السبت ١٧ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم محمد المهدي السقال

اعترافات عاشق من زمن الرصاص

إلى المبدعة هويدا صالح

يد حملتْ رأسي المتعب ، و بأخرى أمسكت الزاوية اليسرى من الوسادة ، استغـرقـتْـني بنظراتٍ كئيبةٍ مثقلة تجر خلفها هموم سنين الجدب و الغياب ، لعلها مثلي أتعبها انتظار الفرج المستحيل ، يأتي راكباً ضوء الشمس الموعود في الذاكرة ، يعلن المؤذن عن صلاة الفجر ، بينما مقلتاها النديتان تصبان بسهام لحظيها سأم الوجود المتلاشي في أعماقي ، تقرأ في عيوني رغبة صمِّ سمعي عن اختراق مُكبِّـر الصوت سقفَ البيت ، لكنها لا تنبس بشيء ، تنشغل بتفادي الألم في بعض الجنبات السفلية من رأسي , لم تفلح بعد في ترويض رأسي للاستواء كما تريد ، كنتُ إذا شرع المؤذن في التهليل لصبح جديد، أدفن رأسي تحت اللحاف ، أشكو لها انزعاجي مما تحدثه في نفسي تموُّجات كلماته المبهمة ، فلا تزيد إلا على الدعاء لي بالهداية، أحيانا كنت أهمس لنفسي ، لعلي كنت أكون الآن أحسن، لو أنني استجبت لرغبتها في رؤيتي أمشي في الأسواق ، لا تحركني هذه الأساطير السياسية ، مازالت مترددة في تصديق ردتي عن الاعتقاد المطلق في " رأس المال " ، تلصصت على حديثها الهامس عنِّي مع جارتها ، أحرجتْها جارتها بالسؤال عن إقامتي للصلاة ، فاضطربتْ ، سمعتُ تَقَطُّعَ صوتها قبل المبادرة بالجواب : يُصلِّي في البيت ، واحتجَّتْ لها بما أعانيه مع المرض، رغم أنه لم يكن قد تطوَّر إلى هذه الحالة ، أسندت رأسي إلى الجدار ، ظلَّتْ نظراتها مُسمَّرةً عليَّ ، قالت:

في هذا الشتاء ، لم يعد أحد يجرؤ على الخروج لصلاة الفجر ، وتسكت شهرزاد عن الكلام في الحرام ، قبل أن تستدرك ، حتى أولئك المؤمنون بحق ، صاروا يفضلون إقامتها في بيوتهم ، أحسَّتْ أنني أريد مزيداً من الإيضاح ، يصيب زيغ مقلتيَّ بين خديها والنهدين شبه العاريين ، شيئا في داخلها الملتهب وسط جزيرة ثلجية : يسمعون عن عصابة " الحواشي" و سيوفها الجاهلية ، تصيب الأبرياء قبل المتهمين المحتملين، حتى المسجد المحاذي لقسم الشرطة في المدينة، لا يعمِّره أصحاب الفجر، يغمز بعض الشهود بما يغيظهم من الحياد السافر للمخزن ، فيسخرون من زمن حقوق الإنسان المقلوب ، أتذكر الشجار الذي انتهى بأحد الخضَّارين إلى حتفه ، رمى أحدهما الآخر بأثقل ما يزن به ، شرخ مؤخرة رأسه ، سقط الرجل كالجدار ، فار الدم ، جحظت عيناه ، ارتعش كالخروف الذبيح ، ثم همد , بينما كان رجلا أمن في الرصيف المقابل ، ينسحبان في غير هدوء ، اختفيا عن الأنظار تلاحقهما همهمات و غمغمات منكرة ، استرسلت " أمينة " : قال أحدهم : ليت الشباب كانوا يخرجون لاعتراض طريق السراة في دهاليز الوطن المحاصر بالظلام ، و زادت : الضعيف يأكل الضعيف , كما يأكل القوي الضعيف ، شدتني ألفاظها , تأملت وجهها المنشغل عني بإعداد كوب الدواء ، تتحدث إليّ وهي غير متأكدة من استجابتي لسماع حديثها عن هذا الزمن المقيت ، تبَّاً لهذا الأقراص التي لا فعل لها إلا في الهزيع الأخير من الليل ، أكرِّرُ في نفسي الدعاء على المرض ، فلا أتسمع أكثر من تنهيداتها التَّعْـبى ، تحاول ثالثة لاستواء صدري عموديا ، لا يعرف القرص طريقه إلى معدتي عبر دفع الماء ، إلا بإسناد رأسي إلى الجدار .

مر الآن شهران على عودتي إلى البيت ، خاوي الوفاض من غير نياشين نصر كان موعودا في الصحف الحمراء ،

طرقت الباب في منتصف ليلة العاشر من رمضان ، عام الغزو الثاني على العراق ، تماما كما تصور الأفلام لقطة اللقاء بعد طول فراق ، كادت " أمينة " أن تسقط واقفة ، لولا أنني ارتميت عليها بما تبقى لدي من قوة المحارب المهزوم ، حضنتُها إليّ ، أجهشتْ مشدودة بالاختناق ، ثم استسلمتْ بكل ثقلها على صدري الواهن يسبقها نهدان تركتهما تفاحتين في أول القطف ، شعرتْ بعيائي ، دلفنا إلى فناء باهت وهي تنظر خلفي، لعلها كانت تبحث عن حمل العائد بعد عشرة أعوام ، من منفى الكهوف المنسية بعيداً عن عيون نشرات الأخبار .

شعرتُ برعشةٍ سرتْ في أوصالي المنهوكة، ثم برودةٍ تسللتْ كالماء بين لُزوجة البلَّور في كؤوس الخلفاء ،

هل نطقت شفاهي ؟ لا أذكر، غير أني الآن أعي عجزي عن الكلام , أصرخ صامتا كأني أستغيث من غرقي في لج يتوزعه ضجيج الأشياء، فقط ، عيناي كانتا ترفَّان للإمساك بوجهها ، يسود صمت غريب ، لم تعد تتساءل عن احتباس الكلمات في حلقي ، لحظة ، بدت متطلعة لسماع صوتي بإشارات الأهداب ، ساعتها أنقذني تقدم خطوي نحو الداخل ، كان الصداع قد نال مني مأخذه ، لمحتُ في نظراتها استغراباً من رغبتي في الوقوع على فراش يدفئ برودة سكنت أحشائي ، حملتْ رأسي إلى الأعلى قليلا لتحاشي برودة الجدار ، كما تفعل كل ليلة منذ تمكن مني هذا الشلل النصفي آخذاً من جسدي حتى الصوت ، لم أشعر بِبَحَّةٍ قبل انسداد تدفق الهواء من الحلق ، من يومها ، و" أمينة" لا تسمع لي غير إشارات بالعينين ، أو تنمل أصابعي اليسرى، أرسم من خلالها رغائبي المكبوتة .

هل تدري أنني أحس بوجودها الآن ، تماما كما كنت حين أحضنها في الليالي الباردة ، أدعوها للاقتراب مني أكثر ، تتمنع جذلى بدلع النساء ، بيننا لغة نستفز بها حاجاتنا إلى دفء اللحاف ، أغازلها، ألامس بيدي رقبتها، تتنثَّر منِّي ، أعرف و تعرف أنا نُشرع نافذة على الحلم ،

يكسر السجان خلوتي بها ، أتبعه إلى مدخل الباحة , حيث لا سماء ، سوى جدارات عالية تربَّع فوقها غطاء إسمتني ، الكوى تذكرني باستمرار ، بمنافذ الضوء عبر ثقوب الحمامات العتيقة . ليتني كنت أحسن قراءة الفنجان ، ليتني كنت صدقتُ رفاقاً عادوا من جزائر النسيان ، ظلُّوا يصرخون بملء عقيرتهم أن لا فائدة من الموت في سبيل هذا الوطن ، وظللت عنيداً أراود الحلم بالثورة ، في غابة أشجار رضيتْ أن تموت واقفة على حافة النهر يجرفها تيار الغضب .

رغم أن أيامنا كانت معدودات ، فقد كانت لحظاتُ الوصال بحجم العمر الذي لم نعشه بعد الانفصال ، انتهيت إلى إسنادي بمقدمة ظهري إلى ركن حائط الغرفة المهترئة، لم تتحقق أمنيتنا في طلائها باللون الأزرق الذي كانت تعشقه ، وبقيت كما تركتها منذ عشرة أعوام ، لم أسألها عن علَّة عدم طلاء الجدار ، كنت أعرف أنها ستحتج بالخوف من حجْب لونِ البحر لونَ وجهي في الذاكرة ،

قالت لي يوما بأنها ترى وجهي أزرق ، لم تعجبني عبارتها ، لكنها استدركت بأن البحر أزرق ، وأنها لا تحب شيئا أعز من البحر ، كدت أقبلها لولا تردد أصوات العيال بالبهو الفاصل بين الغرفة والمطبخ . ولم أسألها حين عودتي عن حجم تشوقها لوجودي الجسدي ،لأن الكلمات تهرب في عز الحاجة إليها ، استبعدت أن تصبر عليَّ طول هذه المدة ، ولم تخطئ فراسة شكِّي ، فقد نما إليَّ بالتلميح تردُّد جاري عليها أثناء غيابي ، يأتيها باسم العشرة والملح ، فتفتح له الأبواب ، صار يدخلها متى يشاء أو تشاء .

حين زارتني قبل خروجي بأيام ، وكانت الأولى والأخيرة ، قرأتُ في عينيها الذابلتين الخوف من السؤال ، لم تنجح في معرفة الطريق إليّ، إلا بعد السنة العاشرة ، أسرتْ لي بأنها أقامت فيَّ العزاء ، ثم استدركت أنها ظلت تُمنِّي نفسها ببقائي على قيد الحياة،

رغم طول الفراق ، ورغم الغيبة التي يقبل فيها الشرع بالطلاق ، أسرَّتْ لي أنها لم تكن تتخيَّل إقدام السجان الذي احتفظ بنا كل هذه الأعوام ، خلف كهف يمتد عميقاً في جوف جبل في لا مكان ولا زمان، على أن يفرج عن مجموعة " صيف الريف " ،

بيني وبين نفسي تمنيت القدرة على النطق ، لأسرَّ لها بهواجسي اتجاهها ، هل تسمع تفكيري " أمينة " الآن؟

لم أشعر ببرودة الجدار ، ناولتني كأس ماء ، يهرق في فمي منسكبا نحو الحلق مائلاً إلى الوراء ، أتعلَّق بالنظر إلى ما بين حاجبيها ، لا أحس بأدنى إحساس بالرغبة في حضنها إليّ ، ترمق استراق نظراتي، تبتسم ، لا أدري هل كانت قسمات وجهي تنبئ بابتسامة ، ثم ابتسمتْ ثانية كأنها ترد عليّ ، قلت لها في نفسي :

ليت الذي حضنتِ يوماً في الليل أثناء غيابي حبيبتي ، كان صدري الحزين قبل الرحيل.

*****

إلى المبدعة هويدا صالح

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى