الأربعاء ١٤ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم بيانكا ماضية

الشعر وغايته الجمالية

عندما يقول نوفاليس ( إن الشاعر يقف على البشرية كما يقف التمثال على القاعدة ) فهذا يعني أن الشاعر يحمل في داخله تاريخاً عامراً بتفاصيل الحياة ، وبمشاهد وصور يختزنها في ذاكرته ، وبأفكار يعدها منطلقات لمشاريعه ، وهي جميعها لاتفتأ تطل عبر ذاكرته ليبحر في آفاق تكوّن هدفاً لإرادته ...

ومامن شك في أن الموهبة التي وهبها الله لهذا الشاعر تتلخص بوجود إحساس خاص بهذا العالم ، ترافقه قدرة متميزة في إعمال الخيال وفي تطويع الكلمات كيفما يشاء الشاعر وفق صياغة لغوية يراها مناسبة لهذا الموضوع دون ذاك ... متفاعلاً مع الحياة بعمق ووعي وحساسية مرهفة ، راغباً في التغيير وناشداً الحرية ، متمرداً على ظواهر الواقع التي لاتناسب الإنسان في بحثه عن قيم الحق والجمال ، مجسداً في ذلك علاقته بالعالم ، بالكون ، بالآخرين ، معوضاً عدم التناغم الذي لايجده ، ولهذا فإن الفن بأشكاله وأنواعه كافة ، ومنها فن الشعر ، هو محاولة للوصول إلى الكمال ، لأن غايته جمالية محضة ، وهي الغاية الأسمى التي يسعى إليها ..

إن الكلمات التي تنفجر من داخل الشاعر لتصاغ ضمن قالب شعري معين وموسيقا خاصة ، ورؤى شعرية متنوعة ، لهي تعبير جاد عن ذاك التصعيد الجمالي ، إذ يتم الانتقال من واقع محدود إلى عالم رحب ، ومن علاقات اجتماعية متشيئة إلى فضاء مفتوح على أبعاد جديدة ، فالشعر هو ( نفس الإنسان الحقيقي ) وهو كائن حي متجدد ، عالم حافل بالصور والمشاعر والرؤى ، وهو وسيلة من وسائل رقي الإنسان وتطوره وتطهيره أيضاً ، وقد فتح المجال واسعاً أمام العلوم للوصول إلى مايفيد الإنسان ويسعى به نحو فهم نفسه وفهم العلاقة التي تربطه بالعالم .

في الشعر تكثيف وإيحاء ورمزية ، وبتر لكل ماهو مباشر وزائد ، يعطي الخيال فسحات من التأمل ، ولكنه بهذه الخصوصية لايبتعد عن الواقع ، وإنما يثور عليه ، هو تمرد وقانون في الوقت نفسه ، تمرد في ثورته على الواقع ، وقانون برفضه الفوضى ، داعياً للعمل من أجل الحرية والخلاص .

ولهذا فإن العالم الراهن الذي يحبو شيئاً فشيئاً نحو الانفصام يتطلب من الإنسان وعياً جديداً إزاءه ، ووسائل أخرى جديدة ، ولهذا فإننا نرى الشعر يمر عبر أشكال مغايرة لما هو نمطي ومعتاد ، أشكال لاتنفصم عراها عن ذلك المعتاد وإنما هي تكملة لها ، لكنها تكملة تبتغي الانعتاق من كل قيد ، ولهذا تناسلت أشكال الشعر ... ولربما تتناسل أكثر فأكثر في بحثها عن أشكال الخلاص ، وكلما غاصت في علاقة الإنسان بماحوله ، أعطت المزيد من الدهشة والمتعة في الوقت ذاته .

هذا هو الشعر ، معبراً عن أدق معاناة البشر وعواطفهم وانفعالاتهم ، مصوراً ومنقباً وراسماً طرق الأمل لمن يبحث عنها .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى