الخميس ٢٤ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم أديب قبلان

رســـــــالـــــة مـــــن هــــنـــاك

انفرجت أسارير الأزهار وعاد الورق الأصفر المتساقط إلى أمكنته على أغصان الأشجار ، وها هو الربيع يعود مبتسماً أخضراً خضرة صافية نقية طارداً وحدة الخريف وعناء موسمه ، فالكل الآن يعود إلى حقله ، ليس نضال وجهاد فقط بل عاد الجميع .. عمر وسعيد وخالد واعتصام و ليث ، هؤلاء الشباب الذين وقفوا في وجه من لم يعرف معنى كلمة الوطن في قلوب العاشقين .

كانت الأيدي السمر قد أتعبها الاسترخاء وحنت للزراعة والحصاد وهاهي الآن ستحقق ما حنت إليه .. ما هي إلا دقائق حتى وصلوا إلى الحقول التي لم يروها منذ أن وضع الاحتلال الصهيوني يده الغاشمة على أرزاقها و كنوزها التي تركها الأجداد منذ حقب بعيدة .

أطل من بعيد هؤلاء السكان الأشداء من على شرفة جبل ..... ورأوا ما آلت إليه مزارعهم تلك من فرقة وخراب ودمار وما عانته من جفاف بعد أن أحرقها هؤلاء الصهاينة بعد انتفاعهم منها ، ولكنهم لم يعرفوا كعادتهم لم يعرفوا الفشل وباشروا مزارعهم بالري والترطيب والبذر وطالت بهم الأيام على هذه الحال حتى حان موعد ذلك اليوم ....

منذ صياح ديك مزرعة أبو صالح النقشي سمع في جانب الجولان الغربي صوت لإطلاق النيران .. لم تعرف بعد الأسباب ، ولكن ما هي إلا دقائق حتى جاء بدر ، صبي القرية الذي يجلب الأخبار عادة مبلغاً أهل القرية بهلاك مزارعهم !! .. ماذا ؟! ، ماذا تقول يا بدر ؟! ، لقد عاد الأوغاد ليهدموا ما بنينا وحان موعد الشهادة أو النصر وتنادوا إلى السلاح ... أي سلاح ! إنها الفؤوس والعصي .. إنها الخناجر وسيوف الشهامة والشجاعة ، جاءت حميتهم تنادي ... هلموا إلى الأرزاق ... ولن يحدث إلا ما كتبه مالك هذه الأرزاق ، وخلال دقائق كان الثائرون من أبناء أرض الصمود يختلفون في مصائرهم فمنهم من آثر أن يسقي مزرعته من دمه بدلاً عن الماء العذب الذي يسقيها صباحاً به ، ومنهم من آثر السجن على الموت عل الله يأجره به أجراً عظيماً ، ومنهم من نادى الله أكبر ليؤثر الصمود في ساحة القتال حتى الزوال ، وانتهت هذه الافتتاحية الصباحية بانضمام ثائري القنيطرة إلى جانب أهل الصمود والكفاح ووقعوا بينهم عقد الموت دفاعاً عن شرف الأحرار ، وذوداً عن حمى الوطن الكبير في القلوب ، حيث سارعوا بالإجهاز على مئتي وغد من أصل ثلاثمئة وخمسين و قد عادوا ودمع النصر يغرق مآقيهم الغراء ، فقدوا الكثير من أصحاب الحمية والكرامة لكنهم كسبوا نصراً ليس بعده نصر وجعلوا من حياة الأوغاد جحيماً وكسروا شوكةً طالما قيل فيها " الشوكة الخالدة " ، عادوا ومحامل النصر على أعقابها الرجال الذين وضعوا حدًا لحياتهم بتلبية دعوة الوطن الخالد المبجل .

دخل جهاد على أمه حاملاً أخبار المجاهدين ثم قبل يدها ورأسها ودمع العين منهمر يسيل وقال بصوت مبحوح هادئ :
 ادع لخالي أبي أحمد بالرحمة فقد رأى في جنات الخلد مقامه ...

لم تستقبل الأم ذلك بالعويل بل استقبلته بالزغاريد التي ملأت أرجاء القرية .. هؤلاء صامدات الجولان .. هؤلاء وريثات الأجداد الكرام ، لم يكونوا في يوم من الأيام إلا أصحاب مواقف رجولية إن دلت فإنما تدل على العشق المميت لأرض الوطن والرغبة الصامدة في تحريره ورفع يد ذلك الغاشم عنه إلى الأبد ، فرفعت تلك الأم يديها إلى عنان السماء مخرجةً بلسانها كل ألفاظ الدعاء من فمها الذي طالما نطق بالدعاء ليحفظ لها الشاب الذي وهبت حياتها لتربيته حتى رأته نخلةً قائمة بكل قواها ، حتى ترى أحفاده قبل أن يستدعيها ملك الموت ليقبضها .

هذا لم يكن الخبر الوحيد الذي استقبلته أم اعتصام بهذه الوقعة ، فقد اضطر أبو تائب لأن يأخذ ابنته إلى " داية " القرية أم الوفا بعد أن جاءها خبر استشهاد زوجها في المواجهة فخرت قواها على الأرض وخرت هي وراءها علها تجمعها لكن دون جدوى ، كما أصاب خبر وفاة ابن العجوز خالد قلبها لتخر على الأرض دون حراك ولتصبح الفاجعة فاجعتان وليزيد حقد أهل القرية على اليهود ويزيدوا قوة نفسية و ليبدأوا مشوار الانتقام الذي تضاعف بعد آخر مواجهة والتي قضى فيها العشرات من نبلاء القرية وأشرافها الذين ظلت القرية حاملة ً شرف أسمائهم الساطعة في سماء الجولان طيلة عقود طويلة .

 أ -

تناولت أمي المقشة وشرعت في تنظيف " أرض الدار " التي كم سهرنا فيها مع خالي المرحوم أبو أحمد ووالدي – شهيد الجولان – الذي قدم روحه رخيصة في مقام جليل هدية لأرض الجولان الحبيب ...

 أمي .. منذ متى لم نسهر هنا في هذه الجنة الصغيرة ؟!

 لقد ولت تلك الأيام مدبرة بعد أن سئمت مجالسنا ..

لم أطل في هذا الموضوع فلم ألبث أن رأيت دمعها هاج غاضباً يريد الانهمار فمنعته بقولي :

 إن لجارتنا أم السعيد وحشة .. لو أنها لا تزال هنا لما شعرت بالملل والفراغ الكبير الذي يطغى عليك .

صمتت برهة .. :

 يا بني .. أما سمعت عن المثل الذي يقول لا أسف على رخيص إذا تولى الغالي .

لم أتمالك نفسي وقصدت باب البيت الذي أحسبه عادةً مخبئا للبكاء بعيداً عن ناظري والدتي المسكينة ، فخرجت ليكون نصيبي – كالمعتاد - بائع الحلوى الفلسطيني الأصيل المعروف في قريتنا باسم " سلطان الحلو " بوجهه البشوش المليء بالمعاني المختبئة بين طيات التجاعيد التي أوجبها الزمن في أرجاء وجهه بعد أن فرض عليه ترك أرضه في فلسطين ورحيله إلى أقرب منطقة فكان من نصيبنا .

 كلما جئت من هنا أراك خارجاً يا جهاد .. ربما حتم عليك القدر أن تشتري من عندي أحد أنواع الحلوى !

فعلاً أضحكني .. وأحرجني ... فها هو يطلب بصريح العبارة أن أشتري من عنده ... فكيف سأرفض ؟! لم أطل كثيراً التفكير ... فتناولت ما معي من " ليرات" ووضعتها في يده مبتسماً ابتسامةً تعقب الحزن :

 إذا لم نشتر من حلوى العم أبو جاسم .. فمن عند من سنشتري ! .

 جبر الله خاطرك وأخذ بيدك ونصرك على أعدائك أجمعين .

كعادتي .. لم أبتعد كثيراً فحدودي النهائية لهذا المخبأ السياج الموضوع ليحجب عنا نور الحياة والذي يمنع عنا الاحتفال بوطننا الأم سوريا ، تلك الأرض التي كان من نصيبها أن تحتضن أرض الجولان .. أرض الأطهار الذين لم يعرفوا بعد معنى كلمة الخيانة أو السكوت على باطل .

تناولت طريق البيت قاصداً الراحة البدنية والنفسية وهي بضع خطوات .. وها أنا أطل على مشارف منزلنا الحبيب البسيط صوت طحن القمح ينادي شوقي للخبز التنوري الذي اعتدت أكله بشره .

فتحت الباب ، دخلت .. اتجهت إلى أمي وقد احتلتها حالة من الراحة كما يبدو :

 عل وضعك قد تغير إلى الأفضل إلى شاء الله يا أمي ...

 إن شاء الله يا بني .. إن شاء الله

دخلت إلى حجرتي و شرعت في تنظيم خطة لرد الصاع الصهيوني صاعين أليمين وكما اتفقت مع معتز والبقية .. كل منا بجهز خطة ثم نختار الخطة الأفضل حتى نستطيع ضرب الصهاينة بأسلوب متمكن .

الساعة أشرفت على الثامنة مساءً من يوم الأربعاء والاجتماع بيننا مقرر في الساعة الثامنة والنصف ..

تأكدت من نوم أمي في سريرها المنخفض ، ثم خرجت بخطوات صامتة قاصداً الجامع والشيخ أبو شعلان حسب الاتفاق ، وهاهي لحظات مضت وأطل المسجد في نهاية الدرب .. اقتربت .. وجدت عدداً من أحذية في الخارج .. دخلت سلمت ..أوه جيد ، الشباب جميعهم حاضرون في الموعد وحسب الاتفاق :

 السلام عليكم

 وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، لقد كنت آخرنا على غير عادتك ..

 أ .. أ نعم ، لقد اضطررت إلى التأكد من نوم الوالدة أطال الله عمرها لأستطيع الخروج كما تعرفون .

لحظات .. وكانت الخطة قد جهزت و موعد التنفيذ هو يوم الجمعة فجراً .

 ب –

يوم الخميس مساءً .. كانت التجهيزات بيننا على أتمها ، ولم نلق أية صعوبات أو مضايقات من مختار الحي أبو العز الذي اعتاد أن يكون ذيلاً لمخفر القرية الذي لم يلبث أن يتفق مع أحفاد صهيون على إفنائنا عن بكرة أبينا هذا إن لم يكن هو صهيوني ...

جهزنا العدة وكانت اللقيا على تل الوداد ، هكذا أسميناه ، لأنه فعلاً مكان محبة وتآلف ووداد ، فجراً ومع نداء الشيخ أبو شعلان على صلاة الفجر .. صليناها جماعة كما اعتدنا منذ صغرنا وتوجهنا إلى التل لنتزود بالقنابل والذخيرة التي جاءتنا من لبنان عن طريق الحدود .

تزودنا بتلك الذخيرة ووجهنا نيتنا وقصدنا لمولانا رب العباد وتناولنا أسلحتنا وركبنا سيارة عسكرية قديمة واتجهنا إلى أولى المستوطنات المستهدفة .

هي ساعات قليلة وترى الدخان الأسود يتطاير خلف حاجز عال الارتفاع دليلاً على نجاح العملية ولكن اضطررنا إلى توديع بعض من إخوتنا الذين تبرعوا بأرواحهم فداءً للوطن وهم إن شاء الله في جنات النعيم .

ركبنا السيارة وتوجهنا عائدين إلى القرية خائفين من زلات الحظ فأي دورية لشرطة ستشك في أمرنا وخصوصاً أننا عرب ، وكان ما توقعناه ..

حاجز نهائي مفعم بالجند اليهود يفتشون السيارات ، كان السائق هو صالح النقشي فحاول تجاوز هذا الحاجز بزيادة السرعة لكن القانص الآلي غادر آلته ليكون نقطة نهاية حياته التي ملأت بالبهجة والسرور ، وتوقفت السيارة على جانب الطريق متعثرة بصخرة عملاقة وأخرجونا منها وأعلبهم قاوموا الجنود الإسرائيليون فأطلقوا عليهم النار عل الأرض تروي عطشها الذي امتد طويلاً وها أنا الآن لا أعرف مكاني ولكنني أعلم أنه حكم علي بالإعدام وأنتظر تنفيذ الحكم وأنقل لكم هذه الرسالة لتوصلوها إلى العالم أجمع ...

الأسير في ظلمات سجون الصهاينة

جهاد الشهيد


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى