السبت ١ أيار (مايو) ٢٠٠٤
بقلم سعيد جاويش

المدينة البعيدة

قصة قصيرة

ثمة غبش وضبابية في الرؤية أثقلت على الثلاثة الواقفين بانتظار سيارة تقلهم إلى المدينة البعيدة لم ترحمهم الرياح فعبثت بشعرهم وملابسهم.. الحامل متأففة بشدة من الانتظار تحدج الاثنين نظرات ملؤها الامتعاض
وكأنهما سبب الانتظار التعيس.. المهندس الشاب بدا أكثر هدوءا ً وقد عقد ذراعيه على صدره بصمت يتخلله غالبا ً اهتزاز سبابته اليمنى المتقطع.. فيما اختلط الترقب والصبر في نظرة عينيه المتلهفة لوصول السيارة.

انزوى الشاعر عنهما قليلا ً .. زرع غليونه في زاوية الفم اليمنى.. لم يبد عليه التذمر كما الحامل دوما ً والمهندس أحيانا ً.. مدمن انتظار.. يراقب الجميع بنظرة ٍ تشوبها سخرية أنيقة لاتخلق مبررا ً لتساؤلهم عن سرها..

لاتزال الرياح تلقي مواعظها بجنون ٍ أجبر الحامل على الصراخ بصوت خالطه الفحيح ( متى ستصل تلك المأفونة ).. قذيفتها لم تصنع شيئا ً يذكر سوى زيادة حدة اهتزاز سبابة المهندس اليمنى وانفراج شفتي الشاعر.. طالت فترة الانتظار.. أرهقتهم برتابتها .. تكاثفت سحب الدخان من غليو ن الشاعر .. تحولت سبابة المهندس لألة ترف بعنف فيما ازداد بطن الحامل المكور اهتزازا ً . . وصل الجميع لذروة اشتعال أطفأه بزوغ ضوء بعيد .. حبيب كما أسماه الشاعر.. داعب عيونهم وهدير محرك دغدغ آذانهم.. عاتبوا السائق الصامت الجاف على تأخره لكنه لم ينبس .. فلكل ٍ منهم مايفعله في المدينة.. الحامل تريد أن تلد فيها وتتلهف بشوق لاذع لرؤية المولود المنتظر بعد سنوات من صبر لايطاق..

المهندس مشتاق لحبيبته التي تنتظره على جمر ملتهب كما أسرت له على الهاتف.. الشاعر يحلم بالمدينة البعيدة فهو ببساطة يعشقها.. وينهكه الحزن كلما فارق أبنيتها الحجرية الحزينة وأسواقها المفعمة بروائح الطيب والعنبر والمعجونة بقفشات أهلها الطيبين وصبرهم.. يريد أن يغفو في سريره ليستمتع بلذة الاستيقاظ في مدينته الطيبة ويحضر أوراقه بعناية استعدادا ً لأمسيته الشعرية التي طال شوقه لها..

لم يتبادل الثلاثة أية كلمة منذ بداية الانتظار وحتى الآن حيث تجمعهم السيارة مع سائق لم ينطق أو يتنفس حتى .. صامت حيادي يراقب الفراغ يرتدي قميصا ً أبيض ناصع وبنطالا ً أسود داكن.. في تناقض لافت محير لم يشغل الثلاثة عن التأمل في قسمات وجهه المربع المنحوت بقسوة وانتظام مكللا ً برأس حليقة من الجانبين والخلف وسوداء داكنة في مقدمة وسطح الرأس العلوي..

غفا الثلاثة من وهن الانتظار يرنو كل منهم لحلمه القادم في المدينة البعيدة.. استيقظوا فجأة ً مذعورين جميعا ً إثر اهتزاز ٍ عنيف في هيكل السيارة .. أذهلهم المكان حيث وجدوا أنفسهم في صحراء مترامية بلا نهايات سماؤها
حمراء قانية تتناثر في جنباتها نباتات سوداء متباينة الأشكال والحجوم.....

استولى عليهم هلع مباغت ارتعدت أطرافهم .. صرخت الحامل ( أين تأخذنا أيها المعتوه ) .. المهندس استشاط ( أين نحن أيها المجرم .. يبدو يبدو أنك تنتمي لإحدى العصابات المحترفة .. تريدون اختطافنا لابتزازنا.. سفلة.....
منحطون... )..

الشاعر وحده كان يبتسم بصمت ويملأ غليونه من جديد.. يبدو أنه أدرك لاجدوى السؤال وحتى الدهشة.. تيقن أن للنهايات إشاراتها التي تسبقها دوما ً. . حالة الحامل تزداد تدهورا ً وهي تنتحب للسائق متوسلة ً ( أرجوك يا سيدي العزيز قد ألد في أية لحظة لا أطمع في الحياة لي بل أرجوها لهذا القادم المسكين فحسب .. لا أريده أن يصحو على جحيم .. أتوسل إليك أيها العظيم )..

السائق جامد ساكن كأنه لم يسمع شيئا ً .. لم يهتز لم ينطق. لم يتمالك المهندس نفسه فهجم بلاتفكير على السائق مدفوعا ً بغريزة البقاء لكن هول المفاجأة المخيفة أخرسه تماما ً فلم يعد قادرا ً حتى على بث صوته لم يدر ماذا يقول للأخرين هل يخبرهم أن جسد السائق قدّ من حجر؟

نعم نعم فالسائق متحجر الجسد كما الأفعال.. ليس ذلك بملمس جسد أدمي على الإطلاق.. أخبرهم بعينيه المذعورتين ويديه المتهاويتين فتأكدوا ..أصابهم سكون مطبق وزاد في هلعهم أصوات هائلة الوقع يتردد صداها المدوي في جنبات الصحراء المترامية بلا رحمة أو توقف..

( إنها الحكاية القديمة الجديدة .. إنها الحكاية القديمة الجديدة..الزمان والمكان يتحدان .. الزمان مكان .. المكان زمان.. زمنكم مابين فناءين إنها الحكاية ال......... )...

ألبستهم رهبة الأصوات وهيبة المكان صمتا ً وذهولا ً كانوا يتابعون كالمسحورين أشياء ألفوها وأخرى يجهلونها... رأت الحامل مولودها الصغير يحبو مبتسما ً ثم يكبر وينهرها بوحشية وهي عجوز كسيحة هرمة..
المهندس شاهد حبيبته تضاجع زميله في العمل على سرير وسط الصحراء الواسعة ثم تحولت إلى طائر ٍ يتنقل من شجرة إلى أخرى حتى غابت عن الأنظار تماما ً..

الشاعر لمح نفسه على منبر يلقي قصائده وسط رمال ٍ متحركة ولا أحد يستمع .. كان وحيدا ً تعيسا ً مع كلماته ثم رأى نفسه ممددا ً في نعش لايشيعه أحد..

الأصوات لاتزال تتردد وتتعالى بشكل ٍ لايطاق.. الدماء تسيل من عيون الثلاثة وهم يراقبون.. السائق هجر السيارة واختفى تماما ً .. تركها وحدها تسير بسرعة جنونية وتهوي إلى المدى..

في الصباح التالي وعلى الطريق ذاتها تواجد ثلاثة أشخاص يترقبون... حامل متأففة بشدة يزداد بطنها المكور اهتزازا ً مع الوقت.. مهندس ترف سبابته اليمنى بتوتر وعنف.. شاعر مبتسم زرع غليونه في زاوية الفم اليمنى..
جميعا ً بانتظار السيارة التي تأخرت لتقلهم إلى المدينة البعيدة!

قصة قصيرة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى