الأربعاء ١٤ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم محمود الديداموني

القِطـار

قالت: حتماً سيتوقف القطار، وراحت تنظر فى مرآتها، تتحسس ملامح وجهها، لم يزل خلف ستائر نضارته، تنهدت بعدما سكنت عينيها دمعة... راحت تحدق فى اللاشيء، تتراءى لها على البعد أطياف تغازل حلمها، وتداعب أطيار مخيلتها.
القطار يتهادى من بعيد، ولأول مرة..
المرآة لا تزال فى يدها، رفعتها ثانية، تتطلع وجهها، انعكس فى مخيلتها ضوء صادف وجهي، صهرني، احتوتني، أحسست بتخلقي داخلها، تثرثر، كأنها تحدثني، ثم راحت تدلك جسدها فى رفق.

فى عينيها ألمح وجوهاً ملثمة، تختفي معالمها عنى تماماً، تحاول هي استجماع معالم الوجوه، أصيبت بالرجفة، وأشاحت بوجهها بعيداً، كنت أنا الآخر قد تعبت من ملاحقة عينيها، فنمت.

في عينيها رأيت حركة القطار عكسية.. تقف على حافة المحطة، بين أعواد الغاب والبوص.. مضفرة الشعر، تحركها أهواء الطفولة، تمرح كفراشة فى فضاءٍ رحب، ترتسم معالم أنوثتها شيئاً فشيئاً.
رأيتها تفلت من أحدهم، عندما كانت تتوارى خلف أعواد الغاب.. رأيت... أدركت خطورة موقفها، أعطت ظهرها للقطار.. وبمرور الوقت عادت تنتظره متوجسة..

الكلمات تنطلق مخترقة خواء القرية، تمزق فى عنف ثوبها الملفوف حول جسدها... لم تهتم، بينما تحاول رسم ابتسامة على وجهها طالما استعذبوها.
آه .. أشعر بها تخترق جدار غرفتي، تؤرق مضجعي.. أسمع تلك المرأة غليظة الصوت، تنهرها، تصر على معرفة كل شيء.. تحاول لكمي ما استطاعت، أتفادى ضرباتها واضعاً يدي فوق رأسي، متكوراً على نفسي، رغم كل ذلك.. أشعر بالوجع يتسرب إلى جسدي الرخو.. ما تلبث أن تتوقف, مأخوذة بالحنين إلى فتاتها.. تنهنه فى ألم.. تمسح عن جسدها آلام القسوة قائلة: لن يرحمنا الناس.
تعاود القارة, يغلبها التعب, يأخذها الحنين, تجد وتحزن.
والجسم الأبيض البض تحول إلى قطعة زرقاء, بدا هزيلاً.. لم تنبث بكلمة, وأنا لا زلت متشبثاً بالبقاء.

فى المساء غافلت القرية, ألقت بنفسها بين أعواد الغاب, والظلمة تغزو أرجاء المحطة إلا من لمبة وحيدة, تحاول ما استطاعت, شعرت بقدرة اللمبة على تبديد الظلام, فكلما اشتد الحصار حولها كلما بدا ضوءها..
قالت متنهدة: ياه.. هل أعجز عن أن أكون مثل هذه اللمبة؟ كانت الأفكار تغزوها, والكلمات تصارعها.. والأمل يطل ويخبو, وبينما هس كذلك , تداعب جدران حجرتي, أشعر بالأمن.

العاشرة موعدنا, هكذا قالت, بعدها ستغادر القرية, من أجلك أنت.. يا قطعة مني.. يا قطعة منه.. أقدر ظروفه، رسالته لي تؤكد مجيئه.. لن يخلف أبداً موعداً.. نعم سيأتي.. ثم متحسسة جداري.. ستخرج إلى القرية تتحداه.. هم لا يعرفونه مثلما أعرفه.. لقد أخبرني أنه معي شعر بذاته, أحس بطعم الحياة, كنت نهره الدافق,.. ثم متوجسة.. فهل يكون حصني المنيع؟
ألقت بالكلمات من فضاء عقلها المضطرب.. وراحت تترقب الضوء القادم من بعيد..

صوت القطار يصفع صمت الظلام, وضوءه يمزق رداءه الثقيل، لمعت عيناها بالفرحة, وارتسمت على شفتيها ابتسامة حذرة..
يتهادى القطار أمام عينيها, ومحاولات دفعه مستمرة, الوجوه الملثمة تتضح شيئاً فشيئًا, والقطار يسير، المشاعل من خلفها تبدِّد حلكة الليل, والفضاء يعج بالصراخ والصخب والريح تقصف بالمكان, لوَّح لها يمكنها الصعود, فالقطار يسير بطيئاً, بطيئاً..
لمعت الفرحة فى عينيها, قفزت داخله, راحت تقرأ الورقة بسرعة, أحسست بذبذبات جسدها.. كادت تتهاوى.. تماسكت.
كنت أنا الآخر قد كرهت البقاء, قرَّرت الثورة على الخوف.. ربتت على جسدي كى أتمهل.. لم تستطع الصمود أمام ثورتي.. راحت فى غيبوبة عميقة..
خرجت إلى الفضاء صارخاً, تنهدت بعدما أفاقت.. أخرجت لفافة من صدرها.. خلعت عباءتها, لفتني بها, ربطت باللفافة على جسدي.. أحسست فى عينيها شيئاً.. داعبتها بيدي, ابتسمت وفجأةً... ألقت بنفسها من القطار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى