السبت ٤ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم أحمد محمود القاسم

قصة استشـهاد المواطن الفلسطيني ضيـاء حسين الطـويل

استيقظ في الصباح كعادته مبكرا، اغتسل وأدى صلاته المعتادة، لبس ملابسه التي اعتاد لبسها عند ذهابه إلى الجامعة، لم يحاول إيقاظ والدته لتعد له طعام الإفطار كما تفعل له كل يوم، اكتفى بالنظر إليها من طرف باب غرفة نومها، فوجدها نائمة، لم يكن يرغب أن تشعر بوجوده، ولم يكن يود إيقاظها او إزعاجها، اكتفى بالنظر إليها كأنه يودعها، ومن ثم انطلق مسرعا خارج المنزل، كعادته متوجها إلى جامعته.

الساعة تقترب من الثانية عشر والربع ظهراً، من يوم الثلاثاء بتاريخ 28/3/2001م، جرس التلفون في المدرسة التي تعمل فيها السيدة يسرى الطويل ( والدة ضياء) يرن، ترفع سماعة الهاتف مديرة المدرسة، يتحدث إليها شخص، بصوت جهوري وخشن، شبابي، يتكلم بجدية وبهدوء تام، وكلام مختصر حاد، يطلب منها التحدث إلى المعلمة يسرى ( أم ضياء )، (كانت هذه المحادثة القصيرة الأولى، والأخيرة معها، حيث لم يسبق لهذا الشخص (ضياء)، أن تحادث معها هاتفيا من قبل، على هاتف هذه المدرسة، وفي مثل هذا الوقت، ولن يتحدث معها أيضاً مرة أخرى بعد الآن، والى الأبد).

 المديرة: آلو، مين، شو بتريد ؟
 الشاب: أريد التحدث مع السيدة (يسرى) أم ضياء.
 المديرة: من أنت حتى نقول لها ؟
 الشاب: ليس مهما أن تعرفي من أنا، المهم، أن تقولي لها، أن هناك شاب يود التحدث إليها.
 المديرة: بصراحة يا أخ يا طيب، المعلمة يسرى (أم ضياء) لديها حصة الآن، ولا نستطيع أن نحضرها لك قبل أن تنهي درسها.
 الشاب: طيب، بس الرجاء أن تقولي لها أنني احتاج إليها لأمر هام جدا، و أن تقولي لها أن ابنها (ضياء) على الخط يود محادثتها.
 المديرة: إذا كان الأمر هام جدا، وأنت ابنها ضياء، فالموضوع يختلف الآن، لذا أرجو منك الانتظار قليلا حتى نبلغها بالأمر حالا.(بعد برهة من الوقت، تحضر أم ضياء الى موقع سماعة الهاتف)

أم ضياء: الو … الو، مين على الخط، مين بتكلم ؟
ضياء: السلام عليكم، مرحبة (ياما).
أم ضياء: وعليكم السلام ومرحبتين، مين؟ ضياء؟ وين أنت ومنين بتتكلم ؟
ضياء: أنا (ياما) في جامعة بيرزيت.
أم ضياء: خير يا ابني، شو في عندك تريد قوله لي ؟
ضياء: أنا بس بدي (ياما) أطمئن عليك وعلى صحتك.

 أم ضياء: أنت تطمئن علينا‍‍‍! و إلا إحنا اللازم نطمئن عليك، هو مين في العادة لازم (يتطمن) على الثاني ؟
 ضياء: مهو أنا يا (أما) و الحمد الله، كل شيء عندي تمام وكويس وما عندي أي مشاكل، و نويت أتخصص هندسة كهربائية ان شاء الله تعالى، بس أنا بدي أطلب رضاك علي (يا أما) وان تدعي لي و تغفري لي، وتسامحيني، ان كنت أخطأت في حقك، وادعي لي يا ( أما ) بالتوفيق والنجاح،
 أم ضياء: شو عم بتقول يا ابني، (هذه مو عوايدك) تقول مثل هذا الكلام، شو صاير عندك (يا ما) ؟؟
 ضياء: يا لله مع السلامة، أشوفك على خير، أنا تأخرت كثير، وما بدي أأخرك معاي، (ويغلق ضياء السماعة فجأة، ودون سابق إنذار).
 أم ضياء: تصرخ بصوت عالي: ضياء، ضياء…. لحظة شوية ….وين...... .

وتضع أم ضياء سماعة الهاتف، والألم يعتصر قلبها كثيرا، وسر هذه المكالمة، بينها وبين ضناها (ضياء) في هذا الوقت، يحيرها كثيرا، ويجعلها تفكر شمالا ويمينا وفي كل الاتجاهات، وتضع أمام عينيها وتفكيرها كافة الاحتمالات المتوقعة وغير المتوقعة، ويجعلها تسرح في خيالها كثيرا وبعيدا، وتضع نصب أعينها كل الاحتمالات الممكنة، إلا احتمال أن يقوم ولدها ضياء بعملية استشهادية ضد اليهود الصهاينة، ويكون هذا، هو آخر كلام لها مع ابنها ضياء، وآخر حديث لضياء مع أمه، وآخر همسات بينهما عبر الهاتف، يعتري تفكيرها الغموض كثيرا، ويختل توازنها ولكن صوت ضناها (ضياء) ما زال صداه في أذنها، إلى هذه اللحظة، التي ما زالت آثار الصدمة الأولى بادية على وجهها.
عندما علمت أم ضياء مساء الأربعاء، بتاريخ 29 /3/ 2001م، أن ابنها ضياء، هو ذاك الاستشهادي، الذي فجر نفسه في الحافلة الصهيونية، بمنطقة القدس، في منطقة التلة الفرنسية يوم الثلاثاء الماضي.
لم تكن تعلم أم ضياء عند سماعها خبر العملية التفجيرية الاستشهادية في قلب مدينة القدس المحتلة، أن ابنها وفلذة كبدها ( ضياء ) الذي لطالما حثته على الاهتمام بدروسه وبجامعته وبصحته، هو ذلك الاستشهادي البطل، الذي فجر نفسه بالحافلة الصهيونية، والتي كانت تقل مجموعة من الصهاينة المجرمين.

تفاجأت أم ضياء بالخبر، كأي أم تسمع بخبر استشهاد ولدها عبر شاشات التلفاز، أو عبر المذياع، على الرغم من أنها فرحت وشعرت بسعادة غامرة، عندما علمت أن هناك عملية استشهادية قد تمت ضد الصهاينة المجرمين.
تقول والدة ضياء عن فلذة كبدها وولدها ضياء:
" كان ضياء رحمه الله، مهتما جدا بقضية أبناء شعبه الفلسطيني، ومعاناته اليومية عبر الحواجز والمعابر، وبقضية الوطن والاحتلال بشكل عام، وبالأمور الدينية والوطنية الأخرى، وكان يحب التعمق بالقضايا الدينية، حتى انه طرح علينا فكرة دراسته للشريعة الإسلامية، ولكنه عدل عن هذه الفكرة في آخر لحظة، و كان يقضي معظم وقته وهو صائم، و يحمل القرآن الكريم بين يديه، ويقرأ القرآن باطمئنان وسكينة، لقد كان القرآن الكريم رفيق دربه، حتى انه حفظ منه كثيرا من الصور والآيات القرآنية الكريمة وبفترة قياسية، فقد حفظ عن ظهر قلب ستة أجزاء منه كاملة ".
لم تكن أم ضياء، لتقلق كثيرا على ابنها عندما غاب عن البيت ليلة يوم الثلاثاء، لأنه كان قد أخبرها بنيته المبيت، عند أحد زملائه في جامعة بير زيت، لانشغاله بإجراءات تتعلق بالجامعة (كما قل لها واخبرها)، التي تأخذ منه وقتا طويلا وجهدا مضاعفا، خاصة، أنه كان عليه أن يحدد المواضيع الدراسية التي سيدرسها في التخصص الجديد.

يواصل ضياء حديثه إلى أبناء شعبه، عبر شريط فيديو مسجل، كان قد تم تسجيله قبل استشهاده يقول فيه:
( أنا ثاني عشرة استشهاديين، أعدتهم كتائب الشهيد عز الدين القسام، ليجعلوا من أجسامهم وعظامهم، شظايا تذيق الموت للمحتلين الصهاينة المغتصبين، ولنلحق بركب الشهداء، ركب النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، والصحابة (رضوان الله عليهم)، وركب الشهيد عز الدين القسام ويحيي عياش وعوض الله، فإلى جنات الخلد يا أبناء القسام).
مسجد حمزة (رضي الله عنه) في منطقة البالوع، في مدينة البيرة، هو المكان الدافئ والمفضل الذي كان يحبه ضياء الطويل كثيرا، وكان يلجا إليه دائماً، ويحرص دوما على إقامة كل الصلوات فيه.
يتحدث أحد أصدقاء ضياء، الذي كان يلتقيه دائما تحت سقف مسجد حمزة، عن هدوء ضياء واتزانه، فيقول: ( بأن كتاب القرآن الكريم، كان لا يفارقه، وكان دائم الحديث عن الجنة والشهداء و الاستشهاديين، وانه يحب مساعدة وخدمة الآخرين.)
وبتابع الصديق الحديث عن الفقيد الغالي (ضياء) فيقول:

" أحياناً كنت أتوجه إلى المسجد قبل آذان الفجر بدقائق، فأجد ضياء، قد سبقني إليه، وهو يصلي قيام الليل، بخشوع وطمأنينة، لقد كان إيمانه عاليا جداً، ودائما يتحدث بعاطفة قوية، وبكلمات مؤثرة، كنت أحاول حثه على الاهتمام بدراسته أولا و قبل كل شيء، والموازنة بين الدين والحياة، والانتباه إلى نفسه.

بتابع حديثه فيقول “ اليوم، أدركت أنني كنت في عالم آخر، وأنا أحدثه، فضياء، كان طائرا يحلق في السماء بعيدا عن ارض الواقع، كنت أحاكيه، فيستمع، ثم لا يلبث أن يبتسم، وكأنه لا يعطيني اهتماما كبيرا لما أقوله له.

لم أكن أحس مطلقاً بهذا التغير الذي طرأ على حال ضياء. وللحقيقة أقول، بأنني لم أكن أتوقع أن يكون ضياء أحد الاستشهاديين، الذين هددت بهم حماس إسرائيل، ومع هذا فإننا اليوم، نحتسبه عند الله في جنات الخلد، مع الشهداء والأنبياء والصديقين، فرحمة الله عليه وعلى جميع شهداء المسلمين".
والد الشهيد ضياء (حسين الطويل)، الذي معروف عنه انه مناضل قديم، يتمتع بجلد كبير، ومعنويات عالية جدا، وهو يستقبلنا في بيته، ويتحدث إلينا عن شعوره الغامر، عندما علم بأن ضياء، فلذة كبده، وابنه البكر، هو الذي نفذ العملية الاستشهادية في التلة الفرنسية في مدينة القدس، كان شعوره مؤثرا ووطنيا وكبيرا جدا، كشعور أي فلسطيني يفتخر بمثل هذه الأعمال البطولية ضد اليهود الصهاينة، والتضحية العالية لشاب فلسطيني، نذر روحه لوطنه فلسطين ولشعبها المناضل، ومع هذا تبقى، عاطفة الابوه قائمة وقوية في نفسه، ولا يمكن لأحد تجاهلها، و تطفو على السطح وفي المقدمة، في حديث الوالد، والتي لا بد وان تضعف أمام ذكريات الأبناء وآمال الآباء، بان يرى ابنه وقد تحقق حلمه، و أصبح مهندسا كبيرا.

مضى أبو ضياء، وقد أحاط به صحفي كندي ( وهو مراسل لراديو كندا الرسمي )، الذي ظهر عليه الاستغراب والدهشة، من موقف عائلة الشهيد ضياء، وصبرهم وجلدهم، التي ما انفكت تتحدث، وتأكد على أهمية المقاومة والتضحية والشهادة في سبيل الوطن، ليقول:
" ابني ضياء، ليس هو أول ولا آخر الشهداء، فكل يوم يسقط عندنا شهداء “، ومع هذا يقول، بأنه لم يتوقع في لحظة من اللحظات، أن يكون ضياء، هو منفذ العملية الاستشهادية في التلة الفرنسية.

بدأت ميول ضياء الإسلامية، تنضج مع انتهاء دراسته في المرحلة الثانوية، و تنامت وتعمقت معه روحه الوطنية، بعد التحاقه بجامعة بيرزيت، التي التحق بها بعد حصوله على شهادة التوجيهي، وأصبح الشهيد ضياء، أحد أبرز نشطاء الكتلة الإسلامية في الجامعة، عن حركة (حماس) وكان قد التحق بركب حركة المقاومة الإسلامية (حماس). وكان ضياء، قد قرر خلال دراسته الهندسة في جامعة بيرزيت، التخصص في فرع ( هندسة الكهرباء ) قدوة بالشهيد المهندس يحيي عياش أحد قادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس).

شارك الشهيد ضياء، فور اندلاع انتفاضة الأقصى في شهر سبتمبر من العام 2000م في فعالياتها بصورة دائمة، حيث أصيب عدة مرات بالعيارات المطاطية، وكان كلما أصيب، يتعالج من إصابته، ثم يعاود الكرة مرة أخرى في المشاركة.

الكتلة الإسلامية الطلابية في الجامعة التابعة لحركة المقاومة (حماس)، التي طالما اخلص وتفانى ضياء في خدمتها وفي فعالياتها، دعت بان تكرم فارسها المغوار (ضياء)، الذي شهدت له ساحات الجامعة بالرجولة والشجاعة والتفاني، بمشاركته الفاعلة بالنشاطات والفعاليات اليومية، التي كانت تنظمها باستمرار، إذ امتلأت ساحات الجامعة باليافطات الكبيرة، التي تحمل صورة الشهيد، وتليت آيات من القرآن الكريم على روحه الطاهرة، في الجامعة، منذ ساعات الصباح الباكر.

أعلن مجلس طلبة الجامعة، والذي ترأسه الكتلة الإسلامية (حماس)، عن تعليق الدراسة لمدة ثلاثة أيام، حدادا على روح الشهيد، وبدأت فعاليات الصباح، بمسيرة حاشدة كبيرة، شارك فيها كل طلبة الجامعة، طافت ساحات الجامعة، تقدمها ملثمون من أبناء الكتلة الإسلامية والوطنية، يرفعون صور الشهيد والشهداء الآخرين من أبناء الكتلة الإسلامية و الوطنية في الجامعة.

ثم قام شاب من الكتلة الإسلامية، برفع الآذان للصلاة، من نفس المكان الذي كان يؤذن فيه الشهيد ضياء، إذ حرص ضياء، على اكتساب أجر الآذان وقتما حين موعد الصلاة، وهو في الجامعة، ولهذا، اعتبر بحق، مؤذن الكتلة الإسلامية، التي ثبتت الآذان في الجامعة في كل صلاة، كعرف متفق عليه.
في ختام المسيرة الجماهيرية الطلابية، ألقى ممثل الكتلة الإسلامية الطلابية، كلمة مؤثرة ومعبرة، في التجمع الحاشد، بدأها متسائلاً بقوله:
(أي موقف صعب وضعتني فيه يا ضياء، فأنا لا أستطيع أن أقف مثل هذا الموقف لأرثيك، ولكن عزاؤنا الوحيد، أنك الآن أصبحت مع الشهداء الخالدين، و توصل سلامنا إلى الشهيد القائد يحيي عياش، وعبد المنعم أبو حميد، وخليل الشريف، وتقول لهم وتبلغهم بأننا بقينا على عهدنا لكم، ولم نحنث بالعهد وسنظل على العهد ما حيينا).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى