الأحد ٤ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم محمد المهدي السقال

أربعُ نساء

حَضَنْتُ البُنَيَّة كما يحضن مُودِّعُُ أمَّهُ في لحظة فراقٍ غير مأمون العودة ،

لم تكن أكثر من قطعة خشب بين ذراعيَّ ، هل بدأت تكبر !؟ تواصل التحديق في السقف، لعلَّ العناكب العالقة تتحرك، نظرتُ إلى عينيْها مُتَجَرِّعاً لامبالاة طفولة بريئة.

وحدها في البيت لا تعرف وجهة سفري إلى بلاد بعيدة، تحاشينا التكتم , لا يبدو عليها اهتمام بالموقف، لمحتُ أمي تراود نفسها للتظاهر بالصبر، بينما عينُ زوجتي على يديَّ تمسكان بانفعال ظهْرَ الطفلة إلى صدري.

في سن الثامنة، تأخذُ ملامح الأنثى في التَّبَلور.

رغْم انْكفاءِ وجهها بحضن كتِفَيَّ , كنتُ أتلمَّسُ تفاصيل استدارة زُرْقة البؤبؤ , بشرتُها الناصعة لا تشبهها غير صورة " مريم " على الحائط منذ أربعين عاماً ,

وعيتُ في سن العاشرة بوجود امرأة في البرواز ,

سمَّوْها " مريم " , تتوسط شمساً ذائبة الجَنبات بأشعَّة أرجوانية , ثم عرفت أنها العذراء , ولم تكن في ذهني أية فكرة عن عذريتها الجنسية ,
أما " خديجة " ,

فقد كانت ساعتها وفي حدود علمي عذراء ,

هل سأجدها كذلك بعد غيْبة خمس سنوات ,

ظلَّتْ أمِّي صامدةً تقرأ في نظراتي حُرقة الافتراق , بينما ظلَّتْ نظرات زوجتي حادَّة تلتصق بابتسامة عريضة انفرَجَتْ لها أسارير الصغيرة ,

تطلعتْ إلى خدِّي توَدُّ أن تقَبِّلُه , شفتاها الدافئتان , لم تلْحقا غير ذقني المُشوَّك ببداية نبْتِ شُعَـيْرات عمرها أقل من أسبوع ,
منذ أُبْلِغْتُ بموعد الرحيل إلى مَنْفايَ الاختياريّ , لم أفكِّر في تمرير موسى على وجهي ,

طالتِ الانتظارات , ولولا هذا العقد الذي كلَّف زوج أختي خمسة ملايين , لكنت إلى الآن أرشف مرارة الغد مُعَـطَّلاً بقوة القانون ,

ينُصُّ قرار عَزْلي عن الوظيفة , بعدم السماح لي بامتهان أي عمل في المؤسسات الحكومية ,

كم كنتُ أضحك من نفسي , حين أتذكَّر أنني لم أُتقِن عملاً يَدويّاً واحداً ,لا أعرف كيف أمسكُ حتَّى بمطرقة ,

ظلتْ حِرفتي الوحيدة الكتابة في جريدة الحزب , حتى كانت تلك المقالة التي قصمت ظهر البعير :

لا غالبَ إلا عصا الوزير .

هـلَّلَ الجميع لاِجترائي , لكنهم لم يلبثوا أن نسوا اسمي و وجودي , تلك حكاية أخرى ,

تحركتْ " خديجة " تحاولُ الوقوف على قدميها , علا وجه زوجتي انشراحُُ بعد ضيق , وخجلاً من حضرة أُمِّي, لم أضُمَّها إلى صدري كما كنتُ أفعل في خُلوة الوِصال , شددتُ على يدها بحرارة , أعلم قسوة انتظارها خمس سنوات إن بقيتْ في العمر بقيَّة ,

كنتُ أتسَمَّعُ شكواها من عُقْم أحَديْنا , رغم تأكيد الطبيبة بأن المشكل ليس منها , لم تُشعِرني بأدنى حَرج , أكثر من مرة , تواعدْنا على أن أعرضَ نفسي على الطبيب , لإجراء تحليلات السائل المنويّ , لكن كل مرة , كان يطرأ عارض قاهر يحول دون ذلك , لحسن الحظ أنها كانت تعي الظروف وتتفهَّم تخلُّفي عن ذلك ,

انسحبتْ خديجة إلى المطبخ , ارتمتْ أمي على صدري فانحنيتُ لأقَبِّلها , بينما كانت زوجتي تسرح خلف خطوات البُنَيَّة , أحسستُ كأنها القبلات الأخيرة , لم تكن نظراتُها إليها كتلك التي رمَتْها بها عينُ الرِّضا , حين جاءتْ بها أمُّها تعْرضُها علينا , لِسَتْر فِعْلتها خوفاً من العار , كما قالت .

*****

في انتظار 8 مارس 2001


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى