الأربعاء ١٤ آذار (مارس) ٢٠٠٧

ردُّ الاعتبار لِمن هم بين الماء والنار

بقلم : محمد انقار

[1]
المساء رائق رغم الجو الخريفي. وفي الشرفة العريضة لك المتكأ الوثير والوسادة الوردية، وأمامك الطاولة المكفتة تزدان ببراد الشاي والكأس المذهبة وطبق الحلوى الفضي. شرفتك في دار »المضيق «. نعم دارك »بالمضيق« التي لم تحلم بمثلها عندما غادرت المدينة قبل خمس وثلاثين سنة شبه معدم. وهل كنت تحلم آنذاك بشيء إلا أن تحصل على الجواز وتقطع البحر وترى حقيبتك الكرطونية ترتاح على بلاط فندق مهترئ في »أمستردام« في انتظار أن تشرع في العمل ؟. في تلك الأيام العصيبة لم تكن تتمنى إلا الفرار من نظرات البؤس تقرأها في عيون الأولاد والزوجة، تنضاف إلى نظرات الجيران الصامتة تحاصرك من كل جانب كالأسلاك الشائكة فتدمي قلبك وتريق دمعك. ولولا أن الخالق تعالى كان قد ميزك بالبشاشة وخفة الروح وحب النكتة لكنت قد ذبت في الهواء وتناثر غبارك من فرط ما سال منك من دموع المكابدة والمعاناة. وها أنت اليوم تدنو من السبعين تتمدد في شرفة دارك حرسها الله من عيون الحاسدين. قبالتك شاطئ » المضيق« وقد أحال المساء الخريفي ماءه إلى لون رمادي، واحتضنه في وداعة » الرأسُ الأسود« وخلع عليه مهابة السكينة.

دار » المضيق« دارك. ودار » تطوان« في الشارع الرئيسي دارك. ودار » أمستردام« دارك. لكن هل أبقى الضنك على شيء من متعة التملك التي تأججت نيرانها يوما في قلبك بعد أن استقر بك المقام في بلاد الروم وأقبلت على العمل بكل ما في بدنك من قوة بدوية متوارثة عن الأجداد ؟. عاينت بغبطة كيف يزكو رصيدك البنكي شهرا بعد شهر فتناسيت حرقة الغربة. ووصلت إليك الأخبار السارة من الوطن مبشرة بتحسن حال الأولاد قبل أن تستقدمهم إلى جانبك. لكن أينك اليوم من تلك المتعة ؟. هاهي الجدران المرصعة بالفسيفساء لا تتكلم. وهاهو الأثاث المستورد مباشرة من محلات الديكور الهولندية موحش غريب تحت أضواء النيون. كأنها دار ليست لك. هي غريبة عنك وأنت غريب عنها. في أرجائها الباردة تتراقص أشباح الوحدة، وفي مرايا رخامها الناصع لا ترى سوى صور العزلة، كأنك لم تسعد قط بضجيج الأولاد وزعقات الخليلة ودلال الأحفاد.
رشفت الشاي دونما لذة مثلما أعددته من دون لذة في صمت المطبخ الفسيح. مططت رجليك فوق المتكإ الطويل ومددت بصرك نحو البحر. فعلت ذلك مليون مرة. وفي كل مرة كان يرتد إليك بصرك مهزوما. ليس ثمة في الأفق سوى ضباب المساء المتلاشي كأنه العمر نفسه وقد تمزقت مراحله إلى ندف حقيرة وتساقطت أجزاؤه في خيبة.

انقطعت عن الدراسة تحت ضغط الحاجة بعد أن عجزت أمك الأرملة عن الخدمة في بيوت المسلمين والنصارى. وخرجت إلى الحياة فتى مندفعا لا تبالي بتعب المهن الصغيرة التي مارستها ؛ ماسح سيارات في محطة للبنزين، فرانا في مخبزة، ومساعد سمكري. ومع السمكري المتجهم مكثت أطول مدة، تعملان في إصلاح الأنابيب وتعودان إلى القبو المنحرف الشديد الرطوبة المغروس تحت درج عمارة.

وتزوجت من طبقتك الكادحة. بنت عائلة بدوية حديثة الهجرة، استقرت في ضاحية المدينة حيث استقر والدك في بداية الأربعينات. وبعدما تكاثر نسلك وخنقتْك المتطلبات ضاقت بك السبل ولم يعد مردود المهنة الصغيرة يكفي. وفي ليلة أرقٍ دامس عزمت على أن تقطع البحر. لكن العزم وحده لم يكف، بل لزم أن تتحرك في كل الاتجاهات وتسخر كل إمكانياتك للحصول على الجواز الأخضر. في البداية هاجرت بمفردك مغامراً ومسلماً المصير لله. عملت في السر شهوراً إلى أن ظفرت بعقدة عمل في العاصمة الهولندية. ومن الألطاف السماوية أن فرص الشغل في الزمن الأول للهجرة كانت متوفرة. ثم التحقتْ بك العائلة بعد أن سويتَ أوراقك وتمتعت بوضعية قانونية.

وفي » أمستردام« ولج الأولاد مدارس مهنية تخرجوا فيها وحصلوا في يسر على مناصب عمل، في حين أخذت أمهم بمظاهر الحضارة الرومية الجذابة فراحت تتنازل بالتدريج عن عاداتها القروية وتغير ملابسها وأحذيتها وطريقة العناية بشعرها. حتى أفكارها عرفت تحولا جذريا. وذات يوم اكتشفت أنك قد فقدت السيطرة عليها فنزل عليك الاكتشاف كالصاعقة. ومع ذلك ازدهرت أحوال العائلة ووفرت المال وشيدت أكثر من منزل في المغرب وفي هولندا، وانخرطت ذريتك في مشروعات تجارية رابحة.

وتزوج معظم الأولاد والبنات إلا أصغرهم الذي ضرب بكل شيء عرض الحائط ومال نحو طريق الضلال. بعضهم جلب زوجه من المغرب في حين وفق آخرون إلى اختيار شريك الحياة من » أمستردام« نفسها. وباستثناء آخر العنقود لم تنقطع صلة ذويك ببلدك الأصلي، يزورونه صيفا لقضاء العطلة السنوية وإحياء صلة الرحم والاستمتاع بالبحر. لكن مع توالي السنين عاينت في انهزام كيف أن علاقة الولية والابن الأصغر بالوطن قد بدأت تفتر رويدا رويدا. وعندما تقاعدت شرعت أطياف الحلم الكبير تتبخر فاستشعرت فراغا رهيبا على الرغم من قرب العائلة ووجود البقية المتبقية من أصدقاء الجيل الأول من المهاجرين على قيد الحياة. وأطفأ الحنين وألم الغربة وهج البشاشة في شفتيك فلم تطق صبرا. وفي عام إحالتك على المعاش ترددت على المغرب في أكثر من مناسبة بدعوى الاطلاع على أحوال الممتلكات أو لمجرد السياحة. لكن مع مرور الأعوام أصبحت تقسم حياتك بين المغرب وهولندا صحبة زوجك التي قبلت ذلك على مضض. كانت قد ألفت نمط العيش الغربي وارتبطت هناك بصداقات نسائية منفتحة. وحينما تقدم بها العمر هي الأخرى لبت النداء الخفي الصادر من ناحية أبنائها وأحفادها فانحازت إلى صفهم وتوترت جراء ذلك علاقتك بها. وذات يوم احتدت بينكما مشادة كلامية عنيفة أوشكتَ خلالها على النطق بالطلاق بعد طول العشرة. كان يوما أسود فاصلا. وهاهي شهور ثلاثة تفصلك عن تلك المشادة قضيتها وحيدا في دار » المضيق« بعد أن امتنعت أم الأولاد عن المجيء معك.

ويرجع بك البصر من الأفق البحري الممتد فتستوحش المكان، ويطير بك الخاطر متأملا دقائق مسيرة حياتك التي قدر لها أن تنتهي بهذا الانفصام المرير. ونقبت في ثنايا ذاكرتك عن مرح الشباب وخفة الدم وغزارة النكت لكن بصرك اصطدم بمرتفعات » الرأس الأسود« فلا أفلحت في تجاوزها ولا قدرت على كبح ذهنك عن التيه العنيف…

[2]
رن الجرس ففتحت زوجتي الباب فإذا بصوت منظفة العمارة يصل إلي في خمول وأنا ممدد على الفراش شاردا مع برامج التلفاز الصباحية. قالت رحمة :

» -لست أدري هل سأستطيع تجفيف الدرج في هذا الصباح.. أصابعي تلتهب كأن بها نارا.. انظري.. «

وتخيلت رحمة تبسط يديها أمام وجه زوجتي وتبرز ما بين أصابعها من شقوق حمراء كأنها ستتفصد دما. إني أعرف تاريخ يدي رحمة الشهيرتين بقروحها والتهاباتها وصديدها الناتج عن إدمان تجفيف العمارات والحوانيت والأرصفة والتأثيرات المزمنة للمواد الكيموية المطهرة..
واستخرجت رحمة القوة من الضعف :

»-أسعفيني بسطل ماء.. «

وتلكأت زوجتي في الاستجابة وقالت دونما حماس كبير :

» -أجلي التجفيف إلى يوم آخر.. «

وردت رحمة بصوتِ يَتْمٍ :

» -والجيران ؟. أتراهم يصبرون على انقطاعاتي المتكررة ؟. إنني خائفة من أن يستبدلوني.. «

وجيء لها بسطل الماء فانكفأت إليه. ولا أظن أنها شمرت عن ساعديها كما العادة ولا هي رفعت نصف جلبابها الأسفل لتأتزر به. ومن الثابت أنها حاولت أن تضم أصابع يمناها إلى بعضها بعض ببطء ثقيل، وعندما كادت أصابعها أن تتجمع وتتخذ شكل قبضة صاحت كالملسوعة :
» -آ آ آي ي ي.. ! ! «

وجعلتني لغة الآي آي أتخيل باقي التفاصيل كأني أقف بين المرأتين. وبادرت زوجتي في إشفاق :

» -سأعطيك الدواء الأحمر.. وإن كانت حالتك في الواقع تستدعي زيارة الطبيب ! «

ودلفت زوجتي للبحث عن الدواء. وفي أثناء غيابها ستكون رحمة قد أفلحت في الإمساك بمقبض السطل بأناملها المتشنجة من دون أن تنقطع عن التأوه، وسترفع نحوها السطل الثقيل وستضطر إلى أن تسنده من الأسفل بأصابع يدها اليسرى وستريق الماء على الدرج ليندلق بفتور غير معهود في أذني وستتمكن من القيام بهذه المهمة.. لكنها الآن تصرخ :

» -أيدّي.. أيدّي.. «

وتصورت زوجتي تعاني مرتبكة وقنينة الدواء في يدها. ثم سمعتها تعاتب ببعض الحدة :

» -أرحمة بدّلي هذه الساعة.. أجلي التجفيف إلى أن تبرأ يداك ! ! «

لكن المرأة تابعت حركاتها من دون أن تنقطع عن التأوه ولا هي بالت بقنينة الدواء. ثم سادت فترة صمت أعرف أنها تعني بداية الاستعداد للتجفيف، وهي المهمة الأشق والأصعب. وطلبت رحمة سطل ماء ثان فجاءت لها به زوجتي. وتمثلت الخادمة تمسك المقبض بأطراف أصابعها اليمنى، ثم وهي تغمس الجفاف في السطل وقد لزم أن تغمس يديها أيضا. وكان من المنطقي أن تتأوه فشاركتها زوجتي التأوه. ومن المؤكد أن المرأة أخرجت الجفاف وقد ضمِّخ بالماء ووجب عليها أن تعصره لتيبّس به سطح الدرجات المبللة. ولا شك أن ذلك اقتضى منها أن تلويه بكل ما أوتيت من قوة إلى أن تجاوز الألم طاقة صبرها. وسمعتها تجهش بالبكاء. بل إن الأمر وصل إلى حد أن السائل الأحمر فار من بين أصابعها. أدركت ذلك من كلام زوجتي المرعوبة :

»-الدم.. الدم أرحمة.. ! «

وتخيلت قطرات الدم تسيل وتمتزج بالماء المتسخ. آنذاك لم أطق أن أظل محايدا فغادرت الفراش مندفعا ووقفت وراء الباب وإذا بزوجتي تهرع نحو المرأة المتأوهة وتنتزع منها الجفاف في عنف. أما أنا فلم أتماسك عن تجاوز الباب المفتوح وضرب السطل البلاستيكي بقدمي فتدحرج في الدركات وتدفق ماؤه المخلوط بالدم. وصحت في المرأتين :

» -لماذا كل هذا الخوف ؟ ! «

وقادت زوجتي رحمة إلى وسط الدار وهي تبكي وتتأوه وأصابعها مفتوحة إلى أقصى حد. ثم أجلستْها فوق كنبة. نشفت أصابعها وعالجتها بالدواء الأحمر. وحينما استقر حالها أسعفتْها بكأس قهوة وقطعة حلوى. وعاينت المرأة تمسك الكأس بصعوبة شديدة، واستحال علي أن أجمع أشلاء صورتها يوم أن كانت عروسة وقد خُضّبت يداها بالحناء المزركشة، في حين تخيلتها، وهي الخادمة الوحيدة، تتدبّر أمور معيشتها في بؤس دونما مساعد. ودسسْتُ في حضن جلبابها البني القاتم ورقة مالية، ثم قلت لها بعتاب آمر :

» -اذهبي من الآن إلى الطبيب.. أما الجيران فسنتكفل بهم«

وعدت إلى فراشي، وتركت المرأتين تخوضان في تفاصيل الأمراض.

[3]
» عين بوعنان« مكان مناسب للتأمل واستعادة ذكريات الطفولة. وقريبا من صنبوري الماء المتدفق من الجبل جلسنا تحت تينة وارفة نستنشق عبير الشاي بالنعنع وننشغل بين الحين والحين عن الكلام بطنين النحل وتهديداته. ومن موقعنا العالي بدت لنا » تطوان« ممتدة طولا، منتشرة في سفح جبل » درسة«، تتخللها المباني كأنها نقوش في إزار أبيض، وفي سياق حديث مشحون بعبق الماضي تساءل حمزة :

» -لست أدري كيف تسرب إلى حياتي حب الرسم والمرأة والخمرة حتى تحكموا في مصير عمري… ؟ «

منذ أيام المدرسة الابتدائية لفتتني في الصغير حمزة قوة خارقة مجهولة المصدر تمكنت منه وجعلته لا يفتر عن تحريك أصابعه اليمنى على الصفحة بتلقائية، وأكسبته طواعية عجيبة على ممارسة الخط والرسم والتلوين. وتأسى الصبي بالرسم عن الوالدة المتوفاة والأب الأمي المعطوب وأصدقاء الحارة الذين يقدسون اللعب، ووجد في نفسه هوى جنح به إلى إدمان الخلوة في غرفته المتواضعة، والابتعاد عن الإخوة ليخط ويلون ويتخيل ويقص بالمقص. وفي المرحلة الثانوية لفتت موهبته بعض أساتذته فنصحوه بالتخصص في مادة الرسم فشجعته النصيحة على متابعة دروس حرة في » مدرسة الفنون الجميلة« جمع بينها وبين دراسته النظامية. وذات يوم اطّلع حمزة على خبر في سبورة إعلانات الثانوية عرف من خلاله أن إسبانيا تقدم منحا لمتابعة دراسة الرسم في مدريد. واهتم الفتى بالخبر اهتماما صرفه عن كل ما حوله ؛ المدينة والوالد والإخوة والأصدقاء. واستفسر في الإدارة عن الوثائق اللازمة فأعدها في ظرف زمني وجيز. وكان الأب كهلا لا يعرف ماذا يقدم وماذا يؤخر فلم يجد ابنه صعوبة في الحصول على موافقته. وما زلت أتذكر تلك الأيام الحاسمة عندما تحرك حمزة ليجمع نقود السفر. كان يتنقل بين أقربائه وجيرانه كالملسوع. وبفضل مساعداتهم حصل على ميزانية صغيرة تكفي للتذكرة والإقامة المؤقتة. وقطع صديقنا موسمه الدراسي وودعنا دونما حسرة أو ندم وكأنه خلق وشب وأُعد لكي يعيش في الخارج.

قال حمزة :

»-بعد أن اجتزت البحر وجدت نفسي في عالم جديد كله بهرجة وأضواء ومغريات. وفي مدريد خضعت لاختبار فني قبلت على إثره في مدرسة الفنون. لكني طولبت بحضور حصص إضافية وتقديم مجهود مضاعف لأتمكن من استرجاع ما فاتني من الموسم الدراسي. وبفضل كل ذلك وبفضل الموهبة تمكنت من المسايرة ومن أن أكون عند حسن ظن الأساتذة…«

وتوقف حمزة عن الكلام ليرشف من كأسه وليراني أرشف من كأسي وأستمتع به. كان يعرف أني أحفظ عن ظهر قلب تفاصيل مأساته من فرط ما كررها على مسامعي. لكنه في كل مرة يرويها يستمتع ويفترض أنني أستمتع أيضا. وتابع حمزة حكيه بانبهار كانبهار مكتشف قارة جديدة :
» -في مدرسة الفنون شاء القدر أن ينقض علي الحب طفرة واحدة بعد أن دخلت كارمن حياتي من حيث لم أحتسب. فتاة تميل إلى القصر والسمرة لكنها مليحة التقاسيم، خفيفة الدم يتناسب شعرها المقصوص مع قوامها المقدود وابتسامتها الدائمة. كانت زميلتي في الدراسة، أُعجبتْ بموهبتي وتنبأت لي بمستقبل زاهر. وعندما كنا نجلس في المقهى أو فوق مصطبة بحديقة » الرِّطيرو« أستسلم لسحر ابتسامتها وآمرها بألا تتحرك ثم أشرع في رسم وجهها الجذاب كالمغناطيس. لقد مثلتْ لي تقاسيم وجهها التحدي الأكبر الذي يلزم أن أنتصر عليه. لست أدري كيف أوضّح لك. كان وجهها هو كل الحقيقة التي ملأت علي دنياي. وصدقني إذا قلت لك إن ظلال تلك الحقيقة لا تزال تغطيني إلى الآن ونحن في جلستنا هذه. تخيل أن رجلا على وشك الغرق في بحر هائل يرى من بعيد ضوء منارة فلا الضوء يتوقف عن الإشعاع ولا الرجل يغرق ولا هو يصل إلى المنارة التي ينجذب نحوها… كذلك حالي مع وجه كارمن…. «

كنت على علم بتفاصيل هذه الصورة مثلما كنت أعرف بقية القصة. لكن ضريبة المشاركة الوجدانية تقتضي في هذه المرحلة الحرجة من عمر الصديق أن أبدي تجاوبا معه. ومن خلال تجربة الاستماع الطويل إلى حمزة تأكدت من أنه يستجديني في صمت أن أحسن تمثيل دور المستمع. كان يعرب عن ذلك من خلال نظراته وحركات يديه. إنه يرجو مني ألا أظل كهؤلاء الأصدقاء المحايدين الذين يجمدون كالصخر عندما تتحدث إليهم وتتمنى أن يشاركوك همومك، أو يساندوك ضد متكلم خصم. لكنهم لا يفعلون وإنما يتركونك في مجلسك تتلظى نارا. والإنسان من دون سامع يظل يكتوي وحيدا.

قال حمزة :

» -أدركت فيما بعد أن كارمن لم تبادلني نفس العاطفة وإنما اعتبرتني مجرد زميل موهوب قادم من بلاد أجنبية يحتاج إلى رعاية في حين احتفظتْ بحبها الحقيقي لِبيدرو الذي يعمل خارج دائرة الفن. كانت تحدثني عنه وإن لم أره قط لأنها تركته وعائلتها في المدينة الصغيرة التي أتت منها. لكني لم أستطع استيعاب هذه الوضعية، فقد كنت ألغي وجود بيدرو وأنساق مع تأجج نيران الهوى في أعماقي بعدما غمرتني كارمن ببحر زاخر من تفاصيل السلوك الحضاري ومظاهر الرقة والحنان. وما زلت أتذكر وقفتها ذات يوم أمام مدخل المدرسة وهي تشرح لي تشكيل أحد رسوم سالفادور دالي وتستعين بيدها في الشرح، وفي لحظة اصطدمت يدها اليمنى بصدري في رفق ناعم، لكنها تأثرت للصدمة غير المقصودة وتوقفت عن الكلام ثم قالت معتذرة :

-سامحني يا حبيبي…

ثم قبّلتْ موضع الصدر الذي اصطدمت فيه يدها فتكهربتُ.

ولم أتمالك من الابتسام. وقلت لحمزة :

» -ضربة الحبيب كأكل الزبيب.. ومن ذا الذي يمكن أن يشبع من أكل الزبيب..؟ «

ثم مهدت له الطريق لعله يطفئ نار الجمرة :

» -شجعتني كارمن على الجمع بين الدراسة والعمل فعثرت لي على منصب شاغر في أحد المطاعم الفاخرة لكني سرعان ما تخليت عنه بدعوى أن العمل مع الأجانب يعد نوعا من العبودية. أنت على علم بتأففي من هذه الفكرة التي لا أعرف على وجه التحديد من أين ابتليت بها. ربما كانت من رواسب أصلنا الشريف، أو نتيجة تربية أبي الذي خبر الإسبان أثناء مشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية. وتوهمت أن الظفر التام بكارمن وشيك ميسور قد يتحقق بين عشية وضحاها. لكن الأيام ركضت سراعا من دون أن أحصل على بغيتي. وإزاء مطاردة سراب الحبيبة الهاربة تعلمت معاقرة الخمر التي أضحت من لوازم الجو، فكان أن ارتج المزاج والميزانية في وقت واحد، ولم تعد المنحة تكفي للعيش ومسايرة التنقل وتلبية متطلبات الحركة مع كارمن في ارتياد المقاهي والسينما وقاعات الحفلات. وحاولت الصديقة المليحة أن تساعدني قدر ما استطاعت. وفي أكثر من مناسبة أخرجتني من ورطات صعبة، وشرحت لي الفرق الدقيق بن الحب والزمالة والإعجاب. ولطالما رقّت لحالتي وأشفقت علي ورأت فيّ نموذجا للإنسان الفطري الطيب الذي لا يفقه شيئا في منطق الحياة وتعقيداتها، ولا يكاد يدرك حقيقة العيش في أوربا. وذات يوم ونحن جالسان في سكينة »الساحة الكبيرة« قالت لي :
-سأسألك يا حمزة سؤالا أتمنى ألا تجيب عنه بسرعة… فكر أولاً ثم أجب..
وصمتت قليلا وقد اختفت ابتسامتها الأزلية وعلت محياها أمارات الجدية والوقار :
-هل أنت سعيد في حياتك ؟.
ولم أتمهل طويلا وإنما استثمرت على عجل متع الجلسة الوديعة وإغراء الوجه الصبوح فبادرت بالجواب بتلقائية موروثة :
-نعم أنا سعيد… سعيد… سعيد جدا.
ولم تعلّق كارمن. أدركت أني تعجلت الجواب وأنني لم أغص معها في عمق السؤال. كانت أكبر مني سنا وأعمق تجربة. ومع ذلك لم تشأ أن تخيب رجائي فرفعت رأسها نحوي ورتبت بنعومة حالمة الخصلات القصيرة فوق جبهتها ثم دشنت بابتسامتها المليحة حديثا جديدا…

لكن اللحظات السعيدة لم تدم طويلا. ففي نهاية الموسم الدراسي رسبتُ وحرمت من المنحة وانقطعت صلتي بكارمن التي عادت إلى بلدتها حيث حبيبها وعائلتها لقضاء عطلة الصيف. وذات أمسية كبيسة وجدتُني من دون مال ولا صديقة ولا دراسة. ولولا أن عطف علي بعضهم ودبروا لي أمر الحصول على تذكرة العودة إلى الوطن لكنت قد خرجت للتسول الصريح…«

وتوقف حمزة هنيهة عن الكلام، ثم ابتسم وأردف كأنما يخاطب نفسه :

» -بعد أربعين سنة أدركت أنه لم يكن يجب أن أسرع في الجواب.. «

وعدنا من جديد إلى جلستنا الوديعة. ثم انصرفتُ عن صمت الصديق لأجيل النظر في تعاريج أوراق التينة الخضراء. وقلت لنفسي إن الظل لا يزال يغّطينا على الرغم من كل شيء. وكذلك لا يزال حمزة وفيا لرسومه يبيعها بين الحين والحين من دون أن تحقق له ازدهارا أو رفاهية. ومع ذلك يكفيه أني أستمع الآن إليه بكل صدق وسط صخب الدنيا المتربص بنا.

بقلم : محمد انقار

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى