الجمعة ٢٣ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم محمد المهدي السقال

الجحر والثعبان

رغم تعاقب التحول في الفصول، وما تشهده دورة الأرض التي لا تستقر على حال في القطب كما في الصحراء، فإن ما حدث اليوم، السادس من "محرم"، يشبه كثيرا ما يحدث كل خمس سنوات، منذ أربعين عاما أو يزيد.

استجاب سكان الحي لدعوة "السي أيوب"، فحضروا الاجتماع وهم يعرفون ما يرتب له الرجل، استعداداً لدخول الانتخابات الصيفية، لم يتردد في استباق الأحداث، كغيره من منابر الأحزاب التي تناسلت فتكاثرت مثل الطحالب.

تساءل أحد الحضور عما إذا كان اللقاء من دون سابق إعلام للسلطة الإدارية، خاصة وأن الحملة الرسمية لم تنطلق بعد، بينما كان الناس منشغلين بالضحك على نكتة جنسية، سُمِعت قهقهاتهم في جوف المطبخ، فبدت على "مليكة" علائم الارتياح:

الجو هذه المرة أفضل.

لم تفهم خادمتها القاصر العبارة، تزكم أنفها رائحة المنظف الحمضي، تحاول بيدها الصغيرة حك الأرنبة، فتتذكر ما يعلق بأصابعها من السائل المؤذي للبشرة.

مَلَّتْ "مليكة" هزائم زوجها، يدخل عابساً يجر أذيال خطوه كالماشي فوق الماء:

 هزمني بصوتين.

ثم يستلقي على ظهره مسمر العينين في السقف، في البداية، كانت الخمرة تسعفه في تغييب وعيه عن التفكر المؤلم في مثل هذه الصدمات، ليت "سي قدور" لم يقنعه بأن فشله في تجاوز غريمه، إنما كان بسبب ما تلوكه الألسن حول سكره العلني.

أدار وجهه للقبلة عملا بالنصيحة، لكنه فقد الملاذ الآمن لدفن حزنه على الخسارة.

الحالة الوحيدة التي أثبت فيها دهاءه، كانت فرصة عمره التي اقتنصها بالنية أو بالمكر، رآني راجعة من "الفران" , عابرة وسط الدرب أحمل "وصلة الخبز"، فقال إن نظرتي إليه أصابته بسهم كما يضرب الضوء المفاجئ مغمض العينين سنينا، لكنه لم يتقدم لخطبتي إلا بعد التقصي والتحري عني , اعترف لي بأنه سأل عن مغامراتي الجنسية في الحي قبل أي شيء، كالاستفسار عن أصلي وفصلي، اقتحم أبي جلسة النساء الخاطبات، فاجأهن بضرورة معرفة حقيقتي في البيت:

 قبل أي شيء، لا بد من التعرف على سر يجهله الناس، "مليكة" ليست ابنتي من صلبي، ربيناها بعد موت أمها، أما أبوها فقد خرج ولم يعد، قيل إن البحر ابتلعه ضمن العابرين إلى الضفة الأخرى في قوارب الموت، وقيل إنه اختفى بعد إضراب السنة البيضاء في السبعينات.

تبادلت أمه مع الخالة نظرات جاحظة

 لم يكن في نيتنا تبنيها مع كثرة الأولاد، لولا إلحاح أمها تحت وطأة الظروف المادية، منعتنا السلطة الإدارية من إدخالها في الحالة المدنية الجماعية، رغم عدة محاولات بهدف جعلها ترث مني، هذه هي وضعية البنت التي جئتم تخطبون.

اعترف لي فيما بعد أن الحرمان من الإرث صدمه، غاب عن وعيه لحظة نسي فيها ما كان يعلنه من هيام بي، عرف فيما عرف عني وعن أسرتي، امتلاك أبي ثلاث عمارات وفدانين، إضافة لنصف الحي الذي يملك رقاب ساكنيه.

و قد خيَّر أبي الخاطبات بين الإعلان عن موقفهن ساعتها، أو أخذ مهلة للتفكير في القرار الذي سيتخذه ابنهم بعد المعرفة بالسر.

كانت أول مرة في حياتي أسمع فيها برجل يُمهَل فسحة للتأمل والتفكير في اتخاذ قرار القبول أو الرفض، جرت العادة أن يكون التفكير لأسرة المرأة، لكن " أيوب " كان بطارا، لم ينتظر برهة للإعلان عن موافقته، فأذعنت أمه قبل خالته، وكان الزواج:

أريدها كما هي، أنا أحببتها لوجه الله.

منذ تلك اللحظة وأنا اقدره واعتبره سيد الرجال، فقد كان الأب أبي، وكانت الأم أمي، وكنت الوريثة الأنثى بين خمسة ذكور أشقاء، كان الامتحان الوحيد الذي أعرف أن " السي أيوب " نجح فيه، أما الانتخابات..

تظهر النتائج، مازال يفوز الحزب الفلاني، يقاطع السكان، يمر بهم، فيغمغم بكلمات ساخرة، دون أدنى رد فعل منهم، حين حاولتْ تهدئة روعه مما هو فيه، لم يصرخْ في وجهها كعادته، بدا كالحمل الوديع بين يدها حتى تخيلته على وشك البكاء،

هل كان منشغلا بما خسره في الولائم؟

هل كان يفكر في العمر الذي ضاع منه جريا وراء كرسي بالمجلس؟

يشتكي من شماتة الأعداء به بعد كل امتحان، لكنه لا يفتأ يعاود الكرة، تقترب الانتخابات فينسى التهم التي يكيلها للمسؤولين حول التزييف والتزوير:

من يدري؟ ربما تكون هذه التجربة ديموقراطية.

ثم يعود لحلبة المزاد على الكرسي،

 الله يحفظ.

لم تسمع الخادمة الصغيرة جملتها الأخيرة، كانت تتحاشى لمس جبينها الملوث بالماء الحمضي في يديها، أطلت " مليكة " من خلف الحجاب، فنط الرجل من الحلقة:

 "أتاي"

فوجئ بها واقفة لا تحمل شيئا، والناس قد اشرأبت أعناقهم قبله للنداء، بادرته باستعجال إحضار النعناع، قبل فتح فمه الذي عهدته فوهة بركان:

 لن تصدق، فقد لعبت به القطط المسخوطة،

حملق فيها شزرا كأنه يوعدها بليلة سوداء، غير مبد أي اهتمام بمعرفة التفاصيل، لم ينطق كلمة كعادته حين يرعد ويزبد لأتفه الأسباب.

ذات مرة، اجترأت على اتهامه بالجنون بين نساء الحي، استرسلت في لعن الانتخابات وما يأتي من جهتها، بهرت النساء برجم الديموقراطية في هذا البلد، زغردت واحدة، ارتد الصدى متراقصا في الجنبات.

عاد الرجل عن تساؤله، دون أدنى شك في أن يكون التجمع معلوما، سواء بعيون المخزن المبتوتة مثل الطفيليات بين الأعشاب, أو بإخبار صاحب الاجتماع عن زمكانه وموضوعه، وإلا ما كان بعضهم تجرأ على الحضور في وضح النهار، "المقدم" الذي يعرف كل صغيرة أو كبيرة كما يحيط بكل شارد وواردة، يدري أنه ليس في الحي عقـيقـة أو ختان أو تأبين، قالت "مليكة":

 ليس في البيت أحد للسخرة.

وانسحب "السي أيوب" متواريا عن العيون، أقرب نقطة لشراء النعناع لا تقل عن ربع ساعة، خطرت له فكرة العودة إلى "مليكة"، لماذا لا تستلف من الجارة؟

هي الأخرى منذ غاب زوجها، لم تنفك عن الطلب، حتى الملح تطلبه، يطرق ابنها الباب، أفتح بالصدفة،

أجده أمامي متلعثما يخبر بحاجة أمه إلى ملح، ليس له منها غير العيون الزرق، تلتقي عيوننا فألعن الشيطان الرجيم، ذات يوم قلت لمليكة:

إن هذه الجارة فاتنة، تزداد جمالا، لا تبدو عليها علائم الحسرة على غياب زوجها، اصفر وجهها غيرة منها وغيظا عليّ.

أنادي عليها كي تمده بما يريد، فتناديه للدخول إليها.

ليست فكرة مناسبة، ليس أمامه سوى قطع المسافة بالسرعة الفائقة، السرعة، وتذكر حالته الصحية، سيصل لاهثا ويعود أكثر لهاثا.

لن يكون له حضور بين الجمع حين يأتي دوره، استعد كثيراً لهذا اللقاء، يحفظ كلمته عن ظهر قلب، لكن ضيق التنفس يعوقه دائما عن رفع عقيرته في مثل هذه الاجتماعات، أما إذا أضيف اللهاث إلى الضيق، توقف كأنه يريد التفكير في حل عقدة ما، بسرعة، قرر العودة إلى
"مليكة":

 بلا "أتاي"، أحسن، سيجد الجمع في انعدام ما يؤكل أو يشرب، علامة على حسن نيتي،

 حملقت فيه مشدوهة لم تلو على شيء،

 والنعناع؟

توارى معها خلف الحجاب يحاول أن يظهر لها عفريت،

 سيخرجون كما دخلوا، لا "أتاي" ولا هم يحزنون.

لن يقولوا عني ما قالوه عن "عريبو" في الانتخابات السابقة، لم أذبح خرافاً بدمائها آخذ منهم عهد الله بالتصويت عليَّ، سيقولون:

هذا هو الرجل، حتى "أتاي" ما شربناه،

عاد إلى الناس يصطنع ابتسامة عريضة، ربما لم ينتبه أحد لغيابه، وجدهم في نفس النقطة التي تركهم فيها، قال في نفسه:

 نفس الدائرة المفرغة.

***

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى