ابنتي أن مشكلتك على أبواب الحل ، فالعبارات و الأصوات التي تثيرك و أحلامك المتكررة على نفس النسق كلها برأيي مفاتيح الحل ، و صدقيني أنني أفكر بها كثيرا و أحاول ربطها ببعضها بعضا ؛ تصوري أنك أمام رسالة مقطعة إلى نتف كثيرة و أنك تحاولين إعادة تجميعها بعد أن اختلطت و تبعثرت تماما كلعبة ( البزل ( Puzzle ؛ هذا بالضبط ما أحاول عمله من أجلك . إني طبيب فيزيائي و لست طبيبا نفسيا و لكن لدي بعض الإلمام بعلم النفس يؤهلني للسعي من أجل حل معضلتك .

أنا أتوقع يا زكاء أن هناك صلة كبيرة بين حياتك الماضية و بين الشام ، كلمة الشام تثيرك ، إهتمامك بالجريح الشامي فاق كل تصور ، المدالية التي كانت على صدرك صنع الشام ، و أحلامك المتكررة التي تدور حول أسواق كأنها أنفاق ، و حافلات ضخمة تتحرك فوق سكك كسكك القطار ، تؤكد لي أنك تعرفين تلك المدينة جيدا كما أعرفها ، و لولا أنهم وجودك في فلسطين لقلت أنك شامية مائة في المائة ، أما حلمك الآخر عن قرقعة المعادن و ارتطامها و أصوات الإستغاثة فتؤكد أنك تعرضت لحادث رهيب و كان يرافقك فيه بالتأكيد أهلك لا كما كنا نظن أنها مصيبة من مصائب الحرب أو حادث دهس كما اشار تقرير الشرطة . كل هذه الدلائل تشير إلى قرب الفرج ؛ عقلك الباطن يحاول . و عليك أنت أن تحاولي يا بنية فحاولي ثم حاولي ثم حاولي ، هذا السور الحديدي الذي ارتفع حول ماضيك فحاصره لن تهدمه غير إرادتك .

 إرادتي ؟ إنني أزداد خوفا يوما بعد يوم ، و يزداد أرقي و صداعي !
 هذا إنعكاس للمجهود الجبار الذي يبذله عقلك الباطن !
 هل أفهم منك يا دكتور عصام أنني لست فاقدة الذاكرة كما قيل لي من قبل .
 بالتأكيد هذا ما عنيته ، فأنت محبوسة الذاكرة – إن صح التعبير - و لست فاقدة لها ، بدلالة سلامة تفكيرك و قدرتك السريعة على التحصيل و أذكر أنك استعدت نطقك بسرعة و كذلك استعدت قدرتك على القراءة و الكتابة خلال فترة وجيزة و تعلمت في الميتم حتى الصف التاسع ، ثم تعلمت مهنة التمريض بسرعة قياسية و أصبحت من أنجح الممرضات .
 إنني أشعر بصدق ما تقول كلمة كلمة ، إنه إحساس دافئ يشيع الطمأنينة في نفسي كلما جلست إليك يا دكتور ، إنك تنير لي طريق الأمل ، أرجو أن أتمكن يوما من رد جمائلك.
 لقد أخبرتك أنني فقدت زوجتي و ابنتيّ بسبب إحدى هجمات مرض التيفود ، حيث وقفت عاجزا عن مساعدتهم إلى انتقلوا إلى رحمة الله ، و قد عوضني الله بك يا زكاء فأنت بمقام ابنتي ، و لكنني أحذرك ، لا تفرطي في الأمل و لا تغرقي باليأس فأنا لست مختصا بل مجتهدا ، على أي حال دعي ذلك الشاب الجريح منير ، يحدثك باستمرار عن الشام و ليطلعك على صور أحيائها إذا توفرت لديه ، و أتمنى أن تجدي فرصة لزيارة تلك المدينة الرائعة يوما ما ، فإذا وفقت حققت الهدف و إن لا ، فلن تخسري شيئا بل تكوني قد كسبت زيارة مدينة تاريخية هي قطعة من الجنة بقدر ما هي مصنع الأبطال أمثال مريضك رقم ( 3) في المهجع رقم( 8 ) ثم باغتها بالسؤال :
 هل تحبينه ؟
فغطت وجهها بيديها لتخفي خجلها الشديد ، و غادرت الغرفة مسرعة دون إستئذان .

*****

منذ أن زاره مدير المستشفى بالأمس و أبلغه عن حالته و منير يعيش في حالة تمزق ، فقد قال له الدكتور عصام ، ذلك العجوز الطيب :

 هيء نفسك يا بني فلديّ أخبار جيدة و أخرى سيئة و سأبدأ بالجيدة ، فجميع مظاهر الإلتهاب و التقرح زالت تماما من جرحك و ربما تخرج من المستشفى خلال أي يوم من الأسبوع المقبل ، كما عليك منذ اللحظة مضاعفة جولاتك اليومية من أجل تنشيط عضلاتك و دورتك الدموية ، أما الأخبار السيئة فهي لن تكون سيئة إطلاقا إذا نفذت كل تعليماتي ؛ فقد خلف الجرح ثغرة واسعة لمّا تندمل و ربما لن تندمل ، و في تاريخ الطب ظواهر مماثلة عاش أصحابها بصورة طبيعية و امتد بهم العمر ، معنى ذلك أن هناك نافذة ستظل مفتوحة و تطل على أحشائك الداخلية و ستبقى مصدر عدوى إذا لم تحطها بعنايتك ؛ فكما تعلم فإن الهواء المحيط بنا ملوث بكل أنواع الجراثيم التي قد تتسرب منها إلى جوفك ؛ و الحل يكمن بتغطية هذه الثغرة باستمرار بأربطة معقمة ، و عليك - عند ملاحظة أي تغيير في شكلها أو لونها أو حجمها أو أي شعور بالحاجة إلى حكها أو أي ألم صادر منها أو مما حولها - مراجعة طبيبك في الحال ؛ أمر آخر هو أنك لن تتمكن بالقيام بأي جهد شاق فانزع من رأسك نهائيا فكرة العودة إلى الجهاد
" إنه نوع من العجز " همس إلى ذاته بعد أن غادر الطبيب ، ثم أضاف : " كيف سأواجه الحياة و أنا عاجز ؟ "

*****

فرغ منير من إرتداء ثيابه ، ثم أخذ يوزع ممتلكاته البسيطة على زملائه و هو يودعهم فردا فردا و فجأة دخلت رئيسة الممرضات مع ضابط من الجيش العربي و أعلنت بصوت مضطرب من شدة الإنفعال:
– إلزموا أسرتكم ، سيدنا يزور المستشفى !

و تلا ذلك نشاط محموم شاركت فيه عدة ممرضات و مساعدات في تلميع المهجع و إبدال ملاءات الأسرة ، و بعد طول إنتظار دخل سيدنا بمرافقة حشد من الصحافيين و المصورين و وجهاء القدس و قادة مجاهدي جيش الإنقاذ و مدير المستشفى و بعض الأطباء ، و قد زين وجهه يابتسامة عريضة ، و أخذ بمشاركتهم يوزع الهدايا على الجرحى و يجامل كل منهم بعبارات الثناء و يمد يده بيسر ليتسنى للجريح لثمها و عندما بلغ سرير منير وقف هذا احتراما و لم يتردد بتقبيل اليد الممدودة إليه ؛ و تعطف سموه فسأله :
 أراك مرتديا ثيابك ، تسريح ؟؟
 نعم سيدنا لقد شفيت و الحمد لله .
 من أي بلد أنت يا بني ؟
 من دمشق سيدنا .
هنا التفت إلى صحبه قائلا :
 أتعلمون أن دمشق يسميها المسلمون في كل أنحاء العالم : شام شريف ؟! بلد شريف حقا و أهلها شرفاء لا يرضون الضيم . ثم أضاف :
 كيف كانت الخدمة بالمستشفى ، لا تستحي من الدكتور عصام .
 الحقيقة إنشاء الله و لا غير الحقيقة ، لم يقصّر أحد بدءا من الدكتور عصام الذي أضمر له كل مودة و احترام و عرفان بالجميل ، و انتهاء بأصغر ممرضة .
هنا إقترب من أذنه أحد قادة القدس العسكريين فهمس بأذنه نبذة سريعة عن منجزات منير في جيش الإنقاذ ثم عن معاناته إثر جرح خطير نجا منه بمعجزة
لقد وجدوه متخشبا فوق بركة من دمائه فحسبوه مستشهدا ، و هموا بنقله مع زملائه الشهداء إلى مثواه الأخير لولا أن لمح منه أحد عمال الجنائز رعشة خفيفة ؛ ثم أجروا له من ثم ثلاث عمليات جراحية في غاية التعقيد و الخطورة
و ما أن أنهى الضابط حديثه حتى التفت الأمير نحو منير ثانية و هو يكيل له عبارات الثناء :
 مرحى للبطل ، بأمثالك سوف ننتصر بإذن الله ؛ لقد أمرنا لك بوسام النهضة تقديرا لبطولاتك سوف نسلمه لك في العاصمة ؛ ثم مضى إلى مهجع آخر ؛ فوجئ منير بكل ذلك و لم يفق من ذهوله إلا عندما قال له ضابط برتبة كبيرة و بلهجة عسكرية آمرة :
 سأضع تحت تصرفك سيارة عسكرية تقلك إلى العاصمة و ستكون ضيفا على الجيش العربي ثلاثة أيام .
 و لكن أهلي بانتظاري فقد أبرقت لهم !
 نبرق لهم ثانية بتأخرك بضعة أيام و التفت نحو ضابط آخر آمرا : " خذ العنوان من البطل منير و أبرق لأهله .
ثم إقترب منه ضابط ثالث و قدم له ساعة يد ذهبية هدية الأمير ، ثم حياه تحية عسكرية و انصرف .

*****

و ما أن غادرت الطلعة الأميرية المهجع حتى تجمع حول منير زملاؤه يهنئونه بالوسام و بالتكريم المادي و المعنوي الذي ناله.

و بعد جولة ودّع فيها كل من تعرّف عليه من جرحى و موظفين و فريق طبي و تمريضي ، كان خلالها يتلفت يمنة و يسرة و يسترق النظر إلى الغرف والمهاجع بحثا عن زكاء ، التي اختفت عن الأنظار منذ صباح الأمس و عندما بلغ غرفة مدير المستشفى و هم بوداعه فاجأه الدكتور عصام بسؤاله : " هل ودعتها ؟ " فأجابه مرتبكا : " لم أرها منذ صباح الأمس " فأجابه الدكتور : " أي منذ علمت أنك ستغادر ! "
فأطرق منير رأسه و لم يجب ، فاستأنف الدكتور عصام قائلا بجدية تتضمن بعض اللوم :
 هذه الفتاة أثيرة عندي و كأنها ابنتي ، إنها تضمر لك عاطفة جياشة فلا تذهب دون أن تودعها
و قبل أن ينبث فم منير بكلمة أكمل الدكتور قائلا :
 أنا أعرفها منذ كانت في الثالثة عشر ، كنت آنئذ متعاقدا مع إدارة ميتم دير عمرو ، عندما أحضروها محولة عن طريق (البوليس) ، و قد أفاد تقريرهم أنها تعرضت لحادث دهس أدى إلى فقدانها لذاكرتها فقدانا جزئيا ، و للأسف لم تتذكر أهلها و لم يتقدم أحد للسؤال عنها مع أن إدارة (البوليس) عممت صورها على الجرائد. الأمر الوحيد الذي دل على شخصها ، مدالية ذهبية نقش على وجهها عبارة( ماشاء الله ) ، و على الوجه الآخر ( زكاء 1927 ) و هو على الأرجح تاريخ مولدها ، المهم أنها بسرعة غير عادية استعادت ذكاءها فتكلمت و أكملت دراستها و كانت دوما متقدمة . ثم أضاف مؤكدا :
 إن وجودها بالميتم لا يعني أبدا أنها مجهولة الوالدين ! – إن كنت تظن ذلك - ؛ قم و ابحث عنها يا بني فهي لا تستحق هذا العذاب !
نهض منير في الحال و دون أن يلقي عبارة وداع غادر غرفة الطبيب ، ثم أخذ يهيم على غير هدى في أروقة المستشفى باحثا عنها ؛ مرت إحدى الممرضات فتبعها على عجل و هو يناديها : " سستر زكاء " فالتفتت نحوه و أجابته ساخرة : " غلطان بالنمرة " و لما لمحت في وجهه أمارات خيبة الأمل سألته بخبث :
 حضرتك منير ؟
 كيف عرفتيني ؟
 مشهور يا سيدي و معروف .. وقصتك عى كل لسان !
 قصتي ؟
هنا غيرت لهجتها إلى أسلوب المهاجم قائلة :
 لم تبحث عنها ، ألتزيدها عذابا فوق عذاب ؟
 أنا ؟
 نعم أنت منير الشامي ، بطل القدس الذي نال اليوم الأوسمة و الهدايا .
 لا بد أنك مخطئة ، فأنا لا أذكر أنني أغضبتها ؟ و صمت قليلا محاولا ابتلاع الإساءة ثم أضاف راجيا :
 أرجوك ( سستر ) دليني على مكانها إن كنت تعرفينه ...
 ليس بوسعي ، فقد أقسمت لها .
هنا أحس أنه يتخبط بالمعميات ، ثم لحق الممرضة ثانية و أخذ يتوسل إليها
 دليني على مكانها أرجوك .
و لكتها باغتته بالسؤال :
 هل حقا تحبها ؟
 أستغفر الله إنها مثل أختي .
 أهبل !
هنا شعر بالغضب إلا أنه كتم صوته و إن لم يستطع كتم انفعاله و هو يجيبها :
 لم أنت متحاملة علي يا آنسة ، بم أسأت إليك سامحك الله ؟. ثم أضاف راجيا من جديد :
 دليني على مكانها أرجوك .
و إذ لاحظت صدق نيته أجابته قبل أن تمضي مسرعة :
 إنها في الغرفة رقم 14 .

*****

دخل الغرفة دون أن يقرع الباب ، و على السرير الوحيد رآها مغرقة راسها في وسادتها مغمضة العينين بينما تخضب جفناها بحمرة دموية ؛ كانت ساكنة تماما ذاهلة أو نائمة حتى أنها لم تشعر بدخوله إلا عندما ناداها ؛ رفعت رأسها بتثاقل و فتحت عينيها لتراه في وجهها !

سألها بصوت مضطرب :
 أنت مريضة ؟
 ...
 لم أرك منذ الأمس !
 ...
 جئت أودعك و ... أشكرك و
 ...
 وسألت عنك في كل مكان
 ...
 دلتني عليك إحدى زميلاتك و اتهمتني بالإساءة إليك ، و لكنني لا أذكر قط أنني فعلت ما يكدرك .
كان يتكلم بارتباك مع بعض التعلثم حين أضاف متسائلا : " هل أسأت إليك حقا ؟ و متى ؟؟ "
كان منير قد نسي إغلاق الباب كاملا مما أتاح لبعض الممرضات أن يتجسسن على المحادثة الدائرة بينهما بفضول شديد ، و لكن الدكتور عصام لمحهن فتقدم نحوهن ناهرا و هم بإغلاق الباب لولا أن المشهد جمده بدوره : زكاء على حافة السرير مطرقة الرأس مخضبة العينين ، و منير قبالتها و ظهره نحو الباب ، متصلب كتمثال ، فاقتحم الدكتور الحجرة بعصبية مصفقا بابها بعنف أرعبهما و لكنه تجاهل بغتتهما و قال بصبر نافذ :

 تتصرفان كطفلين فجعلتما نفسيكما فرجة الآخرين و مضغة أفواههم ؛ أنت رجل لا كالرجال و أنت صبية بذت النساء ، و كلاكما تتمتعان بالذكاء و الإرادة ، فلم لا تحسمان الموقف حالا و بوجودي ؟
هنا اندفعت زكاء نحو صدر الدكتور العجوز الطيب ثم أجهت بالبكاء ، فعانقها و أخذ يربت على ظهرها بحنان أب رؤوف فازداد منير حيرة و ارتباكا ، إلا أنه لم يجد بدا من المواجهة و الدفاع عن النفس فقال مخلصا :
 دكتور عصام ، أنت كوالدنا ، فأعرني أذنيك إن سمحت ، إنني أشعر للمرة الأولى في حياتي كلها أنني متهم و أنني بأمس الحاجة لتبرئة نفسي ، فهلا قبلت أن تكون قاضيّ العادل ؟
فهز الطبيب راسه بالموافقة ، مما شجع منير على إكمال دفاعه :
 أنا لا أذكر أنني جرحتها بكلمة أو تصرف كما أنني لا أذكر أنني التزمت معها بأي وعد ؛ إنني أكن لها كل احترام و مودة ، أما التقدير و العرفان بالجميل و الشعور بالإمتنان فلا أظن أنني حملت مثلها لأي إنسان قبلها ، إن قلت أن شعوري تجاهها شعور أخ لأخت أكون قد جانبت التوفيق ، و الأقرب أن روحي امتزجت بروحها و أن عاطفتي تجاهها متميزة .

هنا كفت زكاء عن البكاء ، و نظرت نحوه من وراء غلالة دموعها بدهشة تمازجها فرحة طغت على كل كيانها ؛ و لكنه لم ينتبه إلى ذلك حيث أكمل قائلا :

 إنني يا دكتور ، منذ أن سرّحتني من المستشفى و أنا أتقلب على جمر الحيرة و الارتباك ، فأنا أحمل عاهة مستديمة- كما أخبرتني كما أخبرتني حضرتك - تجعلني أفكر ألف مرة قبل أن أقدم على قرار مصيريّ قد يؤذيها أكثر مما يؤذيني ، أنا لم أشأ الإرتباط بكلمة لأنني لا أملك أبعاد الكلمة حاليا ، إن عائلتي ستعود لإعالتي إلى أن أجد عملا يناسب وضعي الصحي ، و لكن بعد عام أو عامين ستجدني – إنشاء الله - مع والديّ - بين يديك طالبا يد زكاء .

ثم التفت إلى زكاء مقدما الساعة الذهبية التي تلقاها من الأمير قائلا بحنان :

 هذه عربون عهدي ، لا أملك في الوقت الحاضر سواها .
و بحركة مفاجئة أذهلت الدكتور عصام ، اندفعت زكاء تعانق منير و هي تقول له :
 رافقتك السلامة
وهامسة أكملت :
 يا حبيبي ......

*****

هبطت زكاء من عربة القطار ، ثم أخذت تتناول حقيبتها الصغيرة و حقيبة رفيقها ثم عاونته على النزول ، كان الدكتور عصام مرهقا فقد كانت السفرة طويلة و شاقة بسبب ظروف الحرب و تعرضوا خلالها للكثير من المخاطر و المضايقات .

قال لها يوم قرر ذلك : " لقد قدمت استقالتي اليوم ، فلم أعد أشعر أن صحتي على ما يرام ، ثم هناك هدنة أعلنتها الأمم المتحدة بين العرب و الصهاينة قد لا تطول فهذه فرصتنا التي ربما لن تتكرر ، لزيارة دمشق فهيا إلى الشام يا ابنة الشام "

و ما أن وجدت نفسها خارج محطة القطار حتى فوجئت زكاء بعالم صاخب - يبتدئ بساحة الطبيب الشهيد مسلم البارودي – يعج بالمركبات من جميع الأجناس و بالناس ، و بلهفة قالت للدكتور عصام :" هذا المنظر مألوف لدي " و عندما أوصلهما سائق عربة الخيل ( العربجي ) إلى أحد الفنادق بساحة الشهداء ، قالت له : " هذه هي المرجة " ، و قبل أن يحثها لولوج الفندق ، تسمرت و هي تركز بصرها نحو مدخل سوق الخيل ، ثم أشارت بيدها قائلة : " من هناك .. "

غفا الدكتور لساعة أو تزيد أما هي فخرجت إلى شرفة غرفتها في الطابق الثالث و هي تحملق بحافلات الترام ، و ما أن تمر حافلة عليها لافتة( القصاع رقم 5 ) ، حتى يضطرب قلبها في ضربات متلاحقة ، ثم صاحت فجأة : " أجل ، إنه ترامواي القصاع الذي سيوصلني إلى دار جدي " فنهض الدكتور في الحال مغالبا نعاسه و تعبه ، ثم توجها في الحال إلى موقف الحافلة .

" إنه حي الجزيرة " قالت زكاء فرحة ، فسأل الدكتور عصام قاطع التذاكر ( الكمسياري ) : " هل هناك حي إسمه الجزيرة ؟ " فأكد له ذلك و وعده أن ينزله هناك .

قال لها جزلا :

 لا بد أنك استعدت ذاكرتك !
فأجابته متلهفة :
 أظن أنه بيت جدي ، و لكنني خائفة .
 و مم الخوف ؟
 ألا يعرفونني أو لو أنهم رحلوا من ذلك البيت .
كانا قد وصلا و هبطا لتوهما من حافلة الترام ، و ما لبثت أن جرّت الدكتور إلى الوراء بضعة أمتار و بجرأة و ثبات تقدمت نحو أحد الأبواب فقرعته .
فتح الباب فتحة سمحت ببروز رأس طفل في السادسة ، أخذ ينظر إليها باستغراب ، ثم أدار رأسه نحو الداخل و أخذ ينادي أمه ، تقدمت سيدة متوسطة العمر بحذر و مدت رأسها من الفتحة ، صعقت و صاحت : " سميحة ؟ " و انهارت فاقدة وعيها .

إقتحمت زكاء الباب و أخذت تتأمل وجهها و هي تحاول اسعافها ثم قالت بصوت متردد : " خالتي إلهام ؟ "، و تقدم رجل يبدو أنه زوجها و هو يتساءل برعب : " ماذا جرى لها ؟ كيف سقطت و من أنت ؟ " و إلى زوجته مناديا: " إلهام إلهام ما بك ؟ " ثم نادى :" إعطوني ماء .... ماء " و التفت إلى زكاء مجددا : " من حضرتك ؟ " كانت وصلت اللحظة فتاة بعمر زكاء ، حملقت في وجهها و صاحت بدورها صيحات هستيرية و هي تقول : " ( مو معقول ....مومعقول ) يا بابا يا ماما ! " و بصوت مرتجف سألتها : " سعاد ؟!!! " فازدادت هذه اضطرابا و عادت تصيح كمن يستغيث " يا بابا يا ماما "
و قف زوج إلهام مندهشا ثم تساءل جزعا : " لعلك أختها التي التي " ثم صاح بدوره كمن يستنجد : " عمي .. عمي مرة عمي " ، و تقدم أبو لطفي مدهوشا : " من سميحة ؟ " و هرع نحوها غير مصدق ...

ركزت بصرها نحو الشيخ القادم و هو يناديها : " سميحة ... سميحة " فصاحت : " جدو ؟ أنا زكاء يا جدو " و ألقت نفسها بين ذراعيه ، و ما أن قدمت أم لطفي و أدركت مايجري حتى التحمت بهما و كذلك فعلت سعاد و إلهام التي صحت من إغمائها وشيكا .

ثم جاء الصغيرمناديا " (خاله ...خاله ) الدكتور في الخارج يريد محادثتك قبل أن يعود إلى الفندق " فهرعت إليه معتذرة ثم جرّته إلى الداخل قائلة : " هذا منقذي ... هذا من تبناني و أخذ بيدي خلال محنتي ! " ثم التفتت نحو الدكتورقائلة له بفرح شديد : " هؤلاء أهلي " لقد تذكرتهم و تذكرت كل شيء ، فأنا زكاء إبنة ربحي الرملاوي و أمي سميحة الطرابلسي و هؤلاء أهلها و أهلي " فأجهشوا جميعا بالبكاء .

*****

المشهد الأخير

جلست زكاء على كرسي مزين و قد أحاطت بها الزهور من كل نوع ، بينما إزدحمت غرفة الطابق العلوي بنساء و فتيات و أطفال ، و بينما أخذت بعض الفتيات يوزعن ( البوظة العربية بالفستق) على المدعوات كانت الأخريات يرقصن على نغمات عود ترافقة طبلة ( دربكة ) ، و قد بدت على الجميع فرحة غير عادية ،. و في صحن الدار جلس عدد كبير من الرجال بينما جلس منير في صدر المكان و عن يمينه والده و عن يساره الدكتور عصام و العم أبو لطفي ، و ثمت مجموعة من المنشدين أخذوا ينشدون قصة المولد .

" من هو وكيل العروس " ؟ ، نادي كاتب المحكمة الشرعية ، فنهض الجد أبو لطفي و هو يشير نحو الدكتور عصام ، هذا هو وكيلها : " تفضل يادكتور وقع " . حاول الإعتذار إلا أن أبو لطفي أصر عليه و هو يقسم أغلظ الأيمان ، فنهض الدكتور محرجا ، و لكنه ما أن وقع حتى التهبت أكف المدعويين بالتصفيق كما ارتفعت من الداخل زغاريد النساء.

رواية بقلم : نزار الزين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى