الثلاثاء ١٠ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم أمير على

ورقة واحدة بمائة جنيه

طريق ممتد كبساط أسود طويل وفوقه تتمخطر سيارة واحدة، سيارة مرسيدس من ذوات العيون الوقحة -أو كما يقولون- تعكس ألواحها الخارجية ، كمرآة سمراء مشهدا صغيرا يتحرك بسرعة لسحب السماء السامقة ومشهدا أكبر لثراء صاحبها الشاهق.

وبداخلها كان يسمع بوضوح صوت صاحبها رجل الأعمال الشهير، يتحدث على عجل لرفيقه الذى يسمعه وحده فى هاتفه المحمول، فبطارية الشحن تكاد تفرغ لكنه لم يكد يبدأ حديثه الذى بدا هاما ومستعجلا.. نزع سماعة الهاتف من أذنه لكنه تذكر دون أن ينظر إلي الهاتف الآخر أنه لا يؤمن بالمعجزات وأن بطاريته فارغة أيضا.. فتابع القيادة بسرعة وهو يتفحص المكان حوله باحثا عن كابينة تليفون عمومى ..

وبجوار إحداها توقفت السيارة مرة واحدة..كان سيجار الكوهيبا البروباجندى أول ما أطل من باب السيارة المفتوح قبل أن يفاجأ الرجل بهواء الربيع العاصف يصفع وجهه ويثير شعره ويهينه أكثر بنثر رماد سيجاره على ملابسه. اغتاظ الرجل وسبّ بالانجليزية شخصا لا يراه، وبحركة عصبية نفض الرماد بظهر يده وشدّ بدلته الانجليزية السوداء حتى استوت ياقتها لكنها تهدّلت ثانية بفعل الهواء الشديد.. استسلم الرجل وأخرج حافظة نقوده ومضى يقلب فيها بأنامله البيضاء التى لم تحمل يوما سوى الخفيف الثمين، لكنه انتبه إليها كورقة تسقط من شجرتها العالية.. ورقة نقدية فئة المائة جنيه. جديدة تماما، كانت.. استقرت أسفل قامته المنتصبة كتمثال شامخ بجوار حذائه الأسود، يوارى قدمين غضتين، كان فى الأصل يوارى جسد أحد الحيوانات الأفريقية المغلوبة على أمرها.. رماها الرجل ببصره المحتمى خلف نظارته الايطالية السوداء، وانحنى يتناولها لكن ما إن داعبها الهواء حتى استسلمت لهبّاته فأخذها بعيدا عنه.. اعتدل الرجل خالعا نظارته، ملقيا نظرة ساخطة على الورقة الآبقة التى ابتعدت عنه, ولكن لم تطول نظرته أو تفكيره، طبعا هو لن يهين نفسه ويسير خلفها يتتبعها وقد يعدو ليلحقها، هو من ذاك النوع الذى يبذل مجهوده فى التفكير ولأجل ملايين أمثال تلك الورقة، كما أنه لا يمتلك وقتا فارغا ليمارس تلك الملاحقة الصبيانية. رفع معصمه ونظر فى ساعته السويسرية الذهبية، كما لون القلم البارز تحت الجاكت، لقد تضايق حقا.. قام بإيلاج الكارت فى الكابينة، وفوجئ بأن الكابينة معطّلة. زفر بضيق وسبّ الكابينة بالانجليزية لكنها لم ترد بغير صفارتها المتقطعة. جال ببصره فى أنحاء المكان، فلمح على بعد كابينة أخرى، يقبع جانبها، كما بدا له، جبل صغير من القمامة، فركب السيارة واتجه نحوها وهو يلعن تلك البلاد الأشبه بالحظيرة القذرة.

كانت المائة جنيه "ورقة واحدة" تطير فرحة غبرة، أعارها الهواء جناحين ولم يعد بالمقدور تمييزها من أوراق القمامة الأخرى.. حتى سكن الهواء وفترت الأجنحة. قبعت الأوراق كلها على جانب الطريق لكن ما لبث أن هوى فوقها أحد الشحّاذين الضخام بإليتيه دون أن ينتبه إليها.. كان التعب والجوع قد أعياه وأفقداه عقله، فمضى يهذى ويخرف بكلام لا يستبان، لاعنا البشرية والكون والوجود، فهو من طليعة يومه حتى هذا الوقت الواشك على الأصيل لم يهبه مخلوق ما يوهم به نفسه بالشبع فحسب. وقد بدا الشحّاذ برأسه الضخم الأسخم وبنيته المفتولة بلا انتظام وثيابه البالية المتسخة، أشبه بجبل صغير من القمامة.. ففيه يهجع وينجع وفيه ينقب عن طعامه وفيه أو عليه يقضى حاجته. كان لابد إذن أن يتأثر ويتطّبع، فاستحال مظهره جبلا صغيرا من القمامة، هو نفسه الذى رآه رجل الأعمال منذ قليل لكنه دهش عندما رآه رجلا ولم تطول دهشته إذ وجده شحّاذا. ترجل الرجل ثانية قاصدا الكابينة، وما إن رآه الشحّاذ حتى عاود الصياح يستنجد به ويمد له يده القذرة المصنوعة من قمامة، ويرفع فمه الواسع كفم كلب حرّان، لكن رجل الأعمال لا يبالى.. أدخل الكارت فى الكابينة ومضى ينقر الرقم والشحّاذ مستمر فى صياحه... "جعان يا بيه، حا موت يا بيه.. جعان والنبى يا بيه".. أدرك الرجل أنه لن يتمكن من إتمام مكالمته فى مثل هذه الضوضاء، لكنه لم يجد فى حافظته سوى ورقات أخرى فئة المائة جنيه، مروّضة ومتكاسلة كأنها نائمة,, ولم يحتر طويلا. توجه نحو السيارة دون أن ينظر للشحاذ الذى مازال فى صياحه وملامح وجهه أخذت تتسول بكاملها، حتى فوجئ بالرجل يقذف فى حجره شيئا أسودا كإصبع زنجى ضخم، سرعان ما تناوله بيده ومضى يتحسسه ويتشممه كما يفعل كلب جائع.. لم يعرف أنه سيجار يكفيه ثمنه طعاما لأكثر من شهر، لكنه كان متأكدا لحظتها أنه لا يصلح كطعام. نهض من جلسته وقذف به فى وجه الرجل وهو يبصق على الأرض بصقة عنيفة ويتجشّأ بقوّة.. ثم غادر المكان وثمّة إحساس فعلى داخله بالشبع التام.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى