السبت ٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم ميسون أسدي

احضري فورا نحن بحاجة إليك

جلست مع زوجي في أحد المطاعم الشرقية في مدينة ميلانو الايطالية نحتفل بعيد زواجنا، بعد أن كنا أجلناه للمرة الثانية بسبب ظروف عمله وعملي.. وإذ بهاتفي المحمول يرن في حقيبتي.. كانت الجلسة في بدايتها وكنا ما زلنا نتأمل ديكورات المطعم الذي اخترته بنفسي، بحثت عنه بمساعدة بعض الأصدقاء واعتبرته هدية لزوجي، فهو يذكره بالأجواء العراقية التي جاء منها.. نظرنا إلى بعض وكنت محرجة، لكنه بابتسامة لطيفة أشار لي بعينيه بأن أرد على الهاتف، فأجبته بإشارة من عيني بأنني لا أريد، لكنه أصر بإشارة أخرى أن أجيب.. فأجبت. وما توقعناه نحن الاثنان حصل: "احضري فورا إلى المستشفى فهناك حالة خطرة ونحن بحاجة إليك".. ومرة أخرى عادت لغة العيون بيني وبين زوجي الحبيب طالبا مني الذهاب، عندها خرجت عن صمتي وقلت: لن اذهب.. لكنه أصر وبلطف شديد على ذهابي: ماذا بك سنحتفل عندما تعودين أو في مساء الغد، لا تقلقي هناك أناس يحتاجونك.. كان يعرف جيدا إن تخصصي في العمليات الجراحية نادر جدا وأنهم عندما يستدعونني يكونون بحاجة ماسّة لخبرتي، وشعرت إن واجبي الإنساني يناديني.

بعد عشر دقائق كنت في غرفة العمليات أمارس مهنتي و خرجت بعد نحو ساعتين وأنا أفكر كيف سأبدل ملابسي لأوافي زوجي.. كنت مسرعة في ردهة المستشفى، عندما لاحظت امرأة ورجل عجوزين ملامحهما عربية مئة بالمائة، لم تلفت نظري عروبتهم، فأنا معتادة عليهم في هذه المستشفى المتخصصة، لكن شيئا ما لا أعرفه شدني إليهما، فأخذت انظر إليهما وأنا ملتفتة إلى الوراء بعد أن تخطيتهما.. بدلت ملابسي واغتسلت وطوال الطريق إلى البيت كنت ما أزال أفكر بهذين الوجهين.

كان زوجي قد جهز مائدة للمناسبة السعيدة، وفي هذه المرة، لم اطلب منه الإذن، تناولت الهاتف واتصلت مع المستشفى وبعد عدة كلمات بالإيطالية، صرخت بالعربية: هذا صحيح.. نظر إليّ زوجي وقال: ما بك؟! فقلت له: إنهم من يافا.. فسألني: من هم؟! فأجبته: عائلة المريض الذي عالجته الآن... وبسرعة، انتقلت إلى موضوع آخر يخص المناسبة السعيدة وزوجي تجاوب معي كالعادة.

استيقظت في منتصف الليل، خرجت إلى الشرفة وأشعلت سيجارة وبدأت أتذكر مسقط رأسي، مدينة يافا التي اكرهها بشدّة.. أكره يافا التي يتغزل فيها الشعراء والمبدعون، وأكره بيـّاراتها وبرتقالها المشهور.. أكره شوارعها وأزقتها التي لعبت بها وأعرف حجارتها حجرا حجرا، وأكره ميناءها ملعب طفولتنا، معظم ذكرياتي في هذا البلد تبعدني عنها، الكل يتغنى بيافا وأنا ابنتها الأصلية لا أحبها ولا أحب فيروز عندما تغني لها.. لذلك أنا هنا ولا أريد العودة إليها..

هناك انتميت إلى عائلة فلسطينية أصيبت بنكبة من نوع آخر، لم نكن لاجئين ولا مشردين، بقينا في المدينة التي عاش بها أجدادي، ولكن لم أدر كيف تلوث جميع أفراد العائلة وكيف حصل أن تفوقت في دراستي ووصلت إلى الجامعة في هذه الظروف الاجتماعية الموبوءة، ولكن كما يبدو جرت الرياح بما لا تشتهي سفن عائلتي.

والدي عمل في مركز الشرطة في يافا.. ومنذ نعومة أظافري كنت أرافقه للعمل في مقر الشرطة، وهناك كان يعمل في كل شيء، حتى في التنظيف وتحضير القهوة والشاي والإرساليات والتصليحات والترميمات على أنواعها وأحيانا عمل في بيوتهم في حالة احتاجوا شيئا ورأيت رجال الشرطة من حولي في كل مكان، هذا يلقى عليه التحية وهذا يشرب الشاي معه وهذا ينكت ويضحك معه وهذا غاضب عليه.. وكان يتقاضى راتبا محترما، مما وفر لنا حياة بذخ في مجتمع فقير جدا.. ومرة أرغم والدي بالتوجه إلى الحدود اللبنانية ليعمل هناك، وأثناء تصليحه لإحدى السيارات، انفجر به لغما فمات.. وكانت هذه أولى نكباتنا.. كنت أحبه جدا.

أمي امرأة قوية وجبارة، سيطرت على كل ما في بيتنا.. وكما يبدو، هي التي أقنعت والدي بالخدمة في سلك الشرطة، فهي نفسها تطوعت يومين في الأسبوع لخدمة الشرطة بدون مقابل.. وكانت تجد متعة كبيرة وهي تعود في ساعات المساء، تقود سيارة الشرطة الزرقاء وتتجول في شوارع يافا وأحيانا شوارع تل أبيب.. كانت تقوم بمطاردة الشبان الفلسطينيون من غزة والضفة الذين جاءوا سعيا للرزق وبدون تأشيرة دخول.. كانت تلاحقهم لتفزعهم فقط وتستمتع بذلك.. شاهدتها تفعل ذلك مرارا ولم أفهم سبب متعتها!! كنت طفلة أضحك عندما تضحك، وأغضب اذا غضبت، واشتم أحدهم أذا شتمته.. وعندما تعود إلى البيت كانت تشغل صفارة سيارة الشرطة لتنشر الفزع في حارتنا.. تطل النساء من النوافذ وعندما يشاهدنها يقلن: "إخس.. هذه جولييت، عادت من سخامها"!! ولم نفهم أنا وأخوتي لماذا أهل الحارة ساخطون منها، لأننا كنا نحب السيارة وكنا نجري ونركب معها..

حصلت على اللقب الأول في جامعة تل أبيب، عملت ممرضة في إحدى المستشفيات هناك وتقاضيت راتبا جيدا، وكانت أمي تساعدني على تبذيره فورا: نأكل في أحسن المطاعم. اشتري ملابس كثيرة، وأثمن العطور، حليا من كل نوع، ولا أحافظ على أغراضي ولا مشترياتي، وأعاود الكرّة كل شهر واشتري من جديد.. والجميع ينظر إليّ نظرات حسد وازدراء وأنا لا ألتفت لذلك.

هيئتي الخارجية كانت حدث ولا حرج، لبست أغلى الثياب، ألوان غير متناسقة وذوق متدني وكنت أنا وأمي نزور مصفف الشعر كل أسبوع ونصبغ شعرنا باللون الأشقر الأمر الذي لا يتماشى مع لون بشرتنا السمراء الداكنة..

أثناء عملي في تل أبيب، أرسل لي القدر صديقة من مدينة عكا، ولم أفهم سر انجذابي لها، فقد كانت على عكسي تماما.. تعمل وتقتصد وتوفر.. كنت أسخر من مائدتها التي تدعوني لها أحيانا، أدعي أنني آكل وبعد خروجي من عندها، أذهب أنا وأمي إلى أفخر مطعم ونأخذ بالتندر عليها وعلى أكلها ولباسها البسيط والمتواضع.. ما شدني إليها أكثر أنها كانت تتقرب إلي رغم نفور الكثيرين مني، خاصة الطلاب الجامعيين العرب، الذين كانوا يتقربون منها ويستمعون إلى كلامها وهي تدافع عن العمال والفقراء، وتطالب بحقوق للمواطنين العرب وبالحرية للجميع داخل الحرم الجامعي..

كنت أتساءل دائما: ماذا يوجد في هذه المعدمة حتى يتقربون منها؟! ولكنها اختارتني من دون الجميع لأكون صديقتها.. كانت تدعوني باستمرار.. وكثيرا ما كانت تمدح تصرفاتي البسيطة وتهاجم المدعين والمتصنعين والمتكلفين، وكأنها لا تعرف أنني واحدة منهم..

صديقتي شديدة الملاحظة، ورويدا رويدا، بدأت تأثر على مجرى حياتي، وبدأت أشعر أن كل ما كنت عليه هو التفاهة بعينها.. بدأت أدخر النقود قليلا، ولباسي بدأ يتغير، وحتى طريقة أكلي تغيرت.. وفي كثير من الأحيان كانت تسرب لي فكرة الحصول على الماجستير والخروج من حارتي الملوثة بالسموم والعالم السفلي والشرطة.. ولم تحرضني أبدا، لا على أمي ولا على مدينة يافا التي بدأت أكرهها شيئا فشيئا.. حتى أنها كانت من المبادرين للعمل التطوعي لإصلاح وتنظيف شوارع المدينة..

اقتنعت بتكملة دراستي والسكن وحدي في مدينة تل أبيب، مما أثار عليّ أمي وأخوتي، واتهموا صديقتي بأنها مفسدتي.. لم آبه لهم. استمررت بالتعليم حتى حصلت على الماجستير في التمريض، وانضممت إلى صفوف الحزب الشيوعي، وبدأت بتثقيف نفسي.. كنت أوزع المناشير التي تدافع عن العمال والفقراء وعن العرب في البلاد. وشعرت كم كانت حياتي تافهة أثناء وجودي في يافا.. وعندها اقترحت عليّ صديقتي أن أكمل دراستي للدكتوراه في إيطاليا.. قالت لي أنت متفوقة جدا وتجيدين اللغة الإيطالية، اذهبي واحصلي على أعلى الشهادات، فالبلاد ينقصها أمثالك.. لم أفهم دعوتها على حقيقتها، كل ما فهمته أنه علي الذهاب إلى إيطاليا للابتعاد عن بيئة أهلي الموبوءة..

كانت نكبتنا الثانية، عندما خرج أخي روجيه من السجن،بعد قضاء (5) أعوام فيه، بتهمة المتاجرة بالمخدرات، وكان نفسه أدمن على ما يبيعه للناس، خرج وكان عمره (28) عاما وفور خروجه ذهب للتنزه مع صديقه على شاطئ البحر، فاقتربت منهما سيارة مسرعة وصدمتهما، ثم خرج السائق وأطلق عليهما النار ليتأكد من موتهما.. موت أخي تسبب في إصابة أمي بأمراض مزمنة رافقتها حتى وفاتها.. ومما زاد الطين بله، أن أخي الصغير تناول بالخطأ نوع مخدر، أدى به إلى مستشفى الأمراض العقلية.. تعاقب النكبات، جعلني أكره يافا أكثر وأتمسك أكثر بموطني الجديد في إيطاليا..

عدت إلى يافا مرغمة، مرات معدودة لزيارة أمي خلال مرضها، وآخر زيارة كانت عند وفاتها، ثم انقطعت نهائيا عنها، أردت أن أنسى أصلي وفصلي ومحو كل شيء من ذاكرتي يعيدني إليها. تزوجت من بروفسور عراقي يعمل في ذات المستشفى ومدير القسم الذي أعمل به.. أعيش معه منذ بضع سنوات وهو يعرف إنني من يافا، لم أحدثه كثيرا عن أهلي وكنت ارجوه أن لا يحدثني بهذا الموضوع لحساسيته الخاصة في نفسي ووقعه السلبي علي، وكنت أصرح بكرهي لهذه المدينة وكان ينظر إليّ مبتسما وفي عينيه نظرات عطف كمن ينظر إلى طفلة تروي قصة خيالية. ومرّة قال لي انه نشأ في حي شعبي في بغداد ويشتاق إلى حيه كثيرا، حتى انه كان يتغزل بأكوام الزبالة أمام بيته، روى قصته هذه بعد أن أعلنت له كرهي لبلدتي.. ولم أفهم لماذا رواها!!

مددت يدي داخل علبة السيجارة فوجدتها قد أصبحت فارغة.. عدت إلى السرير متخذة قرارا نهائيا بأن لا أعود إلى مثل هذه الذكريات وان لا أعود إلى هذه المدينة وكان التعب قد اخذ مني مأخذا فاستغرقت في نوم عميق.

عندما استيقظت في اليوم التالي كانت الساعة الثانية عشرة ظهرا، لم أجد زوجي في البيت، ووجدت انه جهز لي مائدة إفطار وبطاقة كتب عليها: "صباح الخير كل عام وأنت بخير.. لن أتأخر".. كنت خارجة من الحمام عندما عاد زوجي، قبلني على جبيني ومرة أخرى قال: كل عام وأنت بخير، لقد حضرت لك هدية.. فأخذت أترقب هديته المفاجئة وقد عودني في كل عام على هداياه الجميلة والمبتكرة، ناولني ظرف وقال: هذه هي الهدية.. واخذ ينظر إلى عيني ليشاهد مدى تأثير المفاجأة عليّ.. فتحت المظروف بسرعة وتلهف وعندما دققت بما في داخله ازدادت نبضات قلبي ولم أعرف للوهلة الأولى إذا كان علي أن اشكره أم اصرخ في وجهه.. نظرنا بعيون بعض للحظات وضممته إلى صدري بشدة وأجهشت في البكاء.. شعرت بيديه الحنونتين تلاطف شعري وأنا ما أنفك أشكره: شكرا، شكرا، شكرا، شكرا...

في الساعة الثامنة من مساء نفس اليوم كنت أسير في اتجاه بيتنا في حي العجمي في يافا، انظر إلى كل زاوية وكل حجر بعشق كبير وأنا ما زلت اردد كلمة: شكرا، شكرا، شكرا، شكرا.. لزوجي على تذكرة السفر من ايطاليا إلى يافا التي قدمها لي ظهر اليوم..

والآن فقط فهمت ما قالته صديقتي عندما ودعتني قبل السفر: اذهبي وتعلمي وعودي إلى يافا فبلدك ونحن بحاجة إليك..!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى