السبت ٢٥ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
رحلة إلى السماء السابعة
بقلم هشام آدم

فنتازيا الموت

المشهد الأول: (صالة المغادرة)

في القطار الأبيض الذي يُقلك الآن، أنتَ مُستلقٍ عليه في انتظار الرحلة القادمة. هذا القطار لا يُغادر المكان، ولكنه قطار مرحلي. ترقد الآن توخزك مرارة الرحيل، ومرارة الانتظار. ثمانية أعين، وأربعة وجوه كلّها تتقاطع في نقطة ما في الفراغ الحزائني المهيب. هستيريا صامتة. وتبدو صورة المكان أكثر تجريدية عندما تختزله في مكانٍ واحد، وبُعدٍ واحد فقط، هو أنت! ظِل البكاء هو الشيء الوحيد الذي يتحرك. وأنفاسٌ خافتةٌ تخرج ساخنةً لتخالط برودة الخوف. أنت الآن ترى كل شيءٍ بوضوح تام (فبصرك اليوم حديد) هذا الوضوح الذي بلا رتوش لأنّ ذاتيتك، وانحيازك لم تعبثا في رسم لوحتها. الألوان تأخذ حجمها الطبيعي، الطاولة هناك، الستائر، خِزانة الملابس، المجلات الشهرية، ومعطف المواسم الماطرة، نظارة القراءة، علبة السجائر. تقرأ كل هذا وأنت تودّعه في صمتٍ رزين.

الساعة الآن تمام الاستعداد. وها أنت تحاول إلقاء النظرة الأخيرة على العيون الست التي تنظر إليك. لا تعرف الآن معنى هذه النظرات، هل هي نظرات توديعٍ أم نظرات حزن أم هي نظراتٌ تتوسل إليك بأن تبقى. أنت نفسك ترغب في البقاء، ولكنه رحيلٌ قسري. تفتح السماء أبوابها لينزل الزائرون ذوو الأجنة الخضراء في موكب (صامتٍ) وقور، لا يعرفون معنى الالتفات. ملامحهم لزجة تحملُ معنى الحيادية. يخرجون - أو ينزلون - من الأبواب الفوقية، لكنّهم يدخلون من كل مكان. ينقشع عنك الحجاب فتراهم للوهلة الأولى. لا تعرفهم، ولكنّك ستغادر معهم، لذا يجب عليك أن تعتاد عليهم، وعلى وجوههم المُجرّدة. كأنّك لا ترى غيرهم، يغمرون المكان حيزاً إضافياً ويجلسون حتى دون أن يلقون التحية، تعدّهم، تجد أنهم ينقصون شخصاً، يبدو أنهم في انتظاره الآن.

ورغم أنهم قادمون من أجلك أنت، إلاّ أنهم لا ينظرون إليك كتلك العيون الست. لا نظرات، لا مساحات حوارية، لا شيء! في الحقيقة أنت منفصل عن من هم حولك من الناس الأرضيين بطريقة ما، ربما لا تراهم ولا تسمع بكائهم الذي يتعالى كلّما رأوا في عينيك ذلك التوجّس. هناك هالة من الأثير تُغطي المكان، وكأنّك ترى الأشياء من خلف زجاجٍ مكسور. وفجأة يقوم الزائرون السماويون بحركة ميكانيكية منسّقة، ويدخل (الدليل). إيّاك أن تنظر إليه. إنه أكثر هيبة ووقاراً من البقية، يحمل في يده عصا معقوفة، ولكنها ليست عصا خشبية، إنها من عنصر آخر - أغلب الظن أنه ليس عنصراً أرضياً - يحملها بشكل أفقي، يأرجحها فوق رأسك، لها رائحة الموت، وطعم الموتى! هنا الأمر أصبح أكثر جديّة من ذي قبل. تراك العيون الست وأنت شاخص البصر، فيزيدون جُرعة النواح، تخرج الزوجة خارج (صالة الانتظار)، هي لا تُريد أن تراك تغادر دون أن تُقبّلها (قبلة الوداع) ويمسك الأطفال ثوبك بشدّة، لكنّك لا تشعر بشيء، عيناك تتحركان مع العصا أنّى اتجهت. وأطرافك باردة، تثور على إرادتك وتلتف الساق بالساق، ويُطلق (القطار) صافرة الرحيل.

هو الوداع الذي تخافه ولكنك تنتظره. تُرى هل أنت خائف أم حزين؟ ينظر إليك (الدليل) بوجه خالٍ من التعابير، خالٍ من الوصف: "سأكون دليلك في هذه الرحلة، حين تخرج من هذا الصندوق اللحمي، كُلّ ما عليك فعله هو أن تمتطي صهوة هذا (الهودج)". لا تخف أيها الراحل، كل ما عليك فعله هو أن تثق بهؤلاء الغرباء وأن تُغمض عينيك. أنت لا تعرف كيف ستخرج من هذا التابوت اللحمي، ولكنهم سيخرجونك، حتّى لا تُحاول أن تُساعدهم. ولا تخف من هذه الأجنحة الخضراء، فإنهم لا يستخدمونها في الطيران. فقط امتط الهودج وحسب.

المشهد الثاني: (الإقلاع)

تجلس القرفصاء، تلملم نفسك من نفسك، وتركّز دائرة انتشارك حول مركز ما فيك، تلك هي المنطقة الباردة. تشعر بالعُري والتجرّد والانسلاخ. تنزع عن نفسك بعض الحواس، وتسرق بعضها وتخبأها معك. إيّاك أن تحمل معك شيئاً منك إلى هناك. كُن متأكداً أنّك لن تحتاج إلي أي شيء يخصك هناك. حاول أن تُفرّق بين (هنا) و (هناك). عليك أن تخرج بمجرد مرور العصا فوق رأسك. ستشعر بالتسامي الداخلي وأنت تعبر حاجز الأرضية. لا تلتفت إلى العيون الست، سوف لن يُجدك نفعاً. اعبر وحسب!

هل تشعر بأن كثافتك أصبحت أقل؟ هل ترى الألوان تنسلخ من عناصرها؟ هل تُحس بالاغتراب الجسدي؟ هذا يعني أنك نصف أرضي ونصف سماوي. اصعد على الهودج، لا تنظر إلى الأسفل، لا تخف! سوف يُقلعون الآن. أنت منذ اللحظة تشعر بالحنين والوحشة. تشتاق لأرضيتك وتكاد ترفض الرحيل، تتمنى العودة حتى ولو في جسدٍ آخر، تشعر بأنك نسيتَ شيئاً ما. في الواقع أنتَ لا تشتاق للناس والأشياء، أنت فقط تشتاق إليك! ولكن سوف تعتاد على هذا الاغتراب، سوف يصبح جزءاً منك. تُؤرقك الذكريات الأرضية. وتنسى بعض المعاني الحميمية. ينهض الزوّار في حركة ميكانيكية تُشعرك بالرهبة. يحملون هودجك المُغطى بدخانٍ أزرق يُعزز لديك رائحة السماوية. هنا توقف قليلاً واختزل بعض الروائح في جيوب الروح. إنه الشيء الوحيد الذي يُسمح لك بحمله (هناك). ترتفع أنت، وتشعر بابتعادك عن المحيط الخارجي لك. تشعر بتسرّب الخوف إليك. شعورٌ باردٌ يجتاحك، ويتملّك حواسك السبع! تفقّد أشياءك الخاصة.

أنت الآن على أُهبة المغادرة و(الإقلاع). تعبر حاجز المكان كضرورة حتمية، فترى المكان مجرّداً من الأمكنة والأشياء، قاتمة باردة. لا تشعر بوجودها حولك. تخاف من الوقوع، ولكن لا تخف سوف لن تقع. لا تتكلم إلى من يحملون هودجك الدُخاني. (يُمنع الكلام قطعياً) هي أول لافتة تقرأها عند عبورك من المكان إلى اللامكان. والرجوع أُمنية خيالية، أو ترف على هامش الرحلة.

تصعدون الآن في هدوءٍ تام، والهودج الدخاني يحول بينك وبين رؤية المنظر الخارجي، وأنت حتى لا تقوى على استراق النظر. يأخذك الخوف إلى السكون الانتقائي. تقبع تحت غيمةٍ ما طيورٌ ليست كباقي الطيور (أو هكذا يُخيّل إليك) طيورٌ فضولية، يأخذها الفضول لمراقبة الموكب الصامت في صمت. وتقف عند حائطٍ من اللون الرمادي تتوسط الفضاء ومشارف المدينة السماوية. الطقس ساكنٌ يأخذ من سكون المكان الرمادي كل شيء، الملامح، التفاصيل، سحنته الداكنة وحتى جموده الرتيب. وما زال الموكب في سيره الصامت يعبر بك المكان القديم، ويأخذك بكل جرأة إلى حيث يجب أن تكون بعد نصف وهلة ضوئية. تخترق الغيوم قطنةً من الرذاذ فتشعر بالقشعريرة. ورغم هذا السكون الغامر، فإنك تشعر بالضجيج في أُذنيك. إنها الرحلة القسرية التي يكون فيها كل شيء وفق ما لا تريد.

ها نحن ذا نقترب من المجال السماوي الأول (البوابة الأولى) هل تساورك الرهبة؟ إنه أمر طبيعي. ولكن احترس أن يلاحظ الآخرون خوفك وتوجسك. (هم أيضاً يتوجسون منك خيفة، فلا تقلق!).

المشهد الثالث: (البوابة الأولى)

على مدّ البصر سواد كوني هائل، ينتهي بضوء خافت لا مصدر له. ليست هناك رائحة للصوت ولا مذاق للون، كل ما هناك هالة من الغبار القاتم يغطي الفراغ اللانهائي، الجو العام يُشعرك بالخوف. وما زال الموكب في صمته يعبر الفراغ متجهاً إلى ذلك النور. يأخذك الفضول لتعرف مصدره، فتخرج رأسك من هودجك، يُومئ لك أحدهم بأن تُدخل رأسك، فتفعل بمنتهى الانصياعية. لا تنظر إلى أسفل. كل الأشياء تبدو أكبر من حقيقتها، ويأخذك الذهول إلى حدّ احتباس الرؤية في نطاق المادة الأثيرية. إياك أن تُغافل الحٌراس، وترمي حبّات القمح لتستدل على طريق العودة (ستعود حتماً) ولكن بطريق آخر. ورغم أنك الآن تسير في الفضاء، لكنك تشعر بالوحل ورتابة الخطوات. تتساءل: "لماذا لا يتكلم الحٌراس، إلى أين يذهبون بي بكل هذا الصمت؟ ولماذا الصمت هو اللغة الأم؟" وكلما زاد خوفك، كلما زادت الأسئلة وزادت الدوائر.

وفي غلاف الفراغ الغباري ترى بعض الرسومات. ليست مفهومة ولكنها حميمية نوعاً ما، تُذكرك بالنقوش الآدمية. تُرى هل عبر أحدهم من هنا؟ (هنا جدار الذكريات الأرضية) كل واحد منهم كان يشعر بذات الخوف والرهبة، هم يسمحون لك بالتوقيع على هذا الجدار، ولكن أسرع البوابة الأولى تقترب. أنزل من هودجك، مدّ يدك اليمنى.. تحدى أُميّتك.. اكتب.. "كم أخافك أيها النور" جيد! إنها جملة مُعبّرة. والآن تتابع المسير على ذات الهودج. تتسع هالة النور الخافت، تتراءى بعض المخلوقات تحمل نفس الملامح الجامدة. والأجنحة الخضراء. اقترب، اقترب أكثر. يُفتّشون في جيوب روحك فلا يجدون غير بعض الروائح المعلّبة. إنها روائحك الأرضية المفضّلة. لا تخف سيسمحون لك الاحتفاظ بها حتى نهاية الرحلة.

هذه هي البوابة الأولى مائة حارس يقفون على هذه البوابة. يقفون تماماً كما تقف أشجار الأرز في شموخ مُلفت للنظر. كل ما يفعلونه هنا هو التأكد من هويتك الأرضية، وأنك لا تحمل أو تخبأ أي لون. يُرتلون شيئاً ما بصوتٍ واحد، ثم يدفعون الباب بأجنحتهم، فيغمرك الضوء، يحملك على أنسجته يرتفع بك إلى فوهة الفراغ الأخير. عبأ روائحك هنا في هذه الكوّة. ستدخل الآن السماء الأولى. الأرض هنا أكثر رطوبة من أي وقتٍ آخر. وتشعر ببرودة لذيذة تُداعبك وتنسل من بينك وبينك ولكنك لا تكترث بالبرودة ولا بالمكان، أنت مشغول بأولئك الذي يحاصرون شيئاً ما، تتجه نحوهم. هم يحاصرون طينة مُبللة. يرمون فيها أشياء تبدو قديمة. تسأل الدليل فلا يُجيبك بل يدفعك إلى الأمام. لا وقت للسؤال، عليك فقط أن تعرف ما يجب أن تعرفه. أمامنا الآن مسيرة يومين ضوئيين. ويجب أن نصل قبل هطول المطر. (مطر!!) نعم.. مطر. تتوجه إلى الأمام أو الأعلى صوب قُبّة من القشّ الرطب في منتصف الساحة، تحت هذه القبة أطفالٌ ضوئيون يلعبون النرد. تقدّم نحوهم، كلّما فعلت اكتشفت بأنهم ليسوا حقيقيين، أو ربما تضيق لديك مساحة الرؤية، أو ربما هي الشفافية التي تجعلك تشعر بكلّ هذا. يبتسمون في وجهك ببراءة، ولكنهم لا يتكلمون. تُحس أنّ حديثهم بينهم حوار صامت، أو ربما لغةٌ لا تفهمها أنت. ربما تشعر الآن بالارتياح، وربما بالخوف من كل ما تراه. وكل ما تراه مختلفٌ تماماً عن ما تعرفه بأثرٍ أرضي! هنا أنت الآن في منتصف السماء الأولى. هذه السماء تبدو لك غير مأهولة بالسُكان (نوعاً ما) لو استثنيتَ أولئك الذي يحاصرون الشيء الما، والمائة حارس الذين يقفون أمام البوابة. الجميع هنا في حالة من القًدسية والصلاة والنظر إلى أعلى. هم يفعلون هذا بين اللحظة والأخرى وكأنه طقسٌ ملائكي مُعتاد. اترك الأطفال يلعبون وانطلق قُدماً إلى حيث يجب أن تسير، إلى الأمام (الأعلى) حيث يبدأ المكان بارتداء العتمة المُقنّنة.

يبدأ الضوء بالخفوت تدريجياً، وتبدأ الأرض تحتك أكثر رخاوة وأكثر لزاجة! أمامك فضاءٌ مليء بالفراغ والظلام. هنا سانحة جيدة لتتذكر. هل تشتاق إلى العيون الست؟ هل تحنًُ لسقف بيتك الذي اخترقته قبل بُرهة دون أن تنزع عنه الدِهان؟ هل تشتاق لأرضيتك؟ إنها الصيرورة الحتمية والمسلّمة. أنت الآن تشعر أنك في نقطة الـ (لا عودة). تنطلق ببطء إلى النقطة التالية، وأنت تحملك معك ألف سؤال، ولا تزال الروائح في جيبك تطمئنك قليلاً، وتُشعرك بأنك ما تزال تحتفظ بشيء منك. السير علامة الصعود. الصعود إلى حيث الـ (هناك)، ورغم أنك ستصل لا محالة إلاّ أنك تستبعده أو ربما تخشاه، تهابه. وترى كل في كل ما حولك تلميحاً لوقفة قد تطول. هنا في السماء الأولى، تخف الأقدام قليلاً إلاّ من قُبّة القش وحُراس البوابة. هنا السماء الصامتة، إنه الخط الحيادي بين (هنا) و (هناك). معظم الذي تراهم مُنشغلون عنك بالنظر إلى أعلى (العبادة) المفضّلة! وعلى كل الجدران نفس الرسومات المكررة، توحي لك بدفء التواصل. لا وجود هنا للمساحة الزمانية، الوقت ترف هامشي. ولكنك تعلم أنك مكثتَ هنا ما يكفي لتشعر بالسأم والضجر. حذاري.. الروائح هنا تفقد خصوصيتها، لتدخل في المساحة الأكثر اتساعاً، تأخذ شكله الرتيب. ويصبح العطر ركيكاً حين تستهلكه الأنوف.. عليك الآن أن تحفظ تلك الروائح في ذاكرتك. هنا النقطة التي لا يمكنك بعدها أن تحمل أي شيءٍ معك. اشتم عطرك الذاتي، وعطر بيتك، أبنائك، زوجتك، والأصدقاء. حاول أن تتذكر من يستحق منك الاهتمام كي تعبأ رائحته في صندوق ذكرياتك.

هذه هي السماء الأولى.. كل ذرةٍ من الضباب توازي ذاكرة عشوائية لملايين العابرين من هنا. الأطفال، والشيوخ والنساء والرجال والأنبياء والشهداء! هو المكان المكرّس للروائح. حيث تبدأ وتنتهي هنا فقط. تنشأ الإلفة المكانية بينك وبين كل رائحةٍ على حدا. تتذكر الأشياء كأنك تلمسها للتو. تجد في كل رائحة مكاناً حافلاً بالذكريات والأشخاص والظرف الزماني.

أنت وحدك فقط تختار من كل هذه الروائح ما تشتهي (الروائح مِلكٌ مُشاع للجميع). ما تزال أرضياً بطريقةٍ ما، تعرف ذلك من النظرات التي تُوجه إليك. ولكن لا تخف سوف تُصبح ضمن هذه الوحدة قريباً. عليك الآن أن تستعد للبوابة الثانية. هل تراها؟ عمّا تبحث؟ لا تخف سوف تصلها بشكل تلقائي. سوف نأخذك إليها، في الحقيقة نحن متوجهون إليها فعلاً.. أنتَ لا تراها ولكنها على مرمى غيمتين من هنا! المكان أمامك مُوغِلٌ في التلاشي، والظلام يتدرج في مدى البصر. تحول دونك ودون أن ترى ما تُخبأه العتمة السماوية. ومن بين عتمة وعتمة يخرج (في كل مرة) شُلّة من الملائكة يحملون هودجاً به زائرٌ مثلك في طريق العودة. ربما يكون هذا هو المنظر الأكثر إخافةً لك. بعضهم يحملون هودجاً فارغاً (أو هكذا يُخيّل إليك) وبعضهم يحملون هودجاً مغلقاً من الجانبين. ستشعر برغبة تجعلك لا تشعر بالحاجة للنظر إلى هذا المنظر المُتكرر دائماً. تعتاد عليه. لا أصوات لا ملامح لا ألوان فقط روائح. وكلّما تقدمت إلى الأمام (الأعلى) شعرت بصعوبة التنفس. تعاني من انعدام الجاذبية. رغم أنك الثِقلُ الوحيد في الحيّز الـ (لا انتماء) تنتمي بطريقةٍ ما إلى شيء ما. وتدخل في هذا النص المُعزّز بالجُمَل الاعتراضية. تحتاج إلى بعض المساعدة، ولكنّ حيائك يمنعك. لا بأس.

ما زالت الرحلة في بدايتها ولن تنتهي حتى تعرف كل شيء! وعلى الجانب القصي من الطريق الضبابي المُعتم، شجرةٌ هائلةٌ لها فرعٌ واحد. تأتي إليها أشباه العصافير والطيور. طيور صامتة تُجيد المُراقبة والتلصص. وهنا فقط تُسافر الطيور مع الطيور إلى الطيور.. والتحليق والتصفيق بالأجنحة هي علامة العبور الحادي والعشرين! خط أحمر يفصل بين الغيمة والأخرى. ومطرٌ يصعّد إلى الأعلى واللحظة الآن أوان الانتقال من الأبجدية إلى النزول التصاعدي. لا وقت للتعب، لا وقت للخوف، لا وقت للبكاء! هاهي البوابة الثانية أعلنت الظهور على هالةٍ من الضوء الوقور. يساورك الشك في صِحّة العد فتعدُ من جديد. يُسرع الدليل في الخُطى وتبدأ الأجنحة الخضراء بالرفرفة. لا تخف، لن يشرعوا في التحليق إنما هي التحية السماوية (شيفرة) اللون الأخضر. هذه البوابة أكثر هيبة من سابقتها. فاحترس أن يراك الحُراس خائفاً.

المشهد الرابع: (البوابة الثانية)

بطريقة جنائزية يتقدمون بك إلى البوابة الثانية، حيث يبدو المشهد أكثر جديّة. وفيما يقرأ الحُراس "سورة الدخول" يُداهمك خِلسةً "الشعور بالوحدة" يملأك من صدقك حتى كذبك، من حقيقتك حتى آخر الأمنيات! وفجأة يُفتح الباب دون صرير. لتقف أمامك غيمةٌ بحجمك تماماً! تبتلعكَ ثم تتجسّدك. تأخذ منها لون شفافيتها والكثافة الحسيّة، وتأخذ منك الحيزّ والنزعة المادية. وها أنت ذا في جسدٍ سماوي. تحتاج لبعضٍ من الوقت حتى تعتاد على جسدك الجديد. أنت أكثر من يحتاج هذا الجسد الآن. البوابة الثانية (السماء الثانية) حيث المكان يضجّ بالحركة. تدخل أولاً لتجد آلاف الأجساد الشفّافة، تعرف – بمجرد النظر – أنهم مثلك أرضيّون منتقلون. كلهم في حالة من الترقب. لا أحد يسأل الآخر. الجميع يتحركون في حركة دائرة لا نهائية. وعلى الجانب الأيمن من هؤلاء الغيميين بركةٌ يحرسها سبع عشرة من الملائكة الذين لا أجنحة لهم. إنها "البركة المُبجّلة" اقترب لترى في هذه البركة آخر لحظاتك الأرضية، يا إلهي،... هؤلاء هم العيون الست! نفس الطاولة، الستائر، خِزانة الملابس، المجلات الشهرية، ومعطف المواسم الماطرة، نظارة القراءة، علبة السجائر. إنها بركة التأريخ، حيث أنت وجميع البقية هناك، في طيف من التصوير الحِسّي. هنا كل الأشياء يُمكن أن تترجم إلى غير لغتها، حتّى تلك المشاعر التي كانت تنتابك لحظة خروجك القسري.

أنت هنا عارٍ ومكشوف تماماً فلا تتظاهر بغير ما تُحس. اللحظة التي ترى فيها كل ما يخصك على البركة سترى ألف يد تمتد لتأخذ شيئاً ما من جانب ما في نفس البركة. يُمسكونها بحذر ثم يوشوشون لها شيئاً ما ويُعيدونها. يأخذك الفضول لتترك متعة المشاهدة، وتذهب لتلقي نظرةً عن كثب. إنهم يُمسكون بطينة لزجة لونها طحلبي (تقريباً)، كيف يرونها في عتمة البركة وعتمة اللون؟ كُل ما عليك هو أن تُدخل يدك فتأخذ المادة الخضراء بالالتفاف حول راحتك في شكل حبة المانجو، تأخذ حجمها بحجم عمرك الأرضي. الشيفرة الوحيدة هي رائحة الخطوط التي لا يمكن أن تتشابه. لا يعترفون بالشكل، ولا اللون ولا الكلام ولا حتى البصمات. هنا أنت رهن لرائحتك. وعلى الجانب الآخر من البركة يجلس شيخٌ عجوز، ترتسم على وجهه قسمات الوقار، وتزحف على جبينه سنواته الثمانون "تراجيديا الكهولة" يجلس متكئاً على شجرة ليست ذات ظل. ولكن جلوسه يوحي إليك بالدفء. وترى أن نوعاً ما من الرمل الأزرق يحاصره بهدوءٍ يُضفي على الجلسة طابع الخصوصية. هو الوحيد الذي ما زال محتفظاً بزيّه الأرضي (الجسد). يجلس لا ينظر لأحد، فقط يتابع الرمال وهي تتحرك في شكل أمواج صغيرة لترسم عند قدميه شيئاً أشبه بالنافذة ثم تتلاشى وتعيد الكرّة مرة أخرى. لا يملُ الرمل من التكرار، ولا يمل الرجل من الدهشة في كل مرة. ولا يُساوره النعاس!

يهبط البعض ويصعد البعض الآخر. ولكن عبادة النظر إلى الأعلى هي القاعدة العامة في هذا المكان. وعلى بُعد رهبةٍ وغيمتين، تلمح شيئاً يُشبه الريح. لكنّه مُختزلٌ في قنينة بكف أحدهم. وعندما يفتح الزجاجة، تسيل المادة الهوائية كالزئبق، تتدفق حتى تلامس اللحظة المناسبة "كيمياء التحوّل" فتأخذ الشكل الطبيعي الذي تعرفه. ثم تُربط الأرواح الشريرة بطرف ذيل الريح ويُطلق العنان للريح أن تسافر المكان، أن تلمس الأرض بشكلها التجردي. أن تأخذ منه كل شيء، أو ربما بعض الشيء. لتعود بعد ألف عام وهي في عقدها الأخير. هنا تعرف نشأة الريح، وتعرف أن البركة شيء من خصوصية السماء، الخيط الذي يربط الـ(هنا) بالـ(هناك). ومازالت السماء الثانية مليئة بالمفاجآت. ولكن انتظر!

المشهد الخامس: (البوابة الثالثة)

وعندما تعبر بذات التوجس، يحملك الدليل إلى الجهة المعتمة. فضاءٌ من اللون الأسود الممتد في الفراغ. وسكون يملأ المكان ويعبأ فيها اللون الأسود بكل دقة. وهناك حيث يبدأ الضوء بالنزوح تلتقي العتمة والضوء على صعيدٍ هلاميٍ يأخذك كالزوبعة! أنتَ تقف الآن بين ذلك الخط الفاصل بين الضوء والعتمة، حيث يُسمح لك فيها بالجلوس واقفاً حتى يُسمع صوت البوق! وبينما أنت في الانتظار، لا تنتظر أن يداهمك الصوت. بل ابحث عنه في الأرجاء. أعطه لونه الطبيعي. لا تخشه.. بل احترمه بقدر ما تستطيع. وطالما أن الدليل لا يزال (واقفاً) فإياك أن يساورك التعب والرغبة في الجلوس.. أنت لا تُدرك معنى أن تجلس على حافة الضوء. يلتفت إليك الدليل بوجهه الخالي من التعابير. يسألك في حزم:

* هل أنت خائف؟!

فترد عليه في خوف: لا!!

* لا تخف، سوف يخرج الصوت من (هناك).. نحن هنا فقط حتى لا نعتدي على حُرمة المكان.

 المكان؟!!! إنه فراغ!

* هنا يُستخرج البُعد المكاني، حيث يأخذ كل شيء شكله الظاهري، وبُعده كما تراه (هناك).

 ينتابني النُعاس!

* لن تستطيع.

ثم تعبرك غيمةٌ بعطر الماء، يُشير إليك الدليل فتمتطيها خائفاً أو ربما حزيناً، فقد تعوّد على هودجك. ثم تبدأ الغيمة بالارتفاع بشكل عمودي حتى تتوقف عند حدّها الافتراضي. وقبل أن تتساءل عن سبب توقفها. تسمع صوت البوق قادماً من كل الاتجاهات. وكأن هناك ألف شخص ينفخون بوقاً واحد في كل زاوية من المكان. يأخذك التوجس إلى أن تلتفت وتدقق النظر في كل شيء من جديد. تبحث عن شيءٍ ما وأنت تعرف أنه سيجدك. وتغمرك هالة من الروحانية تجعلك تشعر بقربك من شيءٍ ما. أنت لا تعرفه.. ولكنّك تشعر بالقرب منه، وبالراحة معه.

تنطلق الغيمة، وخلفها الدليل بوجهه الجامد. وتعبرون خط الضوء، فتغلق عينيك لوهلة، ثم تفتحهما لترى البوابة الرابعة.. حيث لا حُراس.. ولا ضجيج العابرين إلى (هناك). تتقدم نحو البوابة بشيءٍ من الطمأنينة وبأشياء من الترقّب. تُطيل النظر إلى البوابة. ترى فيها حضارة السماء الخالدة، نقوشها التي تُشبه في رسمها غيمة في لحظة انقشاعها الأخير. ومقبض البوابة من المعدن الذي لا يصدأ.. أنت وحدك الذي تلاحظ هذه الأشياء. حتى الدليل لا تجده يحاول (حتى مجرد المحاولة) الاستئذان للدخول. فيصيبك الدوار. أنت الآن تأخذ شكلك الطبيعي، وتبدأ بالتعوّد على هلامية الأشياء والرؤية. ولا تستثيركَ المواقف العابرة. هناك على جانب البوابة الرابعة. قطعة من القماش مرميّة بإهمال مقصود

المشهد السادس: (البوابة الرابعة)

خذ قطعة القماش، وامسح بها على وجهك واتركها بنفس الإهمال. ترجّل عن غيمتك المطرية، تقدّم بقدر ما يُتاح لك من خوف الاقتراب. توجّس خيفة الانتظار.. فأنت هنا ستمكث.. حتّمَا يؤذن لك. الكُل منشغلون عنك بالأحاديث الجانبية. ترى الآن حركة عند البوابة الرابعة. الكل يعبر ويتحرك إلاّ أنت.. تشعر بوحدة غريبة. تنفر داخلياً من جسدك المائي الجديد. وتحن أن ترى شعرك جلدك. يقتلك الشوق لتلك التي خرجت قبل رحيلك الأبدي.. هي لم تستطع توديعك، ولم تستطع أنتَ أن تحتفظ ببريق عينيها في اللحظة الأخيرة. تتساءل (ترى أما تزال العيون الست ترمق السقف وتنتظر العودة؟) تتمنى أن تُحقق لهم هذه الرغبة. تتذكره صديقاً قديماً.. يأتيك في منتصف الليل.. يشكو إليك من وحدته.. تتمنى أن تشكو إليه الآن. ولكن...!

وفجأة تُفتح البوابة. وينادي الحارس في الأسماء.. الأسماء مرتبة أبجدياً من اليسار إلى اليمين ( م ا ش هـ ) تشعر عندها بأنّك موثق بالأرض الرخوة. تلتصق قدماك وتغرق في الوحل الضوئي، ولكنّك - خوفاً - تتقدم.. وحدك هذه المرة. لترى سماءً لا سقف لها.. سماءً زرقاء بمعنى الكلمة.. سماءً زجاجية.. ترى فيها ألف صورةٍ لك، ورغم أن أحدهم لا يشبهك.. ولكنّك تعلم أنهم أنت. هنا (غُرفة العرض) تراكَ وأنت طفلاً تُلاعب قطتك المُدللة، وها أنت هناك تُخبأ الحلوى عن أختك الصغرى وتركض لتختبأ تحت ثيابك أمك. أنتَ مرةً أخرى، تحتفي بأول شعرٍ ينبتُ في وجهك، تشعر بالزهو وأنت ترى شاربك. أصبحت شاباً.. هنا أنت أوسم. وأنت هناك.. تُجالس فتاةً بلون العُشب، تحادثها، وتضحك بكل العنفوان الأرضي.. ترى كل هذا.. فتنزل منك دمعةٌ تُعبّر عن شوقكَ لك ولكل أولئك الذين عبروا في حياتك ، أو عبرتَ في حياتهم.

المشهد السابع: (البوابة الخامسة)

تتقدم طافياً نحو البوابة الخامسة، حيث تُمعن في تخمين ما ينتظرك هناك. كل هذا لا يُجدي، دع لنفسك مساحةً لمتعة الاكتشاف. أعرف أنك لا تُحب المفاجآت، ولكن هنا أنت رهن كل لحظة، ورهن ما تراه في كل زاوية، فلا تستبق الأحداث. هنا الزحام ليس كسابقه، في الحقيقة فهناك بوابتان لهذه السماء، بوابة مخصصة للمؤمنين، وبوابة للعُصاة. إياك أن تسألني في أيّ بوابةٍ نحن، سوف تعرف كل شيء عندما يُسمح لك. أعرف أن الكثيرين يرغبون في طرح الأسئلة، ولكنهم لا يعلمون أن هذه السماوات مخصصة للإجابة وليست للسؤال. سوف تكتشف كل شيء دون أن تسأل.

تدخل بقدمك اليُمنى (هذه دلالة جيّدة) هل فهمت شيئاً؟ إذاً تقدّم ودقّق النظر في الجانب الأيمن، هناك حيث تلك الزمرة المستلقية على ظهرها، ربما كانوا ألفاً أو يزيدون. إنهم الأنبياء مُحاطون بضوء لا يُخبو أبداً، ضوءٌ كالظل! هذا الضوء يعزلهم عن الضجيج الذي تراه في الجانب الآخر من هذه السماء. هناك في الجانب الأيسر، حيث زمرة الشهداء الذين قدموا بأسلحتهم وخيلهم. أُحذّرك من التدقيق في النظر، سوف لن تستطيع أن تتحمل رؤية ما تراه، إنهم قومٌ مقطوعين الرؤوس والأيدي والأحشاء، أغيريك المنظر بالمشاهدة؟ إذاً أنت لستُ مسؤولاً عن إغماءتك!

هي.. أنت! أفق. يجب علينا أن نُسرع. الساعة الآن تمام الخشوع. لا تنظر إلى أعلى، ليس هنالك سقف. لا تتعجب فالسماء تأخذ شكلها الطولي هنا، وهنا فقط تختلف شكل السماء عن تلك التي تعرفها. سوف تتغيّر الاتجاهات والأماكن، ويختل اتجاه البوصلة التي أحملها معي. ولكنني تعوّدت على هذه الطريق منذ أن كنتُ في التاسع والتسعين من عمري، عندما كنتُ شاباً، كنتُ أحلم أن أكون دليلاً للزوّار الأرضيين. لطالما حلمت أن أكون واحداً منهم، لكي أعرف ما يُحسون به تماماً. ولكن!........ لا وقت للكلام، الكلام ضد الخشوع. هل تعلم كم من الوقت مرّ عليك منذ أن خرجت من جسدك اللحمي حتى تمام الخشوع الآن؟ سنتان أرضيّتان. لا تتعجّب، قلت لك أنّ السماء ليست كالأرض، فكل شيء مختلف تماماً عمّا كنت تعرفه. لا تنظر إلى جسدك، فهذا ليس جسدك اللحمي، الوقت هنا سوف يُغرقك في الدهشة. أعلم أنّك تتساءل عن سِر هذا البريق، اتركه الآن سوف نمر عليه عند العودة. قلت لك السماء للإجابة وليست للأسئلة.

هل تعبت من الطفو، تريد أن ترتاح قليلاً؟ لا أنصحك بذلك. فالسماء هنا سوف تفتح أرضها ليعبر حملة العرش في طريقهم إلى السماء الدنيا. إنه وقت السَحَر الأرضي، الذي ينزل فيه الله إلى هناك كل ليلة. سوف تحبسك الملائكة إلى جدار الفضوليين حيث لن يعلم بك أحد. فلنغادر هذا المكان بسرعة، ألا ترى بأن المسافة بين كل بوابة وأختها هي أقرب مما كنتَ تتخيّل؟ نعم! إنها هناك البوابة السادسة والأخيرة. سوف تدخلها وحدك. آسف لن أستطيع أن أواصل معك، غير مسموح لنا بعبور تلك البوابة. مهددون نحن بالاحتراق إذا فعلنا. لا تخف تلك السماء أكثر حميمية من كل ما رأيت. عليك عندما تعبر البوابة تلك أن تبحث عن شجرة هائلة الطويل. لا تنظر إلى الفرع النامي فيها، فقط ألمس جذعها وعد أدراجك.

المشهد الثامن: السماء السادسة

انطلق الآن وحدك، وتذكر أنّك الآن سماوي قًح. لا بُدّ أنّك تدربت بما فيه الكفاية على الطفو. هذا سوف يساعدك على اجتياز البواب الأخيرة. فهناك بركة الأرواح حيث لا شيء غير السباحة. وتذكر الآن ما رأيته في طريقك إلى هنا، من أطفال لا يتكلمون، وحلقة الأنبياء، والشيخ ذو الظل، والكائنات شبيهة الخيول، وبركة الذكريات، ومرايا اللحظات الأرضية، وصلوات الملائكة. تذكر كل هذا وابتسم فأنت لن تعود إليها مرة أخرى إلاّ بعد حين. هنا في هذه البوابة الأخيرة، لا حراس ولا خفر. فقط غيوم بيضاء تُفتح تلقائياً بمجرد اللمس. ستُدهشك السماء هناك. فهي لا أرض لها ولا غطاء. إنها فراغٌ أبيض لا نهائي. كل ما فيه أبيض، حتى الشجرة الهائلة التي أخبرتك عنها، بلحاءٍ أبيض وأوراقٍ بيضاء وفروع بيضاء وثمارٍ بيضاء ناصعة البياض. إنه ذلك البياض الذي من غير سوء. هنا، أنت لا تمشي بل تسبح بغير قدرة، تسبح في هلامٍ أبيض يأخذك قسراً إلى الشجر الهائلة. ضع يدك لتسقط ورقة بيضاء على ساعدك. دعها مكانها لتسقط بجوار ملايين الأوراق البيضاء الأخرى. عُد أدراجك الآن، فلقد انتهت رحلتك السماوية. أنت الآن مصحوب بالسلامة. ستعود تلقائية إلى السماء الدنيا - دون أن تمر بكل ما مرّ بك من قبل -. أهلاً بك عزيزي الأرضي. دعني آخذك إلى محل إقامتك الأرضي. لا... لا يمكنك الآن أن تعتبر نفسك أرضياً. يجب أن تستحم بهذا الماء قبل أن تغادر جسدك الغيمي، وتعود إلى جسدك هنالك في قبرك الذي حفره لك أعز من تركتهم وراءك. نعم إنهم ذو العيون الست والسيدة التي خرجت يوم رحيلك. لقد علّقت صورتك على بهو الدار، ووضعت عليه شريطاً أسوداً. لا تحزن، فقد تزوجت أحداً غيرك، هذا يُفسر كيف أنّك لم تكن قادراً على زيارتها ليلاً في منامها. لا تحزن، حتى أبناؤك - بمجرد انتهاء مراسيم الدفن - خلعوا أربطة العُنق السوداء، ورفعوا المصاحف - التي كانوا قد وضعوها بجانب أسرتهم - فوق خزانة الملابس. هكذا هي الدنيا، والأرض الكروية ما جُعلت كروية إلاّ لتدور، وتطوي في دورتها كل من توقف عن الدوران. إنّها سنّة الله في الأرض.

مرحباً بك من جديد في ثوبك اللحمي. والآن سوف نتركك حتى يستكمل الباقون رحلتهم، وعندها سوف أعود إليك. ليس أمامك الآن ما تفعله سوى النوم، والنوم العميق. نم بقدر ما يُشعرك بالراحة. نم بقدر ما يُمكنك من النسيان. نم بقدر ما يجعلك تتذكر رحلتك السماوية التي لن تتكرر مرةً أخرى. تصبح على خير!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى