الاثنين ٢٣ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم هيثم جبار الشويلي

بقايا سيكارة

على صفيحة سمن فارغة يأكل الصدأ أحشاءَها كان يتربع عليها ، يطيل النظر ويغوص في صمتٍ كبير ليخُرجَ بعد ذلك من صمتهِ المطبق ، ثم يخرج من جيبه علبةً معدنية على ما يبدو انها تعود الى زمن قديم كانت تستخدم لاسياد كبار في ذلك الزمن ، كان بداخل العلبة مجموعة من لفافات التبغ كانت قد لفت مسبقاً يخرج لفافة من تلك اللفافات ، يتناولها بيده اليمنى ، ثم يتناول بعد ذلك بيده اليسرى علبة كبريت ، يُشْعل اللفافة ، يضمُ اللفافة بين إصبعيه كحبيب يضم حبيبه في الليلة الظلماء أو كأم تضم طفلها خوفاً عليه من كل شيء ....

يتعطش لها ، أو قد يرى فيها أشياء كثيرة ، وفي لحظة استنشاق عميقة ، ينفخ الدخان ليتصاعد كسحابة كثيفة تخرج من فمه ، خلف تلك السحابة .... جميلة الجميلة التي أضنته كل تلك السنين ، التي بعدها لم يعرف في حياته سوى الصفيحة التي يجلس عليها وتلك اللفافة التي تحترق لتنير له كل تلك الذكريات وناقوس الصمت الكبير الذي يخبئ تحته كل الجراحات ، لم تخلف له جميلة سوى تلك الذكريات المؤلمة ، دنا من تلك السحابة التي رأى فيها حبيبته جميلة الجميلة ذات الوجه الباسم حاول أن يذكرها بماضٍ سحيق ، ماض ٍ قضى نحبهُ منذ زمن بعيد ، حاول أن يذكرها بكل شيء جميل ، دارت بينهما شجون وحديث سعى جاهداً أن لايفوته أي شيء وأن يذكرها بكل شيء ، كل شيء بلا استثناء ، أراد ان يذكرها بعنجهية والدها وجبروته الذي سعى بكل الوسائل والاساليب الى التفريق بينهما ، اذ لم يراع فيهم كل مشاعر المحبين واحاسيس العاشقين ذكرها بآخر مرة رآها وكيف بقت صورتها عالقة في عينيه ، لقد رضعت عيناي من كل شيء جميل منها ، مازلت أحن الى صورتها ، ولو نظرت الى عيني لرأيتها تعشعش في سوادهما ، بعدها عانيت من المرض كثيراً ولم تكن رفيقة لي بعدها سوى رفيقتي

السيكارة التي كنت اسامرها طوال الوقت ، كنت اتكلم معها اذ لازمني الصمت ، كانت سيكارتي تستدرجني من لا أعلم ، كنت أحس بأن اللفافة كلما تحترق تسلب مني قصة من قصص حبيبتي جميلة ، اذ يغوص الدخان في أعماقي ليخرج من خزانة اسراري التي أخفيتها في قلبي ، كانت سيكارتي متنفسي الوحيد الذي الجأ اليها في أغلب الاوقات ، كنت اشعر بإرتياح كبير عندما أحاورها ، اذ تذكرني بتلك الليلة التي لم تفارقني الى اليوم ، كانت آخر مرة رأيتها ، حيث كنا نلتقي قبل ذلك في مكان ما ، كان هذا المكان متفق عليه ، في حقيقة الامر ابلغتها عن سر ٍ يدور في خفايا نفسي ، اذا لم يوافق والدها على زواجها مني سوف نهرب خارج المدينة الى مكان بعيد آخر ، حيث تم الاتفاق في الذهاب الى مكان بعيد ، وفي ذلك الصباح الذي زقزق بوجهي الوجع ...لم اتحمل الصدمة ، لم تأت حسبما تم الاتفاق عليه ...لم ارها منذ تلك اللحظة ، لكنني علمت فيما بعد أن اباها قد زوجها من ابن عمها ، حيث هو من وشى بتلك الجلسة السرية التي كانت آخر جلسة من جلساتنا ، احسست بلسعة ٍ حرارية شديدة بين إصْبعي ، سقطت على اثرها السيكارة انتبهت من تلك الصورة وتلك الذكريات التي زالت بعد انقشاع سحابة الدخان الكثيف التي تبددت … وتبددت معها صورة جميلتي جميلة ، وها أنا أعيش على تلك الذكريات وهذه الصور ، عند كل لفافة تبغ ٍ لتبقى بقايا ذكريات ٍ مضى عليها عشرون سنة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى