السبت ١ أيار (مايو) ٢٠٠٤
قصة قصيرة
بقلم عبد الهادي شلا

أمل

نسير بين العتمة ونور خافت تسلل من بين أشجار سور حديقة" الميريلاند " .. مجموعة من الأصدقاء.. نستمع إلى نوادر أكبرنا التي لا تخلو من الفكاهة والتعليقات الساخرة المحببة .. ضحكاتنا تخترق سكون ليل القاهرة الصيفي الساحر .. يقطعها .. صوت سيارة مسرعة .. و شاب يرمي تعليقا ساخرا..
رباه..
من أين انشقت الأرض عنها، وانبعثت ؟
..فجأة ..اخترقنا.. طفلة ما تجاوزت السادسة...
اتجهت نحوي من دونهم ..صوبت نظراتها بثقة..
اعتَرضت طريقي.. ابتعدتُ عنها يُمنة تبعتني.... حاولت يُسرة تبعتني ..
أفزعتني..لكنني أحببت إصرارها.. سايرتها و وقفت أمامها وجها لوجه ..
أنا وحدي مجردا إلا من قلب محب.. وهي بوجهها المتحدي .. البريء .. حدَّقتُ في عينيها ..
قرأت كلماتها التي ما نَطقت..
كديجور الليل عيونها .. سوداء .. لامعة، واثقة مثل جندي مقاتل يرى علامات النصر..
حزن .. شقاء .. انكسار
قرأته قبل أن يرتد إليَّ طرفي ..
الأصدقاء يسبقونني وهم يتسامرون .. أخيرا انتبهوا أني لست معهم .. من بعيد يستعجلني صوت..
_ مازالت مصرة على اعتراض طريقي..
غريب أمرها..
ماذا تريد؟
بل ماذا أريد ؟
يلوح في داخلي شعور غريب.. يستفزني .. يدفعني إلى الحوار الذي ما أعددت..
فاجأتني..
مدت يدها الصغيرة ..
بثقة وصوت منكسر لكنه ثبات.. جمع النقيضين
 أعطني قرشا.. قالت
جلبابها القصير المُمزق غطاه قميص عسكري ( كاكي ) أخفى معظم جسدها الصغير..

بفضول.. اتجهتُ نحو عمود النور.. استدرجها
أريد أن أرى وجهها كاملا ..
حزنها وشقاؤها ..
بريق عينيها..
_ سمراء دقيقة الملامح .. منكوش شعرها .. كمطربات الغرب في أغنيات البوب ..
واجَهتُها مباشرة وبسرعة ما تَوَقعَتها..
 قلت لها: ما اسمك؟
عيناها ..سهم اخترقني .
ما ردّت..
حاولت الفكاك من إصرارها..
 تتبعني .. أعطني قرشا..

أتمهل في السير.. أستدرجها.. أضغط على مشاعرها الرقيقة المنكسرة ..
أعدت عليها .. سأعطيك لو أخبرتني ما اسمك..
زَرَعَت نظرتها المتحدية في رصيف الشارع .. اهتزت الأرض تحت قدماي..
_..أزداد فضولا وإصرارا على معرفة اسمها..
هيا ..عجل .. صوت أحد الأصدقاء يشق هدوء الليل القاهري الصيفي الساحر..
وأنا في حالة تحد لا يعرف عنها شيئا..
 أسمعتُها.. سأعطيك خمسة قروش لو أخبرتني ما اسمك..
بسهم عينيها الحزينتين صوبت نظراتها الجارحة.. رمقتني..
قَـَرأتُ..
 أتساومني على قرش ؟!
اخترتك من دونهم.. أصدقائك.. نظراتها قالت..
ما احتواني حزن كهذا.. ما صادفت ، وما أثارني مثلها أبدا..
سأعطيك عشرة قروش.. أردفتُ ..
في سري كنت سأعطيها جنيها كاملا لو بقيت على عنادها كي أعرف اسمها....

أموت دون أن أعرف !!
نظراتها تنتقل بين موطئ قدميها وبين عيناي اللتان بالكاد تراهما في عتمة الشارع ..

تنظر في وجهي تارة وتنكسر عائدة إلى الأرض تارة أخرى..
اسمي.. اسمي..
هيا لقد أخرتنا.. صوت الأصدقاء من بعيد .. الوقت يمشي بطيئا.. قاتلا .. إنها ستنطق..
اسمي ..
قنبلة انفجرت..
اسمي : أمل.. نطقت
آه كبيرة مزقت أحشائي وحطمت ضلوعي و بركان ألقى بحممه إليَّ في الليل الصيفي ليصهرني بين النور وبين العتمة..
أمل..
اسمي .. أمل
أهكذا الأمل في القاهرة..التي لملمت جراحها بالأمس ولبست ثوب حزيران الأسود.. الأمل يتسول.. جرح من جرح ما جف .
بالأمس كانت النكسة.. وكان حزيران حزينا مهزوماً، واليوم الأمل .. يتسول على رصيف حديقة"الميريلاند ".
الأمل..هو الذي حقق للإنسانية أعمالها الرفيعة.. يتسول!!
في يدها الصغيرة الممتدة .. أفرغت كل ما في جيبي .. ونظراتي المتعبة تتبعها.. تختفي في عتمة السور لتلقي بجسدها الصغير في سواد ثوب أمها..

بخطوات سريعة لحقت بالأصدقاء ..و جسد مثقل .

ألقيت بنفسي على السرير..الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل.. عيناي تبحلقان في السقف الأبيض..

وصوت عبد الحليم حافظ ..حزين.. يغشى هدأة الليل وسكونه..من شباك الشقة المجاورة" موعود معايا بالعذاب ..موعود يا قلبي...،.....كل مرة ترجع المشوار بجرح ، يشكل خلفية اللوحة التي بدأت اشراقتها الأولى..
مستطيل تتوسطه .. فتاة صغيرة في عمر الزهور.. قميص الجندي الذي استشهد في حزيران .. ممزق.. يستر جسدها الأسمر النحيل.. ويد تخترقني وتنتزع من أحشائي متعة السهرة .. قطعة اللحم التي تناولتها في " الميريلاند" والخضار"السوتيه" وكوب الشاي.. وطبق المهلبية.. علقم طعمها..

الألوان على الطاولة في الركن المقابل ، واللوحة مسندة على حاملها .. تلح
أرسُمْهَا..أرسُمْهَا
هي مشروعك القادم !!
الأمل في بلادنا يتسول !!؟
هاجسي الأخير ..

في الصباح سألني أستاذي هل اخترت اسما لمشروع التخرج ؟
 صور من الحياة!!
و هواجسي.. تركتني
وجه أمل يطاردني .. يزيدني إحباطا .. حزنا
هناك في الركن البعيد المعتم من المرسم الكبير أخفت نصف جسدها الصغير خلف أمها.. اقتربت منها.. مسحت بيدي على شعرها المنكوش .. ومشيت إلى اللوحة التي ما رسمت..

وقفت بعد خطوة واحدة..
عدت إليها.. وليتني ما عدت!!
ما اسمك؟
أجفلت..
_ شجعتها أمها.. الأستاذ مش غريب..
بحياء وصوت خافت..
اسمي ..أمل ..ردت
أكبر آه تحطم ما تبقى من قلبي المحب ..انبعثت
قتلتني .. مزقتني ..اخترقتني ..
اللوحة التي ما رسمت على الحامل .. جذبتني .. هنا مشروعك القادم!
المستطيل الذي تخيلته ..فتاة صغيرة في عمر الزهور.. قميص الجندي الذي استشهد في حزيران.. ممزق.. يستر جسدها الأسمر النحيل .. ويد تخترقني وتنزع من أحشائي متعة السهرة..

ما وَقَفَتْ أمام فنان قبل الآن يا أستاذ ..أمها قالت وهي تأمرها بالوقوف أمامي .

إنه مشروع البكالوريوس .. أنه مشروعي القادم إلى المستقبل .
دخان سيجارتي الرابعة حجب وجهها للحظات .. الفرشاة كعصا سحرية تنتقل من جزء في اللوحة إلى أخر .. نشرت الحزن.. لمسة هنا وأخرى هناك .. بركان انفجر..

أمل..أمامي .. وجها لوجه بكل قسماتها.. بحزنها.. و تبعثرها .
لملمتها..
أعدت ترتيبها كما أريد..
ضبطتها لقوانين الإبداع .
إلى الخلف خطوتين..
عودة إلى اللوحة.. لمسة هنا وأخرى هناك
اللوحة تكاد تكتمل..
_ هذه أمل ..
ليست التي أرسم !!
إنها أمل التي انشقت الأرض عنها وانبعثت من رصيف حديقة " الميريلاند " .. حين كان نسيم الليل الصيفي يهدي النعاس لأهداب المدينة.

أمل .. أول لوحة في مشروعي القادم إلى المستقبل ..

فتاة صغيرة في عمر الزهور.. قميص الجندي ( الكاكي ) الذي استشهد في حزيران.. ممزق.. يستر جسدها النحيل .. ويد تخترقني وتنزع من أحشائي متعة السهرة..


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى