الاثنين ٢٥ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم بيانكا ماضية

رواية (فضاء الجسد) لثريا نافع

ودعوة لقبول الآخر بأشكاله وانتماءاته كافة

(فضاء الجسد) رواية للكاتبة الصحفية ثريا نافع الفلسطينية الأصل ، المصرية الجنسية ، صدرت عام 2006 عن دار الرحاب للنشر في بيروت ، وقد ذيلت المؤلفة عنوانها بعنوان آخر هو تفسير لمحتوى الرواية لتشير إلى أن هذه الرواية تصوير لمحنة إنسان من الجنس الثالث ...

الجنس الثالث ( الخنثى ) هو فكرة الرواية التي أدخلتنا من خلالها الروائية إلى عالم يضج بالتناقضات وبالحيرة الإنسانية الوجودية ، وذلك عبر شخصية البطل (نداء) ... وهي إذ ذاك لاتطرح محنة هذا الإنسان على بساط الرواية لتشير إلى المشكلات والمنغصات التي تحف بحياة هذه الشخصية وحسب ، وإنما لتدلل على غير قضية من قضايا هذا المجتمع الذكوري ولتقفز إلى قضايا أكبر وأعم أولها جروح الأمة العربية والواقع العربي بأمراضه النفسية والاجتماعية وآخرها قضية قبول الآخر مهما كانت جنسيته أو دينه أو جنسه .

من خلال أحداث الرواية تتكشف للقارئ ليس أزمة الجسد عند (نداء) وحسب وإنما أزمات أجساد أخرى منتهكة اجتماعياً وشرعياً ، لابل تطرح أزمة جسد أكبر ، وهو جسد الأرض المنتهك عبر الاحتلال ...

فهي عندما تشير بداية إلى زمن ولادة (نداء) تؤطر الحدث بزمن أسود هو زمن مذابح صبرا وشاتيلا (قبل أن يجف مداد التعهد الأمريكي لحماية أرواح الفلسطينيين في مخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة كانت خطة الانقضاض قد رسمت على العزّل من المدنيين.. سكان المعسكر من قبل شارون - وبالتعاون مع حزب الكتائب - فانقضوا بلا وازع على المخيم، ونفذوا إبادة جماعية لمدنيين عزل كان سوء حظهم أن جعلهم من ساكنيه! - اقتحام الدبابات الإسرائيلية المخيم بمساعدة الكتائبيين - وفي غياب تام للشرعية العربية - وصمت مهين كالعادة.. أعملوا في ساكنيه من النساء والأطفال والشيوخ قتلاً وحرقاً وذبحاً وتقطيعاً!) ..

أما المكان فلم يكن هناك في لبنان وإنما في بيت لحم التي تقع (تحت قدمي مدينة القدس مسقط رأس المسيح عليه السلام، تنتشر فيها حقول القمح والشعير والزيتون والكروم ) ..والمكانان محتلان نهشت جسديهما أنياب الاحتلال الصهيوني الغاشم .

في هذه الرواية تدخل الكاتبة في عوالم شخصيات شاذة لتلامس التابوه بذكاء وبقدرة فنية خلاقة ولغة شاعرية استطاعت من خلالها كشف دواخل هذه الشخصيات عبر علاقاتها المحرمة اجتماعياً أو الشاذة جنسياً ، لا لتلقي اللوم عليها أو لتثير غرائز المتلقي وإنما لتلقي باللائمة على المجتمع وضيق نظرته إلى الأنثى وعدم انفتاحه على الآخر ، أكان هذا الآخر جنساً أم هوية أم ديناً .

ولعل الكلمة التي كتبها الشيخ عبد السلام البسيوني على غلاف الرواية الأخير تدلل بوضوح على مضمون الرواية ، إذ قال :

( إلى عش الدبابير، أو جحيم الممنوعات، دخلت ثريا نافع وهي بكامل وعيها، لتمس من خلال هذه الرواية عدداً من التابوهات أو المحرمات بحساسية، وحرفية، واقتدار، وبمكر الأنثى وحساسيتها وذكائها نجحت نجاحاً باهراً في تخطي الألغام، أو القفز من فوقها، أو زرعها في أثناء عباراتها، بحيث لا تضبطها أبداً متلبسة بجرم مشهود!

لقد تناولت العلاقات الشاذة بين الذكور، وبين الإناث السحاقيات. وتأملت التعامل مع اليهود، وجلدت الذهنية العربية التي رفعت التقاليد على الدين والعقل والمنطق والمصلحة، ورصدت هموم طائفة برزخية، تائهة بين الجنة والنار، بين جنة وضوح الهوية، ونار النكران الاجتماعي، وندالة النظرة، ونفاق الأقنعة الاجتماعية الغشاشة.

مست ثريا نافع ذلك كله دون أن تفضح، أو تجرح، أو تسيء أو تتطاول، كأنها النار التي تعالج ولا تحرق، فكيف نجحت هذا النجاح في روايتها الأولى؟! )

فمن خلال قضية الخنثى (نداء) التي عالجتها الكاتبة في الرواية تبرز لنا مجموعة العلاقات السائدة في المجتمع العربي ، وكيف ينظر هذا المجتمع إلى هذه الشخصية التي تتعرض للابتزاز الجنسي والتحرش وخاصة في المؤسسة التعليمية ، أكان ذلك من قبل مدير المدرسة أم من قبل الزملاء ، ولكن الكاتبة في هذه الرواية تنحاز للأنثى ، لا لأنها أنثى ، وإنما للظلم الذي تتعرض له ، ولرهافة الأحاسيس التي تلقيها على كاهل (نداء) لتشير إلى أن صوت الأنثى في داخله كان أقوى من صوت الذكر وفي هذا إشارة نفسية بالغة الدلالة ، يوضحها المونولوج الداخلي الذي جاء على لسان نداء :

( من قال بأني أريد دحر الأنثى داخلي ، بريء ، وتشعرني بآلام الآخرين وأحزانهم ؟ هذا ماكنت أود الصراخ به ، لكنني ضبطت نفسي ، وقمعتها أكثر من مرة ... والغريب أنني لا أشعر في قرارة نفسي أنه تصرف خاطئ ، لأنه كان يحدث في نطاق ضيق ، وبشكل غير متعمد ، وبشعور فطري ... ) .

في التصوير الدقيق لأحداث الرواية وسير الشخصية فيها ، لايقف القارئ موقف نفور من هذه الشخصية وإنما يتعاطف معها ، لأنها تمتلك من الحس الدفين العميق مالا يمتلكه آخرون ، وهي أقرب للأنثى منها إلى الذكر من حيث الملامح والشكل والمشاعر والأحاسيس ، وخاصة فيما يتعلق بمشاعرها تجاه الذكر ... ولهذا تنتاب هذه الشخصية الكثير من المشاعر المتضاربة والمتناقضة ، وفي الوقت نفسه نجد أنها تشق لنفسها طريقاً في الحياة من خلال الجد والمثابرة والتثقيف الذاتي والعمل في غير مجال ، حتى لتبرز نجاحات على غير صعيد ، ولكنها لاتفلت من مثالب النظرة الاجتماعية التي تجعلها فريسة لغير صياد ، لكن العفاف يغلف هذه الشخصية في كل مراحل حياتها فلا تنقاد للشذوذ ولا للخطيئة ، وإنما تبحث عن إيجاد جنس محدد لها من خلال العلاج عن طريق الهرمونات الذكرية التي كان لامفر منها لأنها رغبة الأب القاسي في أن يكون له ولد يحمل اسمه ، ورغبة الأم التي لم تجد مناصاً من التخلي عن هذه الرغبة حتى بعد موت الأب ، ورغبة المجتمع الذي ينظر إلى الذكر غير نظرته إلى الأنثى ... الأمر الذي شكل مزيداً من الضغوط النفسية على شخصية نداء ومزيداً من المعاناة والألم والضياع ، لكن وجود الأخت (سحر) مايشكل سنداً قوياً لهذه الشخصية في كل مراحل حياتها أكان ذلك في الصغر أم في مرحلة الدراسة ، أم في مرحلة العمل ..إلا أن النهاية المأساوية لهذه الشخصية وهي الانتحار كان مردها البحث عن أسباب الخلاص من حياة جحيم وألم وقسوة ونفاق وصراع نفسي إلى حياة أخرى حيث (عالم بلا ذكور وبلا إناث ) .

تتعدد أمكنة الرواية فتكون البداية في بيت لحم حيث الطفولة المقهورة من قبل الأب الطاغي وعدم قبوله حالة ابنه المريض ، وحيث المدرسة والشارع والمنزل ، مروراً بعمان في الأردن للعمل في محل لبيع العطورات واللوازم النسائية ، ثم دول الخليج للعمل في تصميم المواقع الإلكترونية ... وفي كل هذه الأمكنة لاتخلو أحداث الرواية من التشويق الذي يفضي بالعديد من المواقف التي تشير إلى استغلال هذه الشخصية أكان من قبل الرجل أم من قبل الأنثى ...

إن أهم ماتطرحه الرواية هو فكرة قبول الآخر ، إذ نجد تعايشاً مابين الديانات المختلفة وذلك في مكان الرواية الأول ( بيت لحم ) فصديقات الأم ( الشركسية ) هن مسيحيات ويهوديات ومسلمات لتؤكد هذه الفكرة ، ثم نظرة المجتمع لشخصية نداء ، هذا الاسم الذي أطلقت من خلاله الروائية نداءها لقبوله شكلاً وجنساً ...

فهي إذ تقول في مقدمتها للرواية :

(إلى كل من تألم من عدم فهم الآخرين له وعدم احترام اختلافه عنهم.

إلى قلوب غسلت بيد السماء لتصبح مفروشة بالعبير الطيب لكل الاختلافات.

إلى كل من حمل أو يحمل بين جنباته شعلة الإنسانية التي أبدًا لا تفرق بين شكل أو لون أو عرق أو دين.

أهديكم حكاية "نداء" علها تكون عبرة لكل من يقسو على الآخر ولكل من لا يدرك بأن هناك من يتدثر برجفة الألم والخوف دون أن يعلم الآخرين ).

لقد برعت الكاتبة في التصوير وفي كشف جوانب مهمة في هذه الشخصية ، وفي الغوص في مشاعر وأحاسيس الأنثى ، وفي رصد علاقات عديدة تدخل في دائرة المحرمات وخاصة تلك المتمثلة في نماذج ساقطة اجتماعياً كنهال وهويدا وآمال في أثناء تصويرها لحياة كل منها على حدة ، والأسباب التي دفعت كل واحدة منهن إلى انتهاج طريق الرذيلة والخطأ ، وهي في هذا تلقي اللوم على المجتمع وعلى الرجل وعلى السلطة الذكورية في المجتمعات العربية .

إلا أن مايؤخذ على هذه الرواية وقوعها في فخ التناقض في بعض الأمور وهي :

 أنها أشارت إلى أم نداء في البداية على أنها شركسية ، ثم نراها تشير في سياق الرواية إلى أنها أرمنية ، وربما كان هذا الأمر سهواً جاء من الكاتبة وربما جهلاً بأصول كل من الشركس والأرمن .

 اللهجة التي يتحدث بها جهاد زميل نداء في المدرسة كانت مصرية تارة وتارة أخرى فلسطينية ، مع العلم بأن المكان هو مدرسة في بيت لحم ، وهنا كان على الروائية أن تنطق هذه الشخصية بمفردات اللهجة الفلسطينية فقط .

على أن الرواية ناجحة فنياً وذات لغة شاعرية ، وفيها معلومات علمية دقيقة عن مرض شخصية نداء شرحته الكاتبة من دون إفاضة أو زيادة ... وقد تنوعت طرائق السرد فيها ابتداء بلسان الأخت (سحر) مروراً وانتهاء بلسان الراوي البطل ، مابين سرد للحدث ومونولوج داخلي يشكل أكثر الأنماط غنى وكشفاً للذات والنفس الإنسانية المتربعة فيه ، ولتقاليد المجتمع البالية وأنظمته الفاسدة ، ولمأساة الجرح الفلسطيني ، ولكل ماسلطت الرواية أضواءها عليه ... وهو مايعبر عنه المونولوج الأخير في الرواية :

(تذكرت بيت لحم وجروح طفولتي ومراتعها..

تذكرت خيباتنا العربية.. وكبواتنا الكثيرة.. وأنظمتنا الفاسدة..

تذكرت تقاليد قومي التي أبداً لم تنصفني..

تذكرت من هم في مثل حالتي.. وتحسرت عليهم.. في ظل عالم يكفر بحكم الله وخلقه..

تذكرت كيف يدفعهم المجتمع إلى سلوك طريق الانحراف بدلا من التميز وإثبات الذات..) .

ودعوة لقبول الآخر بأشكاله وانتماءاته كافة

مشاركة منتدى

  • اطلعت على رواية فضاء الجسد لثريا نافع وقد اعجبتني كثيرا وخاصة من ناحية تقبل الاخر المختلف لا عقائديا فحسب بل من الزاوية الجنسية
    والملفت للاتباه التمزق النفسي والاجتماعي لنداء وبالتالي كشف عن اندثار الشخصية في اطار استهجان المجتمع

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى