الخميس ١ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم بيانكا ماضية

فصل آخر

رتب الروائي غرفتَه التي بعثر فيها روحَه وأفكارَه وأوراقَه وأشياءه ، بعد أن أمضى زمناً وهو منشغل في كتابة روايته ، لم يدع لأفكاره فرصة للخروج عن نطاق الرواية ، كما لم يترك لقلبه فرصة للحديث معه ، فكان كلما أمسك القلبُ فكرةً ؛ ليزيحها من بين تلافيف دماغه ، صفعه على وجهه ليرتدّ خائباً منزوياً في ركن من أركان الغرفة ، يتأمل صاحبه ، متذكراً أيام كان يحادث فيها قلباً يكاد يشبهه .

وبما أن هذا الروائي يستطيع إحكام السيطرة على عقله ، إلا أن قلبه خرج عن طوعه وكان منه ما لم يكن في الحسبان ...
حين صفعه آخر مرة منزعجاً من كثرة إلحاحه وإصراره على أن يبعد الفكرة عن ذهنه ليرميها بعيداً ، جلس يتأمله ، ناظراً إليه نظرة عابس مستنكر ، وسأله :
 ما بك أيها الأحمق ، ألن تجعلني أرتاح منك قليلاً كي أستطيع الكتابة ؟
أجابه قلبه : ألن ترى أنك قد سجنتني بين ضلوعك ... لماذا تتجاهلني ... أنا الساكن فيك ... إلام تبقى في حديث دائم مع عقلك ، ألن تجعله يشرد عنك قليلاً ؟!
فكّر بهذه الكلمات جيداً ، رأى أن يعطي قلبه صك حريته ، وما إن فتح باب قلبه حتى خرج هذا الأخير متثاقل الخطوات ، يترنح ذات اليمين وذات الشمال ، ثملاً من وطأة الانعزال ... نظر إليه نظرة معاتب ... هز رأسه كأنه يود أن يلقّن صاحبه درساً لن ينساه أبداً .

جلس القلب ليستعيد قواه ، ينتظر الفرصة السانحة لانطلاقه خارج حدود هذه الغرفة ، وفي غفلة من صاحبه الروائي ، قفز وأمسك قبضة الباب ولواها بسرعة ، لينطلق هارباً تسابق الريحَ أقدامُه .
حين انتبه الروائي لهروب قلبه ، ضحك كثيراً ، عارفاً بعقله الفائق القدرة ، المكان الذي سيذهب إليه .
ذهب إلى المطبخ ... أحضر فنجان قهوة ، جلس يحتسيه ببرود شديد ، وهو يدخن لفافة تبغ تلو أخرى ، مسترجعاً بذاكرته تفاصيل ذاك المكان ...
نهض وارتدى ملابسه ... ألقى نظرة على غرفته مودعاً لساعات محدودة هيكلها وأشياءها وأثاثها .

استقل أول سيارة تقع عليها عيناه ، وطلب من السائق أن يقله إلى حديقة العشاق ... وصل المكان ... دخل الحديقة متأملاً من البعيد مقعداً خشبياً أخضر ارتمى بين أشجار الزعفران ، قادته قدماه إلى حيث ذاك المقعد ليجد قلبه قد جلس عليه واضعاً إحدى رجليه فوق الأخرى ، ويده على ذقنه كـأنه يفكر أو ينتظر أو يتأمل ...
نظر إلى وجهه فرأى الدموع تسيل على خديه ، أشفق على قلبه وراح يمسح دمعاته التي ما رآها قط على وجهه ، سأله :
 ما بالك أيها القلب الحزين ؟

رد عليه : لاداعي لأن تسألني ، أنت تعرف جيداً ، تدرك بعقلك الملازم لكل تصرفاتك علام أبكي ... ألم نكن هنا ذات يوم ... لم نكن اثنين وحسب ، كنا أربعة ، أنتَ وهي ، وأنا وقلبُها ... يالقلبها ... أكاد أنفطر من شدة الاشتياق إليه ، ويا لقسوتك ، ألم تحن إلى تلك الأيام ، ألم يسحقك الاشتياق ، لم أعرف رجلاً يمضي زمانه مع الحبر والورق من دون أن تهتز خلاياه لأنين قلبه .

مضى القلب بكلامه المتواتر موبخاً ومعاتباً ومستجدياً ، إلى أن رقّ صاحبه له ، مشفقاً على حاله ، ناظراً إليه نظرة تعده بأنْ سيغتبط بعد قليل ...
أخرج الروائي هاتفه المحمول من جيبه ، وراح يفتش عن اسم حبيبته في القائمة ... وجده ... ضغط على زر الاتصال ، ثم وضعه على أذنه ... انتظر قليلاً ... وما إن سمع صوتها قادماً إليه من البعيد حتى وجد قلبه يسقط على الأرض مغشياً عليه .

رشّه بماء روحه فانتفض القلب ... نهض ... استرجع أنفاسَه ، وشنف آذانه ليسمع جيداً الحديث الذي انتظره دهوراً :
 ألو ... مازلتُ أغلو بوحدتي من غربة التيه ...
 لاتزال أيها البعيد قريباً لخيالي ، ووددتُ يوماً أن أخلعكَ من ذاكرتي ، لكنك كنتَ ذا قبضة قوية ، تمسك بأحاسيسي فلا تنفكُ أسراً عنكَ .
 مازلتِ أنتِ الأقوى ، لأنكِ جعلتِ القلبَ يركضُ إليكِ .

ابتسم القلبُ ، وهز رأسه موافقاً صاحبه ، وأشار إليه بيده أن يسألها عن قلبها :
 هل لايزال قلبكِ يتسع لقلبي وأحزاني وأقداري وحنيني إليكِ ؟!
 منذ أن افترقنا ، وأنا أبحثُ عنه ، لاشك أنكَ خبأته بين راحتيكَ ؛ لتمارس كل أنواع الخراب في روحي ! من أي مكان تكلمني ؟!
 من حديقة العشاق !!
 كان جميلاً وأخضر ذاك المكان ، كالعشب الذي امتد ولم ينته ، وكان النسيم يلّوح لي من البعيد أن أقترب ليلامسني فيسحرني بظلال الأفق البعيد .

لم يكن الزمن شيئاً لأمسكه ، كان يفلت من بين أصابعي كالزئبق ، وكأنني ، وأنا أدخل في مداراته ، يحيطني الحلم من كل الجهات ، وخلدت لسكون فردوسي كأنما هو الذي كنت أطارده لأكتشف كل ماهو مكنوز فيه .
ماذا يشتهي المرء في عالم أحلام كهذا ، غير موت جميل في حدائقه ، لكنه لم يكن موتاً يوقف نبضات الحلم في داخلي ، كان حياة سقطت إلي كقطرة مطر من السماء ، ومازلت أشعر بزخاتها على وجهي .
هناك ... كنت أقرؤكَ جيداً حين تشرد في ذاك الفضاء الجميل ، وكنتُ أحسن الاستماع إلى صوتك الداخلي ، وكنتَ تحسنُ الشرود في مفرداتي ، ألهذا التقينا ومازال الصمت يجمع بيننا ؟!!
 لاتزيدي مواجعي ، أنتِ تعرفينَ أنني مازلتُ في فصول الرواية !
 ومتى تنتقل إلى فصولي ؟
 حين تأتين إلى المدينة التي أحبتكِ !!
 هل مازالتْ جميلة ؟
 حين نكونُ معاً تكون المدينة جميلة ، أما بدونك فهي مدينة ككل المدن ... اشتاقتْ إليكِ هذه المدينة !!
 لماذا تعبث بأقدارها ، ولماذا تغير بوصلة اتجاهي نحوها ، لم أعد أعرف أين تختبئ أسرارُها ، أأبقتْها في حقيبتكَ أم رمتْها على قارعة أيامكَ ؟!
في شوارعها كانت المغامرات حمقى تترك تيهها على الطرقات ، وكنت ألملم بقاياها لتحكي لي قصص توهجها ، وقصص خذلانها ، ماتراه تحكيه الآن بعد أن هجرتُ فيها نهراً لم أغرف من قيعانه سوى أنين يسيل ، ونهارات علّقتُ فيها ذكرياتي ؟
 مازالت الذكريات منثورة في كل أرجائها ، أنى رحتُ تتأمل تفاصيل وجهي الذي بدأ يغيب ... وكأنها تسائلني عنكِ !!

التفت الروائي إلى قلبه فوجده يبكي بكاء مراً ... ربّتَ على كتفه ... فأيقن القلب أنها ستأتي لامحالة ... تابع الروائي حديثه :
 متى تأتين ؟
 حين تنتهي فصول روايتك !
 إن الحروف تختنق في حلقي ، وتتقافز الأشياء المنسية إلى خيالي ، تطل إلي من بين كل الأشياء الجميلة ، لتذكرني بوجودها في عالمي ...

هناك كان جالساً تعرش فوق كتفيه ظلال الزعفران ، وكان المساء أمواجاً تقهقه في دعة وحبور ، وكانت ظلال الأشجار تترك مجلسه لتخيم في الأفق البعيد ، ترنو إليه ، حينها ملأت أفقه بندى لايزال معلقاً بمجيئها ، مجيئها الذي سيقرع ناقوس روحه ليبدأ بالحياة .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى