الخميس ١٢ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
حرب المفاهيم ...
بقلم إبراهيم العاتي

من (المستبد العادل) إلى (الفوضى الخلاقة)!

منذ أن بدأ الإنسان يتحرر من قيود الحس والمادة وينتقل لمرحلة الوعي والإدراك العقلي، نشأت المفاهيم كتعبير علمي راقٍ عن هذه المرحلة. فالمفهوم هو مجموع الخصائص الكلية المشتركة المعبرة عن حقيقة الشيء والتي تتجاوز صفاته الظاهرية والثانوية المتغيرة إلى صفاته الجوهرية والثابتة التي يشترك فيها جميع أفراد النوع. وكان لتحديد المفاهيم وتطبيقها على معطيات الواقع أثر كبير في نشأة العلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية وتطورها لتصل إلى ما وصلت إليه حتى يومنا هذا.

وبقدر ما كانت المفاهيم سبباً في تطور العلم فإنها كانت في أحيان عديدة سبباً في تضليل المجتمعات وتفككها وخراب الدول واندثارها، خاصة إذا تلقاها الناس بالقبول دون تدقيق في تماسكها المنطقي وصدقها الواقعي، أو إذا كانت مفاهيم مجردة خاوية من أي مضمون يربطها بالواقع المعاش، فتصبح مجرد شعارات جوفاء تُلهي الناس عن مشاكلهم الحقيقية، والأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخنا القريب والمعاصر.

ففي بداية عصر النهضة العربية الحديثة شُغل المصلحون والمجددون بالبحث عن السبل الكفيلة بنقل المجتمعات العربية والإسلامية من حال التخلف والتقهقر إلى رحاب التقدم والتحضر، وكان رأيهم أن تلك النقلة لن تتم إلا بمعالجة الأمراض التي عانت منها الأمة منذ قرون والتي تتمثل بشكل أساس في الفقر والجهل والظلم والاستبداد. فدعوا إلى الحكم الدستوري العادل وإعطاء الحريات للمواطنين ونشر التعليم وتحقيق العدل الاجتماعي.
وقد ركز بعض المصلحين كالأفغاني والكواكبي جهودهم على الجانب السياسي حيث رأوا انه المدخل الضروري لإصلاح جوانب الخلل الأخرى، بينما رأى آخرون كالشيخ رفاعة الطهطاوي وعلي باشا مبارك والشيخ محمد عبده والسيد محسن الأمين، أن التعليم والتربية هما أساس الإصلاح، إذ لا فائدة ترجى من إصلاح قمة الهرم بينما قاعدته هشة وتفتقر إلى العلم والمعرفة.

وكالعادة فإن الشأن السياسي حينذاك بقي موضع اهتمام الناس في المشرق أكثر من غيره من الأمور حتى يومنا هذا، خاصة وإنه قد دخل عنصر جديد أثر في المعادلات السياسية في المنطقة ومازال، ألا وهو الاستعمار، حيث بدأت الدول الأوروبية منذ القرن التاسع عشر تتخذ لها مواطن نفوذ عسكري وسياسي مباشر أو غير مباشر في العالمين العربي والإسلامي. الأمر الذي شحذ همم المصلحين ودعاهم إلى التنبيه لهذا الخطر الداهم وضرورة مواجهته بكل قوة، كجزء من النضال الدؤوب لتحقيق العدل والحرية. يقول الأفغاني: "إذا صحّ أن من الأشياء ما ليس يوهب فأهم هذه الأشياء: الحرية والاستقلال .. وإن هذا الشرق وهذا الشرقي لا يلبث طويلاً حتى يهب من رقاده، ويمزق هو وأبناؤه لباس الخوف والذل، فيأخذ في عداد عدة الأمم الطالبة لاستقلالها، المستنكرة لاستعبادها"(الأعمال الكاملة، ص51).

إذن فهي دعوة للحرية والاستقلال وإدانة للاستعمار والاستبداد، ومع ذلك فقد أشيع عن جمال الدين قوله بأن الشرق لا يصلح حاله إلا بوجود (مستبد عادل)!... وقد صدق الكثيرون من الخاصة والعامة تلك الإشاعة دون أن يسألوا أنفسهم عن التناقض الموجود فيها، وكيف أن رجلاً وقف حياته على الدعوة للحرية والحكم الدستوري ومناهضة الحكم الاستبدادي المطلق، وتحمل في سبيل ذلك ما تحمل من سجن ونفي وتشريد، يمكن أن يؤيد قضية يكون الاستبداد طرفاً فيها؟!

ويبدو أن الدوائر الحاكمة في ذلك الحين أرادت خلط الأوراق والشغب على دعاة الحرية والحكم الدستوري المقيد فأشاعت هذا المصطلح على ألسنة الناس، الأمر الذي دعا الأفغاني إلى تفنيده بنفسه حينما سأله مريدوه: "إن المتداول بين الناس على لسانك: (يحتاج الشرق إلى مستبد عادل) .. قال: هذا من قبيل جمع الأضداد، وكيف يجتمع العدل مع الاستبداد؟! وخير صفات الحاكم: القوة والعدل، ولا خير بالضعيف العادل، كما لا خير في القوي الظالم" (الأعمال الكاملة، ص54).

ولاشك أن عالم السياسة هو الأكثر استخداماً للمصطلحات التي تشكل غطاءً لنوايا مبيتة أو تبريراً لأفعال سيئة، فقد أطلقت الدول الأوروبية على الإمبراطورية العثمانية اسم (الرجل المريض)، فورثتها وهي حية وتقاسمت ممتلكاتها في اتفاقية سايكس بيكو! .. وأشاع هتلر مقولة (المجال الحيوي) ليبرر احتلاله لبولونيا وتشيكوسلفاكيا ثم روسيا وغيرها. واستغلت الحركة الصهيونية أساطير تلمودية عفا عليها الزمن، فبعثتها من بين القبور وسوّقتها لأتباعها في أنحاء العالم ومناصريها في الغرب، مثل (أرض الميعاد) و(الوطن القومي)، وزادت عليها أن فلسطين (أرض بلا شعب). والغريب أن هذه المقولات المشككة مازالت تنطلي حتى يومنا هذا على الأتباع والمناصرين، دون أن يرجع أحد منهم إلى كتاب موثق في التاريخ يتعرف من خلاله على الشعب الفلسطيني الموجود في أرضه منذ آلاف السنين!

وبعد الحرب العالمية الثانية نشأ مفهوم (الحرب الباردة) بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، وقد تمثل في سباق التسلح وإثارة الحروب غير المباشرة تحاشياً للصدام المباشر الذي قد يؤدي للمواجهة النووية.

ولم تكن تلك الحرب باردة إلا بين القطبين الكبيرين: الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية، أما بالنسبة لبقية شعوب العالم فقد كانت سنواتها شديدة السخونة، إذ لم يمر فيها يوم خلا من الحروب الأهلية والنزاعات المسلحة والمواجهات الدامية بتأثير مباشر أو غير مباشر من الدول الكبرى. ولم تنته حقبة الحرب الباردة إلا بعد سقوط جدار برلين، وانهيار الاتحاد السوفييتي والنظم الشيوعية الدائرة في فلكه لينشأ عالم أحادي القطب تقوده الولايات المتحدة.

وحينما آذنت شمس الإمبراطورية البريطانية بالمغيب، وبدأت تخسر مستعمراتها في العالم الواحدة تلو الأخرى، وخاصة بعد أزمة السويس طرح الرئيس الأمريكي الجنرال أيزنهاور شعار (ملء الفراغ)، الذي يعني أن تقوم قوة استعمارية جديدة – هي أمريكا بطبيعة الحال- بإحلال نفوذها محل القوة الاستعمارية القديمة التي لم تعد قادرة على الصمود أمام ضربات المقاومة التي تبديها الشعوب، ولعدم تمكنها من التعامل مع المتغيرات الجديدة في العالم. وهذا يمثل قمة التناقض لأن الفراغ إذا كان موجوداً يجب أن تملأه شعوب ودول المنطقة وليس قوى بعيدة عنها كل البعد.

وأكثر مفهوم روّج له الغرب من الناحية النظرية هو الديمقراطية ولكنه عملياً كان يدعم العديد من النظم الدكتاتورية مادامت تنفذ مصالحه، وهو أمر درجت عليه الدول الأوروبية منذ القرن التاسع عشر، حيث كانت تسعى لتعطيل محاولات الإصلاح في الدولة العثمانية وغيرها لإفساح المجال أمام استمرار الاستبداد، وقد شكا من ذلك رائد الإصلاح في تونس الحديثة خير الدين باشا الذي وصل إلى رتبة الصدر الأعظم في الدولة العثمانية وعزله السلطان عبد الحميد بعد مدة وجيزة (أقوم المسالك، ص205).

ولم تختلف سياسات اللاحقين عن السابقين كثيراً، فكم من دكتاتوريات قد دُعمت من قبل أميركا (شاه إيران، ماركوس، سوموزا، بينوشيه)، وكم من حكومات ديمقراطية قد سُحقت بدموية (سلفادور ألليندي) أو حوصرت لإسقاطها مثل حكومة حماس.

أما ديمقراطية (الفوضى الخلاقة) التي بشر بها المحافظون الجدد، فهي تحمل تناقضها في نفسها كما هو حال مصطلح المستبد العادل، لأن الخلاقية تعني الابتكار والإبداع وهما أمران إيجابيان بينما الفوضى تعني السلب والهدم والتفكيك والتحلل على مختلف الأصعدة، فكيف يجتمعان؟ لذلك حينما انتشرت الفوضى في العراق بعد الاحتلال وسرت عدواها في مختلف مفاصل الدولة والمجتمع صار من الصعب بناء مؤسسات ديمقراطية على أسس متينة لذلك فهي معرضة للانهيار في كل لحظة لأن أساسها هش، فالفوضى هي الفوضى ولا يمكن أن تكون خلاقة!

ونختم فنقول: لو بقيت المفاهيم حبيسة الكتب ومجالاً لنقاش أهل الفكر والنظر لهان الأمر، ولكن الخطر كل الخطر إذا تلقفها رجال السياسة وأصحاب المصالح ليوظفوها لمطامع خاصة، فتنحرف عن مسارها الصحيح الذي يساعد في فهم الواقع وتنظيمه بدلاً من تفجيره وتحطيمه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى