الاثنين ٨ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم نازك ضمرة

أصبح طفلي المدلل

لم يعجبني الشراب أو ما يسمونه عصير تفاح، خصتني المضيفة بكأس كبيرة منه، وأتت لي بمناديل ورقية زائدة، سألتني إن كنت بحاجة إلى شيء، شكرتها، فقالت إن لم ترغبي بمتابعة الفيلم، فمن الممكن أن آتيك بصحيفة أردنية أو أمريكية، قلت لها الأمر سيان، على كل حال ستكون أخبار الأمس، ابتسمت، فكرت قليلاً، ثم انسحبت.

في عصر يوم صيفي حار ، وتحديداً في يوم الاثنين من أوائل شهر أغسطس آب ، انتظرت حتى خفت شدة حرارة النهار ، وطالت ظلال البيوت والعمارات الصغيرة في شارع المهاجرين، ارتديت فستانا خفيف القماش واسعا من أسفله، كان ذا لون ليموني فاتحً، وتزينه أوراق أشجار الليمون شديدة الخضرة مع أغصان ليمون كثيرة الأزهار والثمار، وحين قابلني أكاد أقول إن نظرات عيني زكي التصقت بليمون ردائي، تمايلت أغصان بستان الليمون المزدهر على المساحة الفضفاضة، المعطف الصيفي الخفيف الذي كنت أرتديه يخفي ذراعيّ، لأن الفستان الذي أرتديه بأكمام قصيرة جداً، لطبيعة الحياء فيّ، ولغريزة الشك التي لم تفارقني حتى بعد سن الستين، إذ لا يسهل على أحد أن يدخل الطمأنينة أو القناعة إلى نفسي، وتلك مشكلة أخرى أخشى أن تكون في الكثير من الناس مثلي
قال ابن عمتي وكان في مثل عمري تقريباً
  هذه فهيمة التي كلمتك عنها يا زكي. قلت في نفسي (ما أتعسه! ماذا قال له عني؟)
  هذا ابن عمنا زكي يا فهيمة ، هل سمعت عنه من قبل؟ أنهى دراسته الثانوية بنجاح، وسيعمل في وظيفة حكومية. إنه يزور عمان وها أنا أصحبه لأدله على بيتكم، إنه يريد السلام على إخوانك والتعرف عليهم. واعلمي إنه غير مقيم في الضفة الشرقية، بل في قريتهم في فلسطين.

غمغمت كلاماً، ولا أذكر هذه اللحظة ماذا نطقت أو إن ما فكرت فيه غاص في أعماقي، لأن أمره لا يعنيني، لكنني أؤكد أنه لم يسمع شيئا مما قلت، هززت رأسي ببرود، ابتسمت كعادتي حين أبدأ حديثاً مع أي شخص، لم أتضايق من سلامي على زكي، وكيف تتضايق فتاة في السادسة عشرة من شاب معتدل القامة نحيف غير قصير، كان أطول مني وأطول من ابن عمتي.

تسحرني عمان بجبالها وببيوتها المتشبثة في جنباتها من كل اتجاه، برغم السمنة التي تغلب على تلك الشابة، يتعلق أطفالها الثمانية بها، تحمل اثنين على حضنها، واثنان يمسكان بأي جزء من بدنها أو ردائها القديم الخفيف، وأربعة أمامها أو وراءها أو على جانبيها، وأقدر عمر أكبرهم عشر سنوات، والقادم ربما أعظم، شدّت إحدى بناتها رداء أمها لتمسك بها، تظهر تفاصيل جسدها الذي تضخم حين جذبت رداءها، ربما من كثرة أكل الخبز والبطاطا والأرز والشحوم التي لا يريدها المترفون، ردفان منفصلان عريضان مرسومان بوضوح، وتلكما كتفان كأنهما وسادتان ، وثديان ما زالا ينمان على الصحة والقدرة على العطاء، تملأ شارع السيارات هي وأطفالها، عمان ساحرة ، ولو كنت مكاني لوقفت طويلاً أمام كل جبل في عمان تتأملها ومبانيها ، تتضخم وتبرز تفاصيها من كل مكان، والبيوت تتمسك بالجبال كتشبث أطفال المرأة البدينة الطويلة الولود، أحبها عمان، تغيرت عمان، تنمو وتزدحم وتصخب، حماها الله من التعهر والتسول والتبذير والتطاول، تزداد المتاجر والحوانيت في كل ركن وكل زقاق، عيون عمان لا تدمع، لكن سيلها لا يتوقف عن الجريان، تتجمد حواسها أحياناً وترتعد، تتراقص أحياناً أخرى وتفرح ، تصبح حارتنا كخلية نحل في الخمسينيات من القرن العشرين، كان حي المهاجرين هادئاً قليل السكان يعرف كل فرد فيه كل فرد آخر، وليس به سوى متجرين صغيرين، يقع منزلنا وسط المسافة بين قمة جبل عمان وبين سيل عمان التاريخي.
قال زكي
  كيف حالك يا فهيمة! سعيد للتعرف على ابنة العمومة، حدثني سليمان كثيراً عنك.
تمنيت أن يكون لديّ الجرأة وقتها والمجال لأسأل زكي عما قاله سليمان عني، لكنني أهمّ بتركهما أو يتركاني أواصل طريقي على طريقتي. مرة واحدة فقط تلاقت عيناي مع عيني زكي، أرخيت جفني بسرعة، تزوغ عينا زكي بعيداً، ثم يسترق النظر إلى عنقي أو أطراف شعري الذي كان أغلبه محبوساً تحت منديل صغير، يتجه بأنظاره ثانية يتأمل بستان الليمون على الفستان. لم أكره زكي وقتها، التقت أعيننا وربما تخاطبتا، كنت بلهاء جاهلة، أو انني ما زلت هكذا، لكن الأهم قرأت في عينيه طيبة وأمناً وسلاماً، مع أنني لم أكمل إلا الصف السادس الابتدائي في المدرسة إلا أنني عملت على متابعة قراءة القصص والروايات والمجلات، ومشاكل النساء والزواج والبنات والحب والحلول المقترحة في مجلة "حواء" المصرية أو من المجلات اللبنانية التي كان يأتي بها شقيقي شريف.

كنت محتاجةً لخيوط من صوف كي أنسج سترة دافئة لشقيقي قبل حلول فصل البرد، لكثرة أوقات الفراغ التي كنت أحسّ بها في النهار وفي المساء، لا يعجبني الجلوس طويلا مع نساء إخواني، وبصراحة لا يرقن لي كلهنّ، وأحياناً أتضايق منهن لدرجة الكراهية، وتمنيت في أوقات أخرى لو يستمع إخواني لي لتطليقهن، ولإعادة التزوج ثانية من نساء أرقى فكراً وعقلاً، حتى أخي الأعزب كان يشاركني وجهة نظري، ولم نكن نصرح لهم بذلك، بل كنا نتحدث بعد صلاة العشاء في غرفتنا عن مثل تلك الأحاديث، أو حين نجلس وحيدين بعد وفاة والدتي تحت الدالية التي تغطي الشرفة، كان حديثنا يقترب من الهمس.

انحدرت من منزلنا الذي يقع في سفح جبل عمان الجنوبي، وكان الجو شديد الحرارة في ذلك اليوم، والطريق من منزلنا حتى الشارع العام أدراج وأزقة ضيقة فيها خطورة شديدة الانحدار، وما إن وصلت طريق السيارات حتى صرت أمشي في ظلال البيوت اتقاء أشعة الشمس، وكعادتي قليلاً ما أرفع رأسي إلا إذا أردت تأمل شيء جلب انتباهي أو كنت أبحث عن مكان أوتأمل حدث طارئ أمامي، لم أنتبه لسليمان قريبنا ورفيقه الأقرب له، وإلا كنت تنحيت جانباً مبتعداً عن طريقهما مبتعداً، أو قد تستغرب إن قلت إنني قد أعود إلى البيت، وأؤجل الحصول على حاجتي من خيوط الصوف، حتى لا أضطر لمقابلة من لا أرغب، أو لقطعت الشارع للسيرعلى الرصيف المقابل وتحت أشعة الشمس الحارقة، لا أحب مقابلة الناس الذين لا أعرفهم أو الذين لا أستريح لهم، علمتنا والدتنا وإخواني شددوا عليّ بعدم التحدث مع الغرباء في الشارع العام، بصراحة لم أكن أكره سليمان، لكن تردده على منزلنا في الشهور الأخيرة بسبب أو بدون سبب، وحجته أن والده يمت بصلة قرابة بعيدة لوالدي، ثم إن أسرتنا لاحظت أنه أبدى اهتماماً كثيراً بشقيقتي الأكبر وكانت غير متزوجة، ليس لديّ مبرر لأنني نفرت منه ومن ذوقه برغم ذكائه وحذقه في الكلام والحديث، جريء في أحاديثه مع الرجال ومع البنات والنساء على حد سواء، قال عن شقيقتي إنها أكثر جاذبية مني، ربما لأنني كنت أبدو أقصر قليلاً منها، أو لطبيعة الشك والتردد والحذر عندي، قدرت أن لا مستقبل له في بيتنا لا مع أختي ولا معي، فلماذا أهتم به؟ لهذا لم أقلق حين أوقفني في الشارع، لتعريفي بقريبه، تصورت الناس ينظرون لي، ولا أريد أن يراني أحد أكلم شباباً غير معروفين لأهل الحارة، وخاصة مع أقوال عن انتشار فساد نساء وبنات فلسطينيات وغجريات على حافتي السيل بسبب الزحام وتلاصق الخيام، شاهدت الكثيرات منهن يطرقن أبواب البيوت متسولات، وإذا وجدن شاباً أو رجلاً دون زوجة استقبلن مغازلاته، ولم يكن يهمنا أن نعرف هل هم حقاً فلسطينيون أم عائلات عابرة استغلوا الهجرة وفوضى الزحام والفقر، فاختلطوا بالفلسطينيين لمصلحتهم وجاوروهم لأهداف أخرى كثيرة قد لا نحصيها.

أحسست بالضيق من التوقف في الشارع، التفت يميناً ويساراً، قال لي سليمان حين لاحظ ذلك
  أراك قلقة، أو أنك مستعجلة وعندك موعد مهم؟
اضطررت أن أبتسم، ولو كنت في بيتنا لسخرت منه ومن كلامه، وسأتندر عليه أمام أخواتي أو إخواني أو نساء إخواني، مع أن في داخلي تراكمات من الأسرار والمشاكل والتأوهات، لا أعتقد أنها سيتاح لها أن تقال مستقبلاً، لطبعي الكتوم أولاً، ولاعتقادي أن لا فائدة من طرح همومك وأسرارن على الناس ثانياً، فإن لم يزيدوك هماً وفضائح، فلن يرشدوك إلى طريق حق، كنت أفتقد الصديقات، ولا أجرؤ على قول أنني تمنيت أن يكون لي صديق، مع أن ذلك كان حلماً، بل هو حلم كل فتاة بعد بلوغ الرابعة عشرة من عمرها، لكن ذلك كان تابو في مجتمعنا وحسب عاداتنا، أدرت وجهي صوب زكـي، وقرأت تذمراً يتفاعل في داخله من مضايقة رفيقه سليمان لي، ارتحت تلك اللحظة، فأجبت سليمان وعيناي صوب زكي
  أنا ذاهب لشراء حاجات من السوق ، فهل أنت ذاهب لمنزلنا؟
  نعم! وربما ننتظرك لتحضري الشاي لنا، لقد أخبرت زكـي أنك فنانة في عمل الشاي بالنعناع، وفي طبخ وجبة المنسف. وأتمنى أن يشهد معي زكي على ذلك.
  أرجو أن تجد واحداً من إخواني في البيت، أتمنى لكما الراحة ومعذرة فأنا مضطرة لمواصلة سيري للسوق.
بعد زواجنا أصبحت علاقة زوجي زكي بشقيقي الأصغر علاقة لا بد منها لثلاثتنا، لم يكن لزكي خيار في ذلك، فعلاقتي بشقيقي شريف كانت من القوة تقارب العشق، لا أدري إن كان شقيقي يقابلني في أعماقه نفس الشعور، وبعد زمن من رحيله الأبدي، أدركت أن حبي الزائد له كان من طرف واحد، لم أعمل على تقوية علاقة زكي بشقيقي، ولا حاولت تقريب وجهات نظريهما، وزكي يكره المشاكل ولا يفتعلها، وإن واجه أي متاعب أسببها له، لا يشتكي ولا يتذمر مني لأي من إخواني، قال لي مرة ، سأحتمل أخطاءك يازوجتي وقريبتي فهيمة، ومن العيب أن يعلم الناس عن أي نكد بيننا، لأن ذلك سيجعل الحاسدين والكارهين يتشفون بنا، لكن كان يخشى أن يقول إخواني عنه، (فلاح فلسطيني لم يستطع التعايش مع فتاة مدنية عمانية) وبرغم كرهي للسياسة وللحزبيين المضللين بعكس زكي، كان قومياً وحدوياً بالفطرة، أما أنا فلم أكن بحاجة إلى حزب ولا فرد ليعلمني هذا الواجب.

جرت العادة في تلك الأيام على أن يشكو الشاب زوجته لأهلها إن اختلفا، ما إن نصل إلى بيت أهلي هاربة من عوالم زكي في الضفة الغربية، حتى ننسى أي سوء تفاهم أو خلاف أياً كان مستواه، مما جعلني أطمئن لزكي، وأستسيغ الحياة معه، ليس تعلق حب ووحدة مصير ، لكن قبولي به ظل يزداد كلما مرت أسابيع على زواجنا، وبدأ يأخذ مكاناً مريحاً في عقلي أسبوعاً بعد أسبوع، برغم صغر سني ونقص ثقافتي ونقص وعيي الاجتماعي الأسري إلا أنني كنت بالبديهة أدرك أن الشخص الكامل غير موجود في العالم، وبالمثل فالمرأة الكاملة لم تخلق بعد كما سمعت من زكي، ولا بد أن يعطي كل من الزوجين علامة من مائة للآخر بعد طول زواج ، مقارنة بما كان يدور في خلد كل منهما، كنت أجرأ قليلاً منه في بعض الأمور أو بعض الأماكن، أما أمام الغرباء فموقفي سلبي في أغلب الأوقات، أصيب بصدمة كارثية لا يحتملها إنسان عادي بعد إصراري على عدم العيش مع والديه ولو لشهر واحد، وخاصة وأننا تزوجنا في عطلة المدارس الصيفية، ولو فكرت قليلاً لفطنت أن إجازة الصيف ستنتهي، وقد تنقله إدارة التعليم إلى مدرسة أخرى، أو أصرّ بعدها على السكن وحدنا لو بقي مدرساً في نفس القرية، كان بمقدور إخواني نقله إلى عمان أو أي بلدة أخرى بطريقة الواسطة والمحسوبية، لسهولة توصل أي من الإخوان الخمسة إلى متخذي قرار كهذا، لكن هناك أمور لم أفهمها حتى الساعة عن أسلوب تفكير إخواني ، بل كان من الممكن أن يعمل أي منهم على ترقيته، هل أرادوني أن أبقي بعيدة عنهم؟ أو أن يدعوه ينضج بنفسه وينضجني معه، أو يدعونه لي كي أجعله يتعايش معي وعلى طريقتي؟ أسئلة ظلت حتى هذه الأيام دون إجابة شافية، وحتى بعد وفاة إخواني كلهم، ما زلت لم أخرج بنتيجة مرضية لي أو أي سبب يدخل الراحة إلى نفسي.

حين أرافقه عائدين إلى رام الله بعد قضاء الأيام التي قررتها في نفسي للبقاء عند أهلي في عمان، أبدأ بتذكر أوقات الجلوس مع بهيجة الفلسطينية، كانت تستأجر غرفة مع منافعها في منزل أخي الأوسط، تحكي لي عن قصص جديدة ومغامرات.
  ماذا فعلت يا بهيجة أثناء غيابي؟ تبتسم أولاً، ثم تعلو ضحكتها وهي تقول
  الحياة تسير ، البيوت في حارتنا صغيرة متجاورة، وكل جار يعرف أسرار جاره، ويسمع معظم النقاشات التي تحصل بين أي زوجين.

بهيجة كانت متزوجة، تحب زوجها كثيراً، لكنها لعوب أوقعها زوجها نفسه، علمها الحرية والجرأة، أتى بصديق للسهر عنده حتى تأخر الوقت فدعاه لقضاء تلك الليلة عندهم، وهي غرفة واحدة ومطبخ صغير، ثم تكررت الأمر بعد ذلك مع معارف آخرين، لم تفعل سوءا بهيجة مع أي منهم، لكنها جرؤت على بناء صداقات حسب طريقتها مع شباب دون علم زوجها، والناس غادون رائحون، متسولون وعمال نظافة بلدية، وموظفو كهرباء، فلا مجال للشك في أي زائر، قلت لها
  أخبريني يا بهيجة وبسرعة ماذا تريدين؟ هل تريدين صديقاً أو اثنين أو عشرة؟
  كلا كلا سامحك الله، أحب الوقوف خلف النافذة، دخل زوجي لا يكفي إلا لأجرة الغرفة وللكهرباء والماء ، فمن أين نأكل، وها أنت ترين أنني حامل في الشهر الرابع، أحب زوجي وأكره أولئك الزوار وأغلبهم انتهازيون وذوو روائح كريهة، بؤساً لهم، حين يبلغ حملي الشهر السابع سأختفي من هذه الحارة، وأنتقل مع زوجي ولزوجي، وسيكون الله معنا.

مطبات هوائية تزلزل الطائرة، مؤمنة بالله، لكن خوفاً يجتاحني، أنظر حولي، أناس نائمون، وغيرهم عيونهم تستطلع الناس مثلي، فتحات أبصارهم ازدادت اتساعاً، يبتسم أحدهم لنظرات امرأة، ابتسامته صفراء فيها مكابرة، أظهرت خوفه أكثر من غيره، تعود المرأة متوسطة العمر لتنظر إلى يسارها، إلى زوجها الذي يغط في نوم عميق، أو هي سكر من شارب، تحركه، يتململ ويريح اضطجاعه، يسحب وسادة من خلف ظهر زوجته، ويضيفها لما وضع تحت رأسه وكتفه.

زكي لا يحب اللعن ولا المسبات، تضافرت عوامل كثيرة عليه بل علينا كلينا، فتداخلت المؤثرات على شخصية كل منا، ولا يحب اسلوبي في المزاح معه، لم أر في حياتي رجلاً يحترم نفسه ويصونها مثل زكي، ربما يمازح كل رجل عربي زوجته بانتقاد والدتها أو شقيقها أو شقيقتها، لكن هذا كان من المحرمات في بيتي، فأنا حساسة لدرجة بغيضة فيما يخص هذا الأمر، وبرغم أن لي مآخذ وانتقادات على أشقائي وشقيقاتي وأزواجهن إلا أنني لم أفصح عن ذلك أمام زكي ولو لمرة واحدة، بالاختصار كانت حياتنا تكاد تخلو من روح المرح الحقيقي والمزاح، مع أنه كان يسامحني إذا مزحت معه، ينظر لي مطولاً دون تعليق، ثم يدير وجهه معرباً عدم رضاه نافخاً، أما لو فلتت منه مزحة واحدة معي، وتخطى الخطوط الحمراء، فردي يكون حاسماً دائماً. أحب أن يزورنا الأقارب الذين أحتمل تواجدهم، على أن تكون الزوجة الزائرة مهذبة هادئة لا تكثر المزاح، ولا الهرج الطويل مع زكي، أما زكي فيحب أن يزورنا كل الناس، وسرعان ما يتجلى زكي في حضرة الغرباء، يخلق جواً مرحاً، يثير ضيقي وحسدي، فأنتقده بإشارة ما، أو على مسمع الحاضرين أحياناً، أو أناديه وأهمس في أذنه بعيداً، مبدياً عدم ملاءمة انفتاحه ومزاحه إلى ذاك الحد، للأمانة لم يسبق أن خرج زكي عن حدود اللياقة والأدب، وبالطبع لا يمكن إلا أن أكون مقلداً له في ذلك، كان التلميح للجنس والحب والإغراء والإغواء من المحرمات أمام الزائرين أو بحضورهم، وحين تكون صبية أو صبايا غير متزوجات في الجلسة، أبذل كل جهد مستطاع لفصل مجلس الرجال عن مجالس الحريم (حسبما صرنا نستخدم كلمة –حريم- أثناء عيشنا في السعودية).

لن أنسى ما حدث قبل غروب يوم ما في سوق البطحاء في مدينة الرياض، ألححت عليه لمرافقتي لسوق البطحاء للتسوق وسط مدينة الرياض ، وافق مضطراً لأنه كان يحظر على أي امرأة أن تتجول في السوق دون محرم يرافقها، موقف مضحك محزن مؤلم، كل الرجال والعاملون، المتسوقون والمتسكعون يلبسون الملابس العربية البيضاء، أما (الحريم) سواء كن متزوجات أوبنات أو عجائز فكلهن يرتدين الملابس السوداء، وقد يسمح للمرأة العجوز السمراء بإظهار كفها أو ربما وجهها، أما وجوه الأشباح البيض فهي قنابل، ما أكثر الأشباح السوداء ممن نوفت أعمارهن عن الخمسين في سوق شعبية مثل سوق البطحاء، وما أكثر صيادي النساء والأشقياء، لا أعلم كيف يجرؤون على التحدث مع أي امرأة، مستغلين حالة التخفي القسري تلك، يدعي الشقيّ أنه يحادث قريبته أو زوجه أو أخته أو أمه، فإن تجاوبت معه سارا متوازيين أو متلاحقين إلى مسارب الشيطان، وإن أبدت نفوراً منه أو صاحت في وجهه، اعتذر لها مدعياً أنه ظنها من حريمه أو محارمه، وأسرع بالنجاة بنفسه، فجأة وجد زكي نفسه تحت ضربات العصي من المطاوعة (أوالمطوعين) ، ولا أدري كيف أسموهم بالمطوعين، والأولى تسميتهم بالكارهين والمكرهين والمكروهين والمنفرين، العابثين بروح السماحة واليسر الإسلامي لتحطيم مجتمع اعتاد على حسن النية والحرية، لا تهمهم نظريات الرقابة الذاتية، ولا يقتنعون بأن كل إنسان على نفسه بصير، يحافظ على الأخلاق لحاجته ولمصلحته، وتسمكاً بتعاليم الدين دون إجبار ولا إكراه، لم يكن يخطر على بال حاكم أو مرشد عبر التاريخ إن بسوق النساء في السوق بالعصا والإرهاب، كانوا ثلاثة قذري الملابس، واحد منهم أعور وآخر عيناه لا يكاد يرى بهما والثالث بدين كقربة من جلد ناقة قصت قوائمها ونفخت عن آخرها ، لا يعنيهم الرجل المضروب ولا يتحققون من شخصه أو خطئه، ضليل ضايق امرأة في السوق فانتهرته، وكعادة الصعاليك سرعان ما اختفى فكان زكي قرب موقعها ، توقف زكي مشدوهاً متجمداً لا يدري ماذا جنى حتى يحيط ثلاثة به، يضربون بدنه النحيل من كل جانب، صحيح أنهم كانوا لا يضربون بكل قوتهم، لكنها عصي طويلة رفيعة من الخيزران أو الزان، نظرت لعينيه تستنجدان من أحد تدخلاً، حاول التحدث والتساؤل عن أسباب ضربه، لكنها صرخات بين طرشان، سرعان ما حضر ثلاثة آخرون، يبعدون الناس والمشاهدين عن عصبتهم، كنت داخل المتجر وقتها معتقدة أنه يتبعني أو ينتظرني لدى الباب، سرعان ما اندست المرأة الصائحة بين الجموع الحاشدة، واختفت هي الأخرى في الزحام أو بين الأقدام، تابعتها عيناي، لكنني كنت أنا الأخرى مشدوهة، لا أدري ماذا أفعل حتى أحمي زوجي زكي من هذا الجحيم الذي وقع فيه بسببي، والصحيح بسبب سوء سلوك الذين يتخفون وراء الدين، لتحقيق مآرب لا ندركها، ولا نعرف دواعيها، ولا يعنينا أن نعرفها، فلسنا سعوديين حتى نفهم كيف يتم معاملتهم، حضرنا للعمل وطلب الرزق وسوف نعود إلى بلادنا عاجلاً أم آجلاً، وليبقوا أحراراً في بلادهم، أسرعت لتقبيل يد العجوز صاحب المتجر، وكانت له لحية بيضاء طويلة يبدو عليه الوقار، شاهدته يهز رأسه، وكانت لحيته الطويلة تلامس صدره فينثني شعرها الطويل أو ينتشر مغطياً معظم صدره، يحرك رأسه يميناً ويساراً، قائلاً : لا حول ولا قوة إلا بالله، أحس الرجل بحرقتي، تقدم صوب زكي، رفع يديه، وحاول التصدي للعصي النازلة عليه من كل جانب، ولو كان زكي وحده لهرب ولعجزوا عن الإمساك به، وقد فعلها من قبل في شارع الوزير في الرياض، أنكر أنه يعرفني حين كشفت وجهي، أتفحص المصاغ الذهبي في خزانة العرض الزجاجية أمام المتجر، ركض والتف إلى شوارع فرعية ونجا بنفسه، ضاعفت طبقات الخمار واخفيته ثم اختفيت مع عشرات النسوة اللاتي كنّ في أعماق المتجر. تحدث العجوز مع الطبل المنفوخ رئيسهم، وشهد ببراءة زوجي زكي، وأن من آذى المرأة التي صاحت هرب واختفى، أشار العجوز بعصاه لرفاقه الذين بدأ عددهم يتزايد، وانسحبوا بلا كلام ولا اهتمام، ولم ينظر أي منهم حتى وراءه وكأن شيئاً لم يكن، طلب العجوز مني معادرة السوق مع زوجي في تلك اللحظة وأمام عينيه.

جلس زكي طول تلك الأمسية مطرقاً صامتاً بعد وصولنا المنزل، لم يبد أي توجع من الضرب، ولم يقبل أن يخلع ملابسه، ولا أن يدعني أتأمل مواضع الضرب على ظهره وكتفيه وذراعيه ومؤخرته وساقيه الخلفيتين، جهزت له الشاي بالنعناع، شرب الكثير من الشاي في خرس، وكأنه لم يشربه منذ أمد بعيد، ألححت عليه في الكلام ، وفتحت مواضيع نقاش لأشغله أو لينطق كلمة واحدة، لكنه ظلّ الجماد الصامد المتصبر ، وكلما أراد الكلام بدا أن الكلمات أضعف بكثير من التعبير عما يجول في خاطره، فيحس باختناق وحصر في النطق، يطلب المزيد من الماء أوالشاي، لم يبق أمامي إلا قوة حيل حواء وأساليبها المغروسة فينا، أوهمته أنني أعمل في المطبخ، وكان بجانبه على المنضدة الصغيرة كتابان أحدهما في الفقه والآخر عن تاريخ الأمويين والفتوحات الإسلامية، وشاهدت طفلتنا الأولى تمشي ببطء صوبه، ولم تكمل العامين بعد، لكن طبيعتها بطيئة صبورة باردة الأعصاب، قلت في نفسي لمرات كثيرة، ورثت هذه الروح المتأنية المتأنقة عن والدها، وحين يسمعني لا يجيب على ملاحظاتي عن برود أعصابها، ويكتفي بهز رأسه، لكنه ردد في أكثر من مناسبة، ستتغير على النقيض عند الكبر، دخلت الحمام، وحين عدت فاجأته بتطويقه وتغطية رأسه وعينيه، حتى أنني حجبت الرؤية كاملة عنه، لم يتحرك مع أنه قاوم قليلاً يحاول التنفس العميق، تحركت طبيعة الرجل فيه وغلبته، فقال وهو شبه مخنوق، امتلأ صدري عطراً، دفعني بقوه فأسقطت الروب الذي كنت أخفي نفسي تحته وأخفيت رأس زكي ضاماً إياه إلى صدري، جلست على ركبتيه فوق الكنبة القديمة والوحيدة التي كانت عندنا، أرحت رأسي على كتفه، صمت ولم يحرك ساكناً، وبعد خمس دقائق والبنت منشغلة بألعابها، أحسست أنني على وشك أن أغفو على صدر زكي، وبدني يبرد تارة وتشتد حرارته تارة أخرى، شكوت له من التعب، فأمسك بيدي، وطوق وسطي بذراعه الكهربائية النحيفة، وكلانا يعرف الدرب إلى غرفة النوم، كنت جهزتها لاستقبالنا قبل ذلك، أرحته على السرير، وأقنعت طفلتنا بالذهاب للنوم بجانب شقيقتها الأصغر منها، عدت فإذا بزكي مغموراً تماماً بملاءة السرير، أحسست أنني أنثى ليلتها، ولأول مرة يصبح زكي طفلي المدلل، ويشارك طفلتنا الصغيرة حليبها، ربما دون وعي ، أو أن كلينا كنا بحاجة إلى شيء من الجنون نافرين من الواقع الثقيل، ونجحنا في نسيان ما مر، جسدان بلا تفكير ولا عقل، لغتهما هي التي سادت، واختفت الخفافيش في مخابئها أوتعلقت بمخالبها بينما رؤوسها متأرجحة في الجو الحالم الفسيح.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى