الخميس ٢٦ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
بقلم هشام آدم

خطوات على شارع عبد العزيز

بمساعدة فيزيائية من الضوء بدأت أليافه البصرية تمتص صورة العابرين المعكوسة في الجهة المقابلة لشارع عبد العزيز الضيّق بمسافة حزمتين من الأمنيات التي تيبّست منذ أن تيبّست ساقاه، وأصبح قعيد كرسيّه المتحرّك. كان يرى أن الدنيا تتحرك كلها، بشكل عكسي مع حركة كرسيّه. وكمن يحمّض فيلماً وثائقياً، جلس في غرفته المظلمة التي تستمد عفويتها الضوئية مما تتكرّم به أعمدة الإضاءة في شارع عبد العزيز الضيّق. كان يركّز على العابرين، وكأنه يتوقع أن يسقط أحدهم فجأة. غبطهم على حركتهم، ورأى في قدرتهم على الحركة عجزاً إضافياً إلى عجزه.

تكلّست بعض الدموع العزيزة على بوابة عينه، لأنه كان يريد أن يرى بوضوح. رغم أن الرؤية كانت تؤلمه إلى حد بعيد. وسيان عنده رقرقة الدموع، وهفهة الستائر، فكلتاهما كانتا تعيقان استمتاعه بالألم الذي كان يمارسه تلك الليلة. يوغا بصرية، تتطلب الكثير من الشجاعة والكثير من الألم. ربما كان بحاجة إلى أن يحس بمقدارٍ من الألم كل ليلة. وربما كان يستعين بما يراه على وحدته.

شبّك بين أصابعه، وهو يراقب طفلين يركضان، أحدهما كان أسرع من الآخر، ولكنه تمنى أن يمتلك قدرة الأبطء على الأقل. وعندما سقط أحدهما، ظنّ أنه سوف يفقد قدميه، ولكنه سرعان ما نهض، ونفض عنه غبار الشارع الضيّق وواصل الركض. عندها حاول أن يتذكر كيف فقد قدرته على الحركة بتلك السهولة، عندما سقط من درج منزله بلكزة من يديّ أخته الصغرى. كان عمره حينها خمس سنوات، غير أنه ما زال يستشعر ذات الألم في كل مرّة تقوده فيها اليوغا البصرية إلى الجانب المظلم من ذاكرته المليئة بالأمنيات التي لم يُكتب لها أن تعيش.

أراد أن يبصق على وجه أحدهم، عندما سمعه وهو يقول "تحرّك يا بطيء .. هل أنت مشلول؟" ولكنه كان قد عبر بسرعة إلى حيث الجانب الثاني من شارع عبد العزيز. فبصق لعناته في الهواء على الآخر الذي اكتفى بضحكاتٍ آلمته أكثر من الجملة اللامبالية.

"العجز عيب أم مرض؟"

لم يحاول يوماً أن يُجيب عن تساؤله المليء بالغصة. كان السؤال يعتريه كلما تذكر جملة أمه "غداً .. بعد العملية، سوف تعود لتمشي وتقفز كيفما تشاء" ولكن هذا الغد جاء، وانصرف دون أن يحمل له بطاقة دعوة. أو حتى بطاقة أمنية بالشفاء. "إذاً فهو ليس مرضاً!" هكذا خمّن في يأس.

لطالما حمله إسفلت شارع عبد العزيز، وهو يجري وراء عربة بائع الأواني المنزلية، أو وهو يقود دراجته الهوائية متفنناً في الحركات الاستعراضية. ولكنه الآن هنا في هذه الغرفة المظلمة إلا من فتات الضوء الذي ترسلها أعمدة الإنارة الخارجية عبر النافذة المطلّة على شارع عبد العزيز الضيّق. وها هو الشارع نفسه، يعطيه ظهره، ويخرج له لسانه في سخرية، كلما مرّ أحدهم عليه مسرعاً.

"أريد العودة إلى رومانيا" قال لوالدته التي لم تفتأ تدعو له بالشفاء في دبر كل صلاة. هناك حيث كان يتلقى علاجه الطبيعي الذي لم يُثمر عن شيءٍ يذكر.

"يقول الأطباء بأن ...."

قاطعها "لا أريد العودة من أجل مواصلة العلاج، إنما أريد أن أعيش هناك"

أحست أمه بأنها بدأت تفقد خرزات الصبر خرزة خرزة. تسقط الخرزات على رخام قلبها الأملس، فتتبعثر، تشدّ معها رباط أنسجتها الملوّنة؛ فهي تعاني من وحدته، وتعاني من دعواتها التي تذهب أدراج الرياح، لتعود كل يوم بما يعتصر فؤادها المكلوم على ابنها العشريني المقعد. وتشعر به وهو ينظر عبر النافذة إلى العابرين، وتعرف ما يدور في خلده إذ ذاك. تعرف أنه لا يستحق أن يظل حبيس كرسيّه المتحرّك. قال يومها:

"لا تقولوا متحرّك"

كان يشعر بالإهانة عندما يقولون ذلك

"كيف يكون الكرسي متحركاً بينما لستُ كذلك!"

قالت لتكتظم غيظه:

" تذكّر أنّك من يحركها! " ..

ولكنه اعتبرها مقولة ساخرة. فلم يُجب.

"هناك – في رومانيا - لم يكن أحدهم ينظر إليّ .. ولم أكن ألمح في أعينهم نظرات الشفقة التعيسة التي أراها هنا. لم يكن هناك أحد يتعامل معي على أنني "مختلف"، ولم أسمع منهم جملة "يا حرام" التي أسمعها وأقرأها في الوجوه هنا كل يوم. هنالك لا يوجد أطفال يأخذهم الفضول فيطيلون النظر إليّ، وكأنني فقمة سيرك، وأكون عظةً لهم حين تقول لهم أمهاتهم: "قولوا الحمد لله على النعمة التي تتمتعون بها" أذكر أن أحدهم عندما لكزني دون قصد، لم أر في عينيه نظرات الندم والتأسف التافهة تلك، هي إنما كلمة واحدة قالها دون أن يتوقف أو حتى دون أن يتمعن في تفاصيل وجهي وساقيّ المغطيان بالملاءة (Sorry) ومضى في حال سبيله!"

أحس بحركة الستائر، وكأنها تريد أن تمسح دمعته التي ذرفت من عينٍ واحدة، تلك التي كانت قبالة الضوء البائس القادم من شارع عبد العزيز، فأمسك بأطرافها المخملية ومسح بها دمعته بسرعة، وهو يقول: "ادخل"، فدخلت أمه التي كانت تطرق الباب بصوتٍ خافت، رأته جالساً أمام النافذة:

"أما زلت مستيقظاً؟" قالتها بنبرة أمومية حانية.

"اشتقت لشارع عبد العزيز!" قالها وهو يلف كرسيه المتحرك بيديه.

وبحركة منه تعرفها أمه جيداً، تقدمت وساعدته في التمدد على السرير، وقبّلته بين عينيه وهي تُحكم تغطيته، ثم أغلقت النافذة وسحبت الستائر وأغلقت باب الغرفة وانصرفت في هدوء:

"ستعود لتركض في شارع عبد العزيز من جديد يا حبيبي"


22 يوليه/تموز 2007م


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى