الجمعة ١٣ شباط (فبراير) ٢٠٠٤
بقلم سحر الرملاوي

رواية لاجئة ـ الحلقة 12 من 18

لم تكمل ريم النقاش مع أمها ، انسحبت فورا متجهة إلى غرفتها ، لقد صدمها المنطق الذي تتحدث به أمها ، لم تنتبه أبدا إلى أن مساويء اللجوء سوف تنسحب يوما حتى على المشاعر ، قانون الحرمان يسري عليها بدورها ، كورت قبضـــتها و دقــــت بها الجدار و قالت بغيظ مكتوم :

 أن يقفوا أمام تعليمنا ، ممكن ، أن يقفوا أمام عملنا ، ممكن ، أن يصادروا حرية أن نتحرك و نتنقل ، ممكن ، لكن أن يحكموا سيطرتهم حتى على مشاعرنا و قلوبنا فهذا ما لن أسمح به أبدا ••
تركت الجدار ، توجهت للنافذة ، فتحتها ، لم يسبق أن أطلت منها ، لكنها تطلعت للسماء و قالت :
 لن أسمح باعتقال وجداني ، ووضع الحظر على أحاسيسي ، و مصادرة رغباتي ، لن أعطيهم الفرصة لهذا ••
و تطلعت إلى لوحتها و قالت بتصميم :" و إذا أردتني يا سهيل فإنني أيضا أريدك " ••
***
و كأنها كانت على موعد مع سهيل ، أو كأنها رتبت لما سيحدث في أول زيارة قادمة ، فاجأهم سهيل فجأة بطلب الزواج من ريم ، وجمت الأم ، و نفـــث الأب دخـــان سجــــائره ، و تركوا الصمت يصول بينهم ثم بعد هنيهة عاد سهيل يقول بهدوء:
 أكرر يا عمي ، أنا أطلب منك يد ابنتك ريم ••ماذا قلت ؟
قال الأب بعد قليل بصوت بلا تعبير :
 فاجأني طلبك يا ولدي ••
و صمت الأب •• كانت العبارة ناقصة ، انتظر سهيل أن يكملها لكنه التزم الصمت ، بعد قليل شعر سهيل أن وجوده بلا معنى ، كان ينتظر ريم ، و لكن بطلبه هذا اختصر مدة بقائه لهذا اليوم هنا ، و كان لابد أن ينصرف ، و عندما أستأذن بالانصراف لم يجد من يستمهله ، و خرج من الباب الخارجي يهدر الغضب في رأسه بسبب الوجوم الذي قوبل به طلبه ، أعماه الغضب فقرر أمرا ••
كانت الساعة تقترب من التاسعة ، بقيت ساعة تقريبا على عودة ريم •• بدلا من نزول السلم إلى الشارع ، صعد السلم إلى السطح ، تجول فيه بلا حذاء ، و أطل من خلاله على الشارع تحت البيت ، أنعشه الهواء الليلي فاستنشقه بقوة ، أخذ يراقب الطريق بانتظار عودتها ، دار في رأسه حوارا سيجريه معها ، ثم عدله و عاد فعدله ، و عندما أستقر على العبارات النهائية لمحها تدخـــل من بوابة العمارة ، أســــرع بخفـــة يقف على رأس السلم و عندما ظهرت أخيرا ناداها بصوت خافت راعها :
 ريم •• ريم
ألتفتت للصوت ، و عندما وجدته تنفست الصعداء و قالت بصوت عادي :
 سهيل ؟ أخفتني ، ماذا تصنع هنا ، لماذا تركت البيت ؟
وضع اصبعه على فمه و عاد يقول بصوت خافت :
 أخفضي صوتك ، لقـــد كنت في البيــت و خرجت قبل دقائق ، أريد أن أحدثك على إنفراد ••
أندهشت ريم لطلبه •• و أدارته في رأسها ، أدركت أن الموضوع متعلق بها ، عرفت ماهيته المتوقعة ، و بقي السؤال :" هل تستجيب ، أم ترفض الدعوة الغريبة ؟"
لم يستغرق التفكير لحظات ، و رغم أن شيئا داخلها كان يرفض هذا السلوك إلا أنها وضعت المفتاح في حقيبتها و أخذت نفسا عميقا تشد به من أزر نفسها و توجهت إليه ، لفه إطمئنان و ثقة ، صعد أمامها فتبعته ، تزايدت نبضات قلبها مع كل درجة و غلبها إحساس بالمغامرة تعمق بمجرد أن لفح الهواء البارد وجهها الملتهب حماسا ، عندما وصلا إلى السطح ألتفت إليها و ظل لحظة صامتا يراقبها ، ثم أفتـــر ثــغره عن ابتسامة ساحرة و قال بصوت هاديء :
 هل سبق أن أخبرك أحدهم أنك جميلة جدا ••
نكست رأسها خجلا فقال :
 ريم ، أنا أحبك ••
رفعت رأسها بسرعة و نظرت إليه بدهشة و تراقصت الأضواء البعيدة في عيونها فأمسك بكتفيها و قال بحرارة :
 ريم •• أنا أحبك ••
أبتعدت عنه بسرعة و همست مستنكرة :
 سهيل !! ماذا تقول ؟
التقط أنفاسه بعمق بعد أن أدرك أنه خرج عما رتب قبل قليل ، و قال و هو يستند إلى الجدار :
 ريم لقد طلبتك قبل قليل من والدك للزواج ••
انتظر أن يرى رد فعلها ، لاحظ رغم صمتها لمعة قبول ظهرت في عيونها فأكمل مرتاحا :
 في الحقيقة ، لم أجد لديهم قبولا مباشرا كما توقعت ، ووالدك قــال أنه فوجيء بالطلب و لم يحدد لي وقتا ليرد علي ، و الآن ما يهمني هو أن أعرف رأيك ، أريد أن أسمعه قبل أن أنصرف لأنني سأنتظر أسبوعا قبل موعد الزيارة القادمة لأعرف النتيجة ••
دار عقل ريم بسرعة ، عرفت ما دار في عقل أبيها و أمها حيال طلبه ، توقعت كل ما ستواجه عندما تعود ، نظرت إلى وجه سهيل ، كان ينتظر ردها •• كان لــديها إجابة سبق و أن قررتها ، و لكنها تذكرت أن سهيلا فلسطيني و لن يغفر لها ردا مباشرا ، و قررت أنه لابد من اللعبة القديمة بين حواء و آدم ، فارخت عينيها و همست :
 لا فائدة يا سهيل ، انتظر الرد الأسبوع المقبل ، لابد من الحديث مع ولي أمري ••
تجعدت الثنيات فوق أنفه و قال و هو يكبت غضبا :
 مبدئيا يا ريم ، هل أنت موافقة ؟
ابتسمت إليه و اتجهت نحو السلم و هي تقول :
 الأسبوع المقبل يا سهيل ••
أخذت الدرجات قفزا و فتحت الباب بسرعة و دخلت ، أكتنفها دفء البيت ، و كان أبوها و أمها مازالا يناقشان الأمر في الصالون ، دخلت إليهما ، ألقت التحية ، و اتخذت لنفسها مكانا على مقعد بين أبيها و أمها ، قالت الأم :
 خرج سهيل باكرا اليوم ••
هزت رأسها إيجابا فقال الأب :
 طلبك للزواج ••
قضمت شفتها العليا بأسنانها و انتظرت تعليقاتهم ، فقالت الام :
 ما رأيك يا ريم ؟
حررت شفتها و قالت باقتضاب :
 أسمع رأيكما أولا ••
فقالت الأم على عجل :
 تعرفين رأيي يا ريم ••
و قال الأب و هو يتنهد :
 سهيل مهندس شاب ، لم يسبق له الزواج و هو من أقربائي و أعتقد أنه من حيث المبدأ لا غبار عليه ، اللهم ••
تطلعت ريم باهتمام لأبيها و لما طال صمته استحثته قائلة :
 أبي ••"اللهم " ماذا ؟
فقال الأب :
 اسمعي يا ريم ، لقد تربى سهيل في المخيم ••
لم تفهم ريم مقصد أبيها فرسمت السؤال في عيونها و انتظرت الإجابة ، فقال الأب بعد لحظة تفكير :
 أبناء المخيمات لهم طبيعة مختلفة ، النشأة في جو غير نظيف ، و وسط يوميات رعب و صراع من أجل الطعام و الحياة ، تجعل نظرتهم للحياة مختلفة عن الآخرين الذين تعرفينهم •• لا أعرف ماذا أقول ، و لكن أبناء المخيمات لا تستطيع من تربت مثلك احتمالهم ••
أخذت ريم نفسا عميقا و قالت بتصميم :
 و نحن بدورنا أبناء لجوء •• جميع الفلسطنيين كانت نشأتهم غريبة ، لا علاقة لنظريات التربية الحديثة بهم ، و مع ذلك يحسب له كما يحسب لي أنه استطاع رغم ظروف المخيم النجاح و التفوق و الإستمرار و العمل •• يحسب له أنه اعتمد منذ نعومة أظفاره على نفسه و بنى حياته بساعده ، و أثبت في كل الظروف أنه رجل ، أنه بطل ، أنه رمز جميل للوطن ••
قالت الأم مغتاظة :
 الوطن ، الوطن ، كل ما تتحدثين عنه هو الوطن ، أنا لست ضد أن تحبي بلادك ، و لست ضد انتمائك إليها فقد كنت أساعد أبيك في ترسيخ محبتها في نفوسكم منذ الصغر ، لكنني ضد أن تقدمي روحك قربانا لهذا الوطن ، و ليت ما ستفعلينه سيكون له قيمة للوطن ، لن يجلي زواجك من فلسطيني يهوديا واحد اعن بلادك ، و لن يدفع هذا الزواج العالم لكي ينصفوكم ، ستتزوجي و تنجبي و يعيش أبناؤك الضياع المركب ••
قالت ريم :
 و لكن يا أمي ، زواجي من سهيل ، من فلسطيني يعني أنني ســأظل أنتمي لهذا الوطن و ينتمي إليه أبنائي بدورهم ، و هذا ما بوسعي أن أقدمه ، لا أملك إلا هذا ، و لا أريد البخل بما أملك لمجرد أنني تعذبت بجنسيتي في الغربة ، ربما كان المستقبل أفضل ، ربما استطاع أولادي أن يعيشوا حياة كريمة ، و يدخلوا بلادهم و يبنوا فيها ••
غلب الصمت المكان ، و نفس الأب دخانه و قد اعتزم أمرا
في الليل و عندما نامت سميحة غادر جهاد غرفته بهدوء و توجه إلى غرفة ابنته ، طرق الباب و حمد الله أنها مازالت مستيقظة ، دخل و سألها عن سبب سهرها فأخبرته أنه التفكير فقال لها و نفسه تنازعه :
 ما سأقوله لك يا ريم هو خلاصة هذا الموضوع ، اسمعيني و لا تردي ، اسمعي و فكري ، خذي وقتك في التفكير ، يوم ، أسبوع ، عشرة ، فكري بمنتهى العقل ••
و تنهد و هو يتخذ لنفسه مكانا بجوارها على السرير و دون أن ينظر لها استطرد :
 لم أستطع قول كل ما أريده بحضور أمك ، كان صعبا علي الإعتراف بأي شيء يمسنا كفلسطنيين أمام أمك ، رغم أنها عشرة عمري و رفيقة كفاحي ، لكن هناك أمور يصعب على المرء أحيانا أن يعترف بها حتى لأقرب الناس إليه ••
وجمت ريم و خفق قلبها بشدة و غالبت غصة ألم و هي تقول لأبيها :
 ماذا هناك يا أبي ؟
فقال الأب و هو يعاني صراعا بين أن يقول ، أو يصمت ، لكنه في النهاية قال :
 ريم ، الشعب الفلسطيني شعب عانى الأمرين ، ذاق المر و العذاب صنوفا ، مورس ضده الإذلال ، و صدم مرات كثيرة في الشعوب العربية ، عانينا طوال وجودنا في أرضنا من ذل احتلال كان يتحول إلى مارد يوما بعد يوم فيطبق على أرواحنا و يسد منافذ الهواء عن صدورنا ، عانينا حتى النخاع من رعب سكن أخيلتنا منذ استخدم الإسرائليون اسلوب المذابح الجماعية لترويع الأحياء بأشلاء الأموات الممزقة ، تركت أهلي منذ أكثر من خمس و عشرين عاما بوجدان مذعور محطم ، و نفس ذليلة ، ربما ساعدتني الغربة قليلا على نسيان مرارة سطوة الإحتلال الملموسة ، لكنها أبدا لم تمحو مرارة سطوته في ذاكرتي ووجداني و سمعي و عقلي و تفكيري ، أنت و إخوتك ولدتم في الخارج فلم يداخلكم من الإحتلال أثر مادي ، و لكنكم بدوركم عــــانيتم و مازلتم ستعــــانون لأنكم بلا وطـــن ، و سيظل تاريخ اللاجئين الفلسطنيين عارا في جبين الأمة العربية حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا ، أما أولئك الذين بقــــوا في فـــلسطين فقد شربوا الــــذل و الرعب مع المـــاء و تنفسوه مع الهواء ، أصبح مرأى الأشلاء الممزقة عادة يومية ، و أصبح اليتم تعويذة يعلقونها على صدور المواليد ليظل ملمسها يحرق أرواحهم و يطالبهم دوما بثأر لا ينتهي ، و أصبحت الطفولة هناك مرحلة عمرية يضطر أبناء فلسطين أن يمروا بها رغما عنهم ، لكنهم لا يشعرون بها و لا تعني أبدا لهم لعبة ، أو دلال ، أو هدهدة أو مدارة أو مجاراة ••
كان الكلام مؤلما ، لكنه لم يكن ليدعو الأب إلى هذه السرية التي أحاطه بها منذ البداية مما دفع ريم أن تقاطعه قائلة :
 أبي و ما علاقة كل ماذكرت بموضوع سهيل ؟ أنا لا أفهم
استدار الأب إلى ريم حتى أصبح في مواجهتها و قال بقوة :
 سهيل من أبناء الوطن الذين لم يعرفوا غير اليتم و الذل و الجوع ، لم يعرفوا غير قسوة الإحتلال و الناس ، سهيل لم يعش طفولة ، و لم يعرف حنان ، لذا فهو من داخله ، من أعماقه غير قادر على منحك ما تريدين ، لن يتفهم حاجتك للحب و الحنان ، سيكون حسك المرهف دوما مدعاة لسخريته ، حساسيتك تجاه الكلمات القاسية لن تعني له إلا تربية مدللة و فتاة بلا هموم ، و أنا أخاف عليك ، أنت جني عمري يا ريم ، و أنا أخاف عليك يا ابنتي ••
علا الوجيب في صدر ريم ، تسارعت دقات قلبها و استشعرت الخطر همست :
 إلى هذا الحد ؟
ربت الاب عليها مطمئنا و قال :
 أنا هنا لأحميك حتى من نفسك ، فكري يا ريم جيدا ، فكري في كل ما قلته لك ، و ما تقررينه سأوافق عليه ، شرط أن تستوعبي أن القرار قرارك و أنا أو أمك لم يكن لنا يد فيما تتجهين إليه ••
نهض الأب متثاقلا و اتجه إلى الباب ، أغلق المصباح و قال :
 نامي يا ريم ، لقد تأخر الوقت كثيرا ••
و لم تتمكن ريم من النوم •• لقد كان يوما طويلا ، أحداثه كثيرة و الآراء المتناقضة فيه كفيلة بتشويش أكبر عقل ، و لذا فلم يكن مستغربا أبدا أن يطلع الصباح على ريم و هي تتقلب في فراشها و تقلب الأمر من كافة وجوهه و تناقش جميع المواقف و الآراء التي سمعتها قبل أن تخرج بقرار ••
***
مشاعل زميلة لريم تساعدها في أعمال المحل ، جاءت بعد أن استقرت أحواله و ازدهرت أعماله ، و كان لابد من مساعدة لريم ، و كانت مشاعل ، شابة سعودية حنطية ، حادة الملامح ، تتميز بخفة دم و طيبة قلب و دماثة خلق ، ربطت بينها و بين ريم علاقة قوية منذ اللحظة الأولى التي دخلت فيها المحل ، مشاعل كانت متزوجة و لديها ولد و بنت صغار كانت تأتي بهما إلى السوق معها فتضعهم في مكان مخصص للأطفال و تأتي إلى الجاليري مباشرة و هي تلهث و تقول بمجرد أن ترى ريم :
 السلام عليكم •• آسفة تأخرت لأن ••
و تكمل ريم عنها قائلة :
 لأن عائض كان يبكي و عائضة كانت جائعة ، مفهوم يا مشاعل ، هيا ادخلي بسرعة فلدينا عمل كثير ••
و في أوقات الفراغ عندما يخلو المحل إلا من عميلة تتأمل اللوحات بتأني من لا تنتوي الشراء كانت ريم و مشاعل تجلسان لالتقاط الأنفاس و التحدث عن أحوالهما ، كانت مشاعل حامل و كانت دائما ما تدعو لريم بالزواج و تقول :
 رغم أن الرجال لاخير فيهم ، إلا أنك يجب أن تتزوجي ، هذا الأهم يا ريم ••
و كانت ريم عندما يأتي ذكر الزواج تقول و هي ساهمة :
 و هل هناك بنت لا ترغب في الزواج يا مشاعل ، و لكن ليس أي رجل ، و لا أي زواج ••
و تضحك مشاعل و تقول :
 لا يقع إلا من يعتقد نفسه ماهرا ••
أفضت ريم إلى مشاعل بكل شيء عن حياتها ، و حدثتها بإسهاب عن الأسماء التي مرت بها و الشخصيات التي تأثرت بها وكانت مشاعل متأثرة جدا بقصة سعيد تحديدا و دائما ما كانت تتهم ريم بقسوة القلب لانها لم تعطي لهذا المحب فرصة فكانت ريم ترد عليها قائلة :
 القلب و ما يهوى يا أم عائض ••
و في مساء ذلك اليوم عندما جلست ريم بعد الإنتهاء من الإتفاق مع إحدى العميلات صعبة الإرضاء جاءتها مشاعل و سحبت لنفسها كرسيا بجوارها و استرخت عليه و أغمضت عينيها و مباشرة سألت :
 ما بك ؟
تطلعت إليها ريم بدهشة و شكت لوهلة أن السؤال لم يصدر عن مشاعل ، فقد كانت في حالة استرخاء كامل و عيونها مغلقة ، و ليس في هيئتها ما يوحي بأنها تتأهب لإدارة حديث ، لم ترد فعادت مشاعل تسأل فقالت ريم باستنكار :
 هل تسأليني أنا ؟
فقالت مشاعل و هي بنفس حالتها و بمنتهى الهدوء :
 أجيبي يا ريم ، و كفاك تضيعا للوقت ••
ابتسمت ريم و قالت :
 خلتك نائمة ••
فقالت مشاعل :
 عيوني مغمضة صحيح لكنها رأت حالك ، أنت لست على ما يرام ، ما بك ؟
تنهدت ريم و استرخت على مقعدها بدورها و قالت :
 جاءني خاطب
قالت مشاعل و كأنها تقرأ من كتاب :
 سهيل أليس كذلك ؟
هزت ريم رأسها إيجابا ، فشعرت بردها مشاعل و أكملت :
 و هل وافقت ؟
اعتدلت ريم على كرسيها و التفتت تماما إلى مشاعل و قالت بيقظة تامة :
 أبي و أمي يرفضونه و لكل منهما سبب يختلف عن الآخر ••
 و أنت ؟
 أنا ؟
أعتدلت مشاعل في جلستها و نظرت مباشرة في عيون ريم و قالت :
 موافقة ، أليس كذلك ؟
أخذت ريم نفسا عميقا و قالت و كأنها تعترف :
 لقد صعدنا السطح أمس سويا و قال لي إنه يحبني ••
 بدون علم أهلك ؟
هزت ريم رأسها خجلا فقالت مشاعل و هي تبتسم بمكر :
 ياله من جريء ••
فقالت ريم بسرعة :
 لم أشعر أن في الأمر خطأ ، فأنا ظللت طيلة سنوات الجامعة أقابل شبان و أتحدث معهم و قد تجمعني الصدفة بأحدهم على انفراد ، في الحقيقة لم أجد ضيرا في سماع ما يريد قوله ، تعرفين ، أبي و أمي لا يتركوننا وحدنا دقيقة واحدة ••
أطرقت قليلا و قالت :
 كنت أعرف أن لديه ما يقوله ، كنت أدرك أنه لابد أن يعلن لي حبه ، و كنت أتساءل عن الكيفية ، و جاءت بهذه الطريقة ••
رفعت رأسها و ابتسمت و قالت :
 شعرت أنني أقوم بمغامرة ، ظل قلبي يدق ، و كنت أصعد خلفه و كأنه يخطو بقدمه على قلبي فيعصره في كل خطوه •• سألت نفسي ماذا لو خرج أبي الآن ، أو أمي أو أي شخص من الجيران ، و عندما اصبحنا على السطح بادرني بالاعتراف ، قال لي " ريم أنا أحبك " قالها مرتين يا مشاعل و أمسكني من كتفي •• كم كانت يده قـــوية و هو يهــزني ليؤكد حبه ••
كانت مشاعل تنظر إلى ريم و هي تحكي ، و تطالع نظرة الفرح في عينيها ، منظر جدير بالتأمل حقا ، لقد بدت ريم في جلستها المتأهبة و في حماسها الطفولي و هي تقص الموقف و في نغمات صوتها المتراوحة بين القوة و الضعف و في ضمة يدها الحميمة ما جعل مشاعل تتفهم تماما رغبة ريم ، فقالت لها :
 أنت تريدين هذا الرجل يا ريم ، هذا أمر واضح ••
 إنه بطل يا مشاعل ••• بطل أسطوري ، يشبه أبطال الملاحم ، جميل المحيا قوي البنيان ، صلب الإرادة ، يعرف تماما ما يريد •• و هو يحبني ، يحبني يا مشاعل هل تفهمين ؟
هزت مشاعل رأسها تفهما و قالت :
 و لكن أبويك ؟
تنهدت ريم و قالت بهدوء :
 لقد ترك لي أبي حرية الإختيار ، قال أنه أخبرني بكل الحقيقة و ترك لي الخيار ••
فقالت مشاعل بسرعة :
 القضية محلولة إذن ، اقبلي الرجل ، و تحملي مسئولية قرارك ••
 هذا ما أتمنى ، لكنني أعلم يقينا أنه لن يرضي أبي و لن يســعد أمي ، لا تنسي أنا أول فرحتهما ••
عادت مشاعل تسترخي في جلستها و تغمض عينيها و تقول همسا :
 أفهمك تماما ••
***
خلال اليومين التاليين غلب الوجوم على جو المنزل ، كان تبادل الأحاديث بينهم مقتصرا على الكلمات التقليدية عن الأحوال و العمل و الطقس و سهرة التلفاز لهذه الليلة ، إلا أن الحديث كان دوما يفتقد إلى شيء هام ، إلى الحرارة و الروح ، و كان تعمد الجميع عدم الخوض في موضوع سهيل يضفي المزيد من البرود على العبارات المتبادلة ، كان كل من الأب و الأم يعلــــمان ما تعـــانيه ريم ، و الصـــراع الــذي وجـــدت نفسها فيه بين رغبتهما و رغبتها ، و أثناء غياب ريم قال جهاد لزوجته :
 هل وصلت ريم لقرار ؟
فقالت الأم :
 كان ينبغي ألا تفكر عندما يتعلق الأمر بقبولنا أو رفضنا ، ريم أبدا لم تكن عاقة ••
 لا تقسي عليها يا أم قاسم ، ريم تفكر كما فكرت سميحة قبل خمس و عشرين عاما ، يوم تقدمت إليك شابا فقيرا وحيدا غريبا ، لا يوجد منطق واحد لقبولي و مع ذلك قبلت ، ريم تفكر بإحساس الأنثى فبل أن تفكر بمنطق الإبنة ، و هذا حقها ••
 لكنها لو تزوجته تكون كمن يلقي بنفسه في التهلكة ••
 ليس إلى هذا الحد يا أم ريم ، سهيل شاب ناجح في عمله ، ليس عجوزا و ليس عاطلا ، لم نر منه ما يسوء أبدا ، أنت قلقه لأنه فلسطيني ، و أنا قلق لأنه ابن مخيم •• لكن لا أنا و لا أنت يمكننا أن نضع فيه هو شخصيا عيبا يمكننا أن نحاجج به ريم ••
تنهدت الأم و همست :
 و مع ذلك آمل ألا تقبله ••
***
 غدا يأتي سهيل ، فبماذا نرد عليه يا ريم ؟
كانت ريم تهم بوضع اللقمة في فمها عندما باغتها الأب بهذا الســــؤال ، أزدردت اللــــقمة و قالت بارتباك :
 ما تريده يا أبي ••
ابتسم الأب تفهما و قال بهدوء :
 أنت من ستتزوج و ليس أنا ••
 سهيل يا أبي ، شاب عصامي بنى نفسه بنفسه ، و تجربته في الحياة واسعة ، كما أنه قريبنا ، ولكن لو كان موضع شك فإنك بالطبع أخبر مني بهذا الأمر ••
كانت الأم تستمع صامتة للحوار ، و عند هذا الحد وضعت ملعقتها و قالت موجهة حديثها لريم :
 يبدو أنك تريدينه يا ابنتي ••
تطلعت إليها ريم برجاء و قرأت الأم في عيونها استعطافا خفيا بألا تقف أمام رغبتها ، نكست رأسها و أدارت ملعقتها في الطبق ، و عندما رفعت رأسها نحو زوجها ، كان بدوره ينظر إليها ، كانت الكلمة القادمة هي القرار النهائي و كان إعــلانها يعني التزاما و قابل الأب وجوم الأم بابتسامة هادئة أخذت تتسع تدريجيا تقدم دعوة للأم لكي تبتسم بدورها ، فاضطرت الأم تلبية الدعوة و افتــر ثغرها عن ابتســــامة ، كانت ريم تراقبهمــا و تنتظر القرار بقلب متلهف و عندما تطلع إليها أبيها كانت ابتسامته كبيرة و قال بمرح :
 على بركة الله يا ابنتي ••
زغردت الفرحة في عيني ريم ، و قامت من فورها فقبلت يد أبيها و رأسه ، و ألقت نفسها في حضن الأم المفتوح و تلقت تهنئتها و دعواتها ، و تلقت تهنئة سمر و ركضت إلى غرفتها و عندما صاح الأب :
 و الطعام ؟
قالت :
 شبعت ••
تطلع جهاد إلى زوجته ، كانت الدموع تتجمع في عيونها ، قال لها و هو يبتسم :
 ادعي لها بالخير يا أم قاسم ، ريم طيبة و لن يكون نصيبها إلا طيبا مثلها ، و لعل سهيل هو خيرها الذي لا نعلم مداه ••
***
مساء اليوم التالي ، جاء سهيل مبكرا أكــــثر من المعتاد ، لم يكن الأب قد عـــاد من عمله ، و كذلك ريم ، كانت سميحة وحدها مع ســــمر ، فتحت له الــــباب و رحـــبت به بتــــحفظ و أخبرته أن زوجها ليــس بالبيت ، فدخل سهيل و توجه نحو الصالون مباشرة و هو يقول :
 هو عمي ، و أنت زوجة عمي ، و لدي كل العذر في التبكير بالحضور اليوم ••
دخلت الأم خلفه فبادرها بسرعة :
 لقد مر علي الأسبوع الفائت طويلا مملا ، مرهقا ، تعرفين يا خالتي ، أنا أنتظر الرد ••
جلست الأم و أجلست سمر على ذراع كرسيها و تطلعت إلى سهيل و سألته فجأة :
 لماذا تريد الزواج من ريم يا سهيل ؟
فوجيء سهيل بالسؤال ، و لكنه تماسك بسرعة و قال مبتسما :
 و لماذا يريد الناس الزواج يا خالة ؟
ضبطت الأم أعصابها و قالت :
 أسألك عن سبب رغبتك في الإرتباط بابنتي و ليس عن الأسباب وراء زواج العالمين ••
فقال سهيل و قد استشف من لهجتها أنه في اختبار عسير عليه أن ينجح فيه :
 ريم فتاة ممتازة ، و أي شخص يسعده كثيرا أن يرتبط بها ••
فقالت الأم بسرعة :
 و لماذا لم تتزوج حتى الآن يا سهيل رغم أنك لست صغيرا ، أعتقد أنك تخطيت الثلاثين ، أليس كذلك ؟
فقال سهيل :
 كثير من الشباب وصلوا لهذا الســن و لم يتزوجـــــوا بعد ، تعرفـــــين ظروف الحــــياة ، و تعرفين النصيب ••
و ركز عيونه عليها و أكمل :
 أنا أؤمن جدا بالنصيب يا خالتي ، ألا تؤمنين به بدورك ؟
نهضت الأم و قالت :
 ماذا تشرب ؟
فقال سهيل و هو يبتلع ريقه :
 كل ما تعدينه جميل يا خالتي ••
صحبت الأم سمر و توجهت للمطبخ فصفر سهيل بشفتيه و همس :
 بداية غير مشجعة ••
***
عندما عاد الأب ووجد سهيلا في المنزل ، ابتلع احتجاجا صغيرا و رحب به بحرارة و سأله إن كـان قد شــرب شيء ، و عندما سأله سهيل عن رأيه في طلبه الزواج من ريم أجابه الأب :
 ريم هي ابنة عمري يا سهيل ، و لن أجد لها خيرا منك ، أنت شاب إبن حلال و أدعو الله أن يوفقكما ••
نظر الأب إلى الأم يدعوها بعيونه أن تبادر بالتهنئة ، فقالت و عيونها مترقرقة :
 مبارك عليك يا سهيل ، ريم فتاة ممتازة ، احفظها في عيونك ••
نهض سهيل فعانق عمه و قبل رأس زوجة عمه و قال و هو يجلس و السعادة تنطق في عيونه :
 سوف لن تندموا على هذا القرار ، ريم في عيوني ••
و عندما عادت ريم وجدت أن اتفاقا قد تم بين الأب و سهيل على ميعاد الخطوبة و مقدار المهر و وجدت في عيون سهيل شوقا كثيرا و حديثا ، فانسلت بهدوء إلى حجرتها و لم تخرج إلا عندما خرج سهيل من المنزل ، جاءها أبيها و قبلها مهنئا و قال لها :
 الآن كلامي مختلف ، الزواج يا ابنتي شراكة عمر ، و عندما ترضى المرأة برجل زوجا فلابد أن تحفظه في عيونها و تتحمل تقلبات مزاجه ، و تخفي عيوبه ما وسعها ، لقد كان سهيل سعيدا سعادة حقيقية لا أنكرها ، و أسأل الله أن يوفقكما ••
و قالت الأم و هي تحتضنها :
 سهيل سيأخذ جوهرتي الثمينة ، تأكدي أنك ستظلين الجوهرة الثمينة دائما و لن يغير الزواج هذا الأمر ، لا تقبلي بأقل منه يا ابنة بطني ••
و لم تنم ريم تلك الليلة ، و عند منتصف الليل استقبلت لأول مرة هاتف من سهيل هتف بحماس عندما سمع صوتها :
 مبارك يا ريم ••
فقالت بخجل :
 مبارك عليك يا سهيل
صمتا كلاهما و قطع سهيل الصمت و تنهد قائلا :
 أخيرا ••
***
خلال ستة شهور قادمة بدأت ريم الإستعداد للزواج مع سهيل فبعد شهر تقريبا من قراءة الفاتحة تم عقد القران في المحكمة و أصبح من حق ريم الخروج مع سهيل لإختـــيار منزلهم و منذ اللحظات الأولى تقرر للمنزل أن يكون في حدود متوسطة قدر الإستطاعة و لم تهتم ريم ، فهي قادرة على تحويل منزلها أيا كان مستواه إلى قطعة من الجنة ، و أصبح من المعتاد أن تتغيب عن العمل يومين أو ثلاثة أسبوعيا من أجـــل إعـــداد المنزل و فرشه ، و في غضون ذلك لاحظت ريم أن سهيلا كان غاية في التهذيب معها ، لم يفكر يوما أن يستغل وحدتهما خاصة في الشقة لكي يتصرف تصرفا متوقعا من زوج ، و علي النقيض من ذلك ، كان سهيل في الشقة منشغلا دائما بأدق التفاصيل ، يرتب بأقصى قوة ما استطاع ، و تشارك مع ريم في شراء كل قطعة أثاث ، و كانت الأم تستقبل ريم كل يوم بسؤال واحد عن سلوك سهيل معها فتجيبها دوما بأنه مثال الأخلاق ••
و انتهت الشهور الست و في اليوم المحدد للزواج أعد الأب مع قاسم ابنه و بمساعدة رجال من الجيران سطح المنزل ليكون مقر احتفال النساء فيما تبرع أحدهم بإعداد سطح عمارته المقابلة للرجال ، و ذهبت ريم مع أختها سمر إلى حيث تتزين و تتأهب لليلة العمر ، و بقيت الأم في المنزل تشرف على استقبال الحلويات و المأكولات و الضيفات المبكرات ، عند التاسعة مساء كان كل شيء جاهزا لاستقبال العروس ، السطح مليء بالنساء المهنئات و أطفالهن ، و الصبايا يتناوبن الرقص على إيقاع الموسيقى مختلفة النغمات ، و عنــد العاشــــرة أقبلت العــــروس فتعالت الزغاريد و بسملت الأم و حوقلت و استعاذت بالله من عيون الجميع ، فقد كانت ريم جميلة جدا هذه الليلة ، اتخذت مكانها في صدر الجلسة و لم تفارق الإبتسامة وجهها ، و عند الحادية عشر جاء العريس بصحبة الأب من السطح المقابل و جلس بجوارها و ألبسها الشبكة و بقي قليلا حتى انتهى قاسم من التقاط الصور ثم مضى إلى الرجال و دعي الجميع لتناول طعام العشاء ••
عند الواحدة ليلا جاء العريس مجددا و لكن هذه المرة ليصحب عروسه •• و انطلق العروسان وسط الزغاريد و الموسيقى الصادحة ، نزلا السلالم و ركبا السيارة المزينة التي انطلقت بهم إلى جولة في المدينة ، تم تصويرها بالفيديو من قبل بعض أصدقاء سهيل ، و في حدود الثالثة فجرا اتجهت السيارة بالعروسين إلى منزلهما الجديد و لم يتركهما الناس إلا بعد أن اضطر سهيل لاغلاق الباب في وجوههم و هو يصيح باسما :
 أتركوا العروسين يا متاعيس •• !!
و على باب المنزل حمل سهيل عروسه ، و سار بها حتى منتصف صالة المنزل ثم أنزلها برفق و قال و هو يقبل جبينها :
 مبارك عليك يا عروسي الجميلة ••
ابتسمت له ريم و قلبها يخفق بشدة و همست بارتباك :
 مبارك عليك يا زوجي العزيز ••
تلفت سهيل حوله و حل ربطة عنقه و قال :
 هل نقوم بجولة في المنزل لنرى كيف رتبته أمك و أختك الترتيب الأخير ؟
هزت ريم رأسها موافقة ، فمد لها يده و سارا معا إلى الصالون أولا •• وقف سهيل على بابه و هو مبتسم ، على أن ابتسامته انسحبت بسرعة و صاح :
 ما هذا ؟
اضطربت ريم و قالت بسرعة :
 ماذا هناك ؟
فقال :
 أنظري ، لقد غيروا مكان المقاعد ، لم أضعها هكذا عندما رتبتها بنفسي ••
ابتسمت ريم و قالت :
 لقد أعادت أمي تنسيقها وفق ما وصفت لها ما أتمناه ••
تركها في مكانها و قام بجولة سريعة على غرف البيت و أخذ يتمتم بنفس العبارات كلما دخل غرفة و في النهاية وقف وسط الصالة و صاح بغضب :
 لقد قاموا بتغير كل شيء ، لم يتركوا غرفة دون عبث ••أنا لا أحب هذا ••
قالت ريم واجمة :
 سهيل ، لقد بذلوا جهدا كبيرا ، و عندما عادت أمي أمس كانت في أشد حالات الإجهاد ، حتى أنني شعرت بوخز الضمير ، لا تنس ، أمي إمرأة كبيرة ••
فقال سهيل بإصرار :
 طلبنا منهم التنظيف ، لا التنظيم ، تدخلهم هذا يضايقني ••
كتمت ريم غيظا يثور داخلها و قالت بصوت حاولت أن يخرج هادئا :
 غدا نعيد تنظيم البيت كما تحب ••
و لم تكمل حديثها و فوجئت به يصيح بسرعة :
 لا •• بل الآن ••
قالت ريم و قلبها يدق بشدة :
 الآن ؟
فقال و هو ينزع الجاكت و يشمر أكمام قميصه الأبيض :
 نعم الآن ، مساعدة قليلة و يعود كل شيء إلى ما كان عليه •• هيا معي يا حبيبتي ••
 لكنني متعبة يا سهيل ، و جائعة ، الطعام الذي أعدته أمي سيبرد ، هلا أكلنا و بدلنا ثيابنا أولا ثم قمنا بما تريد ؟
هز سهيل رأسه رافضا عرضها و قال :
 كلي أنت ، سأقوم بالعمل وحدي ، أم تريدين أن يأتي الناس للتهنئة غدا فيروا البيت بهذا العبث ؟
قالت ريم بصوت متعب مقهور :
 نحن الآن غدا فعلا يا سهيل ••
لم يسمعها سهيل ، توجه بسرعة إلى الصالون و أخذ يحرك المقاعد و يـــبدل أمــــاكنـــــها و عندما احتاج لمساعدة ناداها ، فجاءت إليه تجر ثوبها الأبيض الجميل ، و بدون كلام ساعدته ••
عند السابعة صباحا ، كان المنزل قد عاد إلى سابق عهده و اتخذت قطع الأثاث شكلها الذي يريده سهيل ، جلسا منهكين على مقاعد الصالون كانت بعض التكسرات و البقع الخفيفة قد انتشرت على ثوب الزفاف الأبيض ، و كان شعر ريم مشعثا بعد أن اضطرت لخلع الطرحة عنوة أثناء العمل •• تطلع سهيل حوله و قال بصوت فخور متعب :
 هكذا ينبغي أن يكون بيت سهيل ••
أنتبه أخيرا إلى ثوبها فقال لائما :
 أنظري ، لقد فسد ثوب الزفاف ، كان ينبغي أن تبدليه قبل مساعدتي ••
لم ترد ريم ، كان النعاس و التعب قد غلبها فنهضت متكاسلة و قالت :
 سأذهب للنوم ••
فقال بسرعة :
 و الطعام ؟
فقالت و هي تشيح بيدها :
 لا حاجة لي به ، كل أنت ••
اتجهت نحو غرفة النوم و أنفها يحكها تقاوم عبرة على ضياع ليلة العمر التي حلمت بها ، و تذكرت و هي تلقي بجسدها المنهك على السرير ما قالته لها مشاعل عن طقوس ليلة العمر ، و ما قالته أخريات كن أكثر جرأة من الجيران ••
همست لنفسها و هي تدخل فورا في ضبابات النوم :
 مبارك عليك يا عروسة !!
***
في حدود الخامسة عصرا أفاقت ريم مــــذعورة على يد تهزها ، فتحـــت عيــــونها بسرعة و حاولت تذكر ما حدث ، و عندما لمست يدها ثوبها و سمعت حفيفه تذكرت على الفور ، نظرت إلى سهيل الذي يوقظها ، كان مرتديا بيجامة النوم الحمراء التي أشتروها سويا قبل الزفاف بيومين ، كان مشمرا عن ساقيه ، ابتسم لها عندما فتحت عيونها و قال :
 يبدو أنك تعشقين النوم ، لقد نمت قرابة عشر ساعات حتى الآن ، لم أشأ إزعاجك ، لكنني آمل ألا تكرريها ثانية ، لا أحب أن تنامي قبلي بعد اليوم ••
استوت جالسة على فراشها و همست :
 ألم تنم ؟
فقال و هو يضحك :
 لقد نمت بعد أن أكلت بساعة تقريبا ، و استيقظت منذ ساعة تقريبا ، لا أحب النوم أكثر من سبع ساعات يوميا ، ستعتادي على ذلك بدورك ••
تمطت في فراشها و قالت و هي تبتسم بمكر :
 لقد كانت ليلة أمس مرهقة جدا يا سهيل ، لا يكفي لتعويضها نوم يوم بأكمله و ليس عشر ساعات ••
 حسنا ، قومي بدلي ثيابك ، و حاولي إخفاء هذا الثوب فلقد أصــبح بحاجة إلى تنظيف و كي ، ارتدي شيئا أنيقا سيأتي المهنئون بعد قليل ••
نهضت من فراشها بتثاقل كبير و قالت و هي تتثاءب :
 أشعر بجوع عظيم ••
فقال و هو يغادر الغرفة :
 الأصول تقتضي أن يحضر أهلك طعام للعروسين معهم عندما يأتون مهنئين ، آمل ألا ينسوا ذلك ••
بدلت ريم ثيابها ، و ارتدت ثوبا مغربيا مطرزا و مشطت شعرها و أعادت ترتيب زينتها ، فبدا وجهها مشرقا ، و خرجت مبتسمة تبحث عن سهيل ، وجدته في الصالة يطالع التلفاز فقالت على الفور :
 ماذا تشاهد ؟
فقال و هو يركز انتباهه على الشاشة :
 أنه فيلم مصري قديم ، شاهدته أكثر من مائة مرة ، أحب مشاهدته كثيرا ••

وقفت أمام الشاشة و قالت بدلال :
 الن تخبرني عن رأيك في ثوبي و زينتي أولا ؟
فقال و هو يثني رقبته ليشاهد الفيلم من الزاوية ••:
 لقد اشتريناه سويا ، و هو جميل بلا شك ، ابتعدي فالفقرة القادمة هي أجمل الفقرات ••
ابتعدت ريم عن التلفاز متنهدة و اتجهت للمطبخ ، كانت بقايا طعام العشاء في المجلى داخل الأواني ، راعها منظر المجلى و هو مزدحم بالأواني ، فشمرت أكمامها و شرعت في تنظيف الأواني ، عندما دق جرس الباب دقات متتابعة تنبىء عن مقدم المهنئين ، أسرعت فغسلت يدها و توجهت لحجرتها بعد أن أغلقت في طريقها التلفاز و جهاز الفيديو و هي تقول :
 أكمله بعد أن ينصرفوا ، و أذهب لاستقبالهم ، علي أن أهتم بزينتي ••
نهض على مضض و هو يتمتم :
 لا أحب أسلوب الأوامر ••
فتح الباب و رحب بأسرة ريم ترحيبا لائقا ، كان الأب و قاسم يحملان أكياسا ، و تحمل الأم طعاما و تحمل سمر كيسا آخر ، انطلقت زغرودة الأم بمجرد دخولها و هتف الأب مهنئا و وضع الجميع ما يحمله و ركضت سمر بإتجاه غرفة النوم ، فاستوقفها سهيل بحزم صائحا :
 إلى أين تذهبين ؟
فوقفت مرتبكة و هي تشير على غرفة ريم فقال سهيل بسرعة بصوت حاول أن يكسبه بعض الليونة :
 ستأتي بعد قليل ••
نادت الأم سمر و أاجلستها بجوارها و هي تؤنبها على سلوكها ، و خرجت ريم بسرعة مبتسمة و أقبلت تقبل الجميع و تتقبل تهنئتهم و لم ينس الأب أن يمنحها مبلغا من المال في يدها و هو يقبلها ، و جلست ريم بجوار زوجها ، فتمتمت الأم بدعوات لحمايتها و قال قاسم و هو يبتسم :
 ما شاء الله يا ريم ، لقد تضاعف جمالك ، يبدو أنني سأفكر جديا في الزواج
فقال الأب :
 أمنية حياتي أن أراكم جميعا في بيوتكم و أحمل أطفالكم ••
و غمزت الأم لريم ثم قالت :
 لم أصلي المغرب ، هلا جئت لتعرفيني مكان القبلة يا ريم ••
نهضت ريم و قد فهمت مرمى أمها ، و لم تدر وجهها إلى زوجها رغم يقينها أنه كان ينظر إليها و في عيونه رسالة ما ••
و في غرفة النوم ، قبلت الأم ابنتها مجددا و سألتها عن أحوالها فقالت ريم :
 أنا بخير يا أمي ، وسهيل رجل لا غبار عليه ••
تنهدت الأم و عادت فقبلتها و هي تعيد التبريك ، و لما شرعت في الصلاة توجهت ريم إلى المطبخ لتعد شيئا للضيوف الأعزاء ••
انتهت الزيارة بسرعة عندما حسم الأب الموقف و قال للجميع :
 هيا بنا ، لنترك العروسين ، الحمد لله اطمئننا عليهما ••
خرج الجميع و بقيت ريم تنظر إلى الباب المغلق بعدهم ، ثم تطلعت إلى سهيل فوجدته يطالعها و في عيونه أسئلة فقالت :
 هل نأكل الآن ••؟
توجهت إلى المطبخ و حلت الأكياس و استخرجت من طيبات الطعام و الفاكهة و المكسرات الشيء الكثير ، أعدت مائدة أنيقة ، و نادت سهيل ليأكل ، فجاء و جلس بعد أن قبل خدها و أثنى على حسن تنظيمها للمائدة ثم قال :
 ريم ، لا أحب أن يدخل أحد غرفة نومنا ، و لا أحب أن تتحدثي سرا مع أمك في أي شأن يخصنا ••
تنهدت ريم و كأنها كانت تتوقع ما سيقول فقالت بهدوء دون أن تنظر إليه :
 هي أمي ، و من حقها أن تطمئن علي ••
تطلع إليها فقالت و هي تبتسم بعد أن قرأت شك في عيونه :
 اطمئن ، لقد اطمأنت تماما ••
تناولا طعامهما بدون كلمة واحدة زيادة ، و بعد الإنتهاء منه ، نهضت ريم فغسلت الأطباق و وضعت البواقي في الثلاجة و وضعت إبريق الشاي على النار ، و لما لم تسمع صوت التلفاز يفتح مجددا خرجت لترى أين سهيل ، فوجدته في غرفة النوم يطالع بكثير من الإهتمام ثوب الزفاف الأبيض المعلق في خزانة الملابس فقالت :
 ماذا تفعل ؟
فقال و هو مستغرق في التفكير :
 لقد كلفنا هذا الثوب غاليا ، و ينبغي ألا نتركه على هذه الحالة من الإهمال الجسيم ••
فقالت بتهكم :
 هل تريد تنظيفه الآن ؟
لم يرد ، لكنه أنزله و حمله عائدا به إلى الصالة و قال :
 احضري منشفة و ماء دافيء ضعي فيه قليل من صابون غســل الملابس ، سيعود جديدا بعد قليل ••
قالت ريم و هي تأخذ نفسا عميقا غاضبا :
 حاضر •• حاضر يا زوجي العزيز ••
طيلة المساء انشغل سهيل في تنظيف الثوب ، و كان يبدو مستمتعا جدا بما يعمل ، يؤديه بهدوء و ببطء شديد و يتغزل في كل قطعة تعود لتلمع من جديد بعد تنظبفها ، جلست ريم تراقبه بعض الوقت ، كان عقلها يعمل بسرعة ، كان يهدر غضبا ، لم يعد الأمر مجرد تعديل لأشياء لا تعجبه ، و إنما أصبح تهربا •• عندما وصلت لهذه الحقيقة ، كان قد انتهى من تنظيف الثوب و كيه و كانت الساعة تدق الثانية عشرة تماما ، بدلت ريم ثيابها عدة مرات ، و كانت ترتدي في كل مرة ثوب نوم بلون جديد عله ينتبه لها ، لكنه عوضا عن ذلك اتجه إلى الفيديو و سألها عن العشاء ، نهضت فأعدته له و وضعته أمامه و سألته إن كان يريد شيئا فقال مستنكرا :
 هل ستنامي الآن ؟
فنظرت إليه و على لسانها أجوبة كثيرة مختلفة عما نطقت بالفعل :
 نعم ••
فقال و هو يقضم لقمة :
 اجلسي يا ريم ، تعشي معي ، و شاهدي الفيلم القادم ، إنه مسل جدا ، علام الإستعجال ، لدينا إجازة طويلة
فقالت ريم بهدوء غاضب :
 لكنني متعبة و أريد النوم
فقال بحزم :
 بل اجلسي ، سبق و أن أخبــــرتك أنني لا أحـــب أن تسبقيني إلى النوم أبدا ، أجــلسي و سننام سويا بعد الفيلم ••
جلست ريم على مضض ، و بدأ الفيلم ، فلم تشاهد منه شيئا ، كانت تطالع سهيل و هو يشاهده بحرص شديد كأنه يراه للمرة الأولى و يضحك على المشاهد السخيفة و يدق يدا بيد و هو يشير إلى الشاشة صائحا :
 أنظري •• أنظري ••
بعد أن انتهى الفيلم ، و شرب سهيل الشاي الذي كان حريصا على تناوله بعد الطعام مباشرة ، نهضت ريم قائلة :
 يمكننا النوم الآن فيما أعتقد ••
نظر إليها سهيل مبتسما و قال و هو ينهض :
 بالطبع يا حبيبتي •• إذا كان هذا ما تريدينه ••
نهض فسبقته إلى غرفة النوم ، اتخذت مكانها و استلقت على الفراش ، بعد قلـــيل جـــاء و استلقى بدوره بجوارها ، ظلا صامتين •• و عندما لم يبـــدي حـــراكا ، اســــترخت تمــامــا و أغمضت عينيها فهمس :
 هل نمت يا ريم ؟
تمتمت بالإيجاب فأدار ظهره و اتخذ وضعا جنينيا و تنهد ••
رفعت رأسها و طالعت ظهره •• تنهدت و ألقت برأسها على الوسادة فهمس :
 لطالما حلمت بأن يكون لي بيت لوحدي ••
لم ترد و حبست أنفاسها فأكمل :
 بيت كبير فيه أثاث يخصني وحدي ، و فيه زوجة جميلة تنتظرني ، فيه أطفال لي ••• أطفال بلا يتم ، و لا فقر و لا عوز •• أطفال منعمين يشربون الحليب المحلى و يأكلون التفاح الأحمر و يلعبون بألعاب تخصهم ألعاب ألكترونية و عرائس و دببة و مكعبات ••
ضحك بهدوء و لم يغير وضعه و أكمل :
 عندما كنت صغيرا كنت أعوض حرماني من كل هذا بالأحلام ، كانت أحلاما جميلة يسعدني الإستغراق فيها ، لكن البرد و الجوع و النهار المذعور كانوا ينتشلوني منها بسرعة ••
كانت ريم تستمع لهمسه بإصغاء تام ، استدارت بهدوء ، و طوقته بذراعها فتناول كفها بين كفه و أكمل دون أن يدير وجهه إليها :
 كنت أعيش الخوف في كل لحظة ، تجسد لي دوما كمارد عملاق صوته قصف الرصاص المتقطع و خطواته نداءات ملتاعة لأم فقدت ابنها للتو ، أتعلمين ؟
و استدار ليواجهها و أكمل و هو يكز أسنانه و قال :
 كنت أحسد ذلك الإبن الفقيد على بكاء أمه عليه •• و كنت أتساءل هل إذا مت سأجد من يبكيني •• و كانت الإجابة في عيون كل اللاهين بهمومهم عني ، كنت أعرف أنني لو مت فلن أكون إلا رقما عشريا تافها في قوافل الأموات •• لذا •• لذا قررت ألا أموت •• نعم قررت ألا أموت يا ريم ، لن أموت إلا إذا أصبح لدي من يبكيني و يترحم علي و يزور قبري ••
أحكمت ريم احتواءه و همست بحنان :

 هل يفكر في الموت من يبدأ حياته للتو يا سهيل ؟
ربت عليها و استرخى في نومه ، و لم تمض لحظة حتى سمعت ريم صوت أنفاسه المنتظمة يتردد في أذنها ، ينسل إلى تجويفها الخالي ليعلن إنتهاء يوم آخر في حياتها الجديدة ••
ولم تنم ريم هذه الليلة ، أدارت كلام سهيل في ذهنها و مررته على قلبها فاستشعرت مأساة يمر بها هذا الشاب تحول بينه و بين المضي قدما في اتمام الزواج على الوجه المفروض ، قررت أن تكف عن التفكير في هذا الأمر حتى يأتي لوحده ، قالت و هي تحكم الدثار حوله :
 قريبا جدا ستتيقن أيها الغالي من أنك وجدت أخيرا من يهمه أمرك كثيرا ••


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى