الثلاثاء ١٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم بسام الطعان

ابن الذئــــب

الدنيا من حوله ساحة حرب مليئة برائحة البارود، والغيوم الداكنة التي لا تمطر إلا الموت، في كل ساعة، بل كل دقيقة , تنز بالخوف ودوّي الانفجارات والدم المـسفوح بلا سبب، وتملأ نفسه بالطقوس الكئيبة والمنطق الهولاكي.

المكان الذي هو فيه،ليس في أي مكان في العالم ما يبعث على اليأس والظلم والقهر أكثر منه.
في مساء خريفي مهزول ، كان (ابن الحمدوني) جالساً في محرسه القريب من الحدود الدولية، يرتدي ثوب الحداد , يصادق الضجر ، يحتضن بندقيته , يحكي لها بلوعة شوقه لأهله وخلانه وحارته التي لم يرها منذ ســنة وثلاثة اشهر وخمسة أيام، كان يبدو بأعوامه القليلة وكأنه في الخمسين أو السـتين من عمره ، أغمض عينيه المتعبتين وذهب في غفوة مصطنعة، حلم أن تنتهي فترة خدمته ويعيش أيامه بحرية قبل أن يرسلوه في صندوق يمنع منعا ً باتاً فتحه إلى أهله ، كما أرسلوا الكثيرين من رفاقه وأصدقائه، مرت من فوقه ثلاث طائرات مقاتلة فأحدثت في نفسـه الهذيان ، تكور على جسده في محرسه المهمل،ارتمى في أحضان القلق والاضطراب الأرعن، تابع بخوف أصوات الانفجارات التي دوت فجأة ، حمل سراج صمته , وسبح في دهاليز معتمة ، مليئة بوحـوش ومخـلوقات غريبة تـزرع الخـوف فــي قلوب الجبارين،اجتاحته خواطر لا حصر لها ، فقال بصوت مسموع وغاضب: " يبدو أن هذه الحرب التي تأكل الأخضر واليابس لن تنتهي أبداً.. اللعنة عليها , إنها لم تجلب للبلد إلا الدمار والموتى .. يجب أن أهرب من هنا وأذهب إلى مكان ليـــــس فيه ظلم وخوف.. نعم سأهرب حتى لو امسكوني واعدموني.. لا يهم, المهم أن أتخلـــــص من هذا الجحيم".

خرج من المحرس والبندقية بيده ، كانت الريح تصدر صوتاً يشبه أنيـن مخلوق غريب، أرسل نظراته إلى الأماكن القريبة والبعيدة، فشاهد قوافل لا حصــر لها من الأفكار تمر أمام عينيه.
عند منتصف الليل تماماً، حمل زوّادته , راقب المكان من حـوله جيداً، فلم ير غير آلاف الأشباح تستعد لأن تمزقه ، لم ينتظر في وقفته طويـــلاً ، سار خفية باتـجاه الحدود الدولية على الـرغم من أنه يعلم علم اليقين أنها مغلقة تماماً ، ولكـــن لا أحد يعلم لماذا ترك بندقيته ، ربما للتمويه.

بين المنعطفات الوعرة، التي تحمل في ثناياها العذاب، هده التعب والعطـــش، لكنه واصل المسير أربع ساعات متواصلة، وعند الفجر بالتحديد، صار علــــى مقربة من الحدود، وقبل أن يجتازها خفية سقطت بالقرب منه قذيفة عمياء، ليتـــها كانت متفتحة العينين، أصابته بجروح في ساقه اليمنى، بقي مرتمياً على الأرض لدقائق، وما لبــث أن تحامل على آلامه وتعبه إلى أن بلغ أول قرية خارج الحدود.
أول ما لقي من القرية كان باباً كبيراً، طرق الباب فبرز له رجل في عقده الخامس، طويل القامة، نظيف الهندام، كبير القلب، جميل النفس وتلوح على وجهه بسـمة حلوة قوامها الحنان والكبرياء.

سبعة أشهر لها طعم العسل قضاها في ضيافة الرجل الذي أطعـــمه خبز النجاة ، وسقاه ماء التآخي والأمان.
ارتدى نيسان أجمل أزيائه، وتعطر بماء وروده لكنه ما لبث أن خلعها وارتدى توباً أسود, ورش على رأسه ماء عكر، كيف لا وبلده الذي كان على مر العصور قبوراً للغزاة سقط بيد الأعداء وقطاع الطرق والكذابين والمنافقين ، صارت الفوضــى في بلده هي العنوان ، وصار ساحة لكل من هبّ ودّب، وحـــــزن العالم وبكى على ما جرى، أما ابن الحمدوني فكان فرحه لا يضاهيه فرح.

ككل الكرماء وأصحاب النخوة والشهامة والنقاء, طلب منه الرجل أن يبقى عنده ، فهو صار واحداً من أولاده، لكنه غسـل وجهه بماء الشوق إلى أهله عندئذ حملّه بكل ما يحتاجه من مال وطعام، ولم ينس أن يقدم له مسدساً عربون صداقة ومحبة. ليته نسي ذلك. ثم ضمه بين جوانح قلبه وروحه، وأوصله بسيارته الصغيرة إلى الحدود، وكم تمنى لو أن يوصله إلى أمام بيته.
عند الحدود التي لا تزال مضطربة، تعانقا طويلاً، رش كل واحد ما تيـسر له من ورود على الآخر، وقبل أن يبدأ بالمسير وضع يده اليمنى على كتف الرجل:
 لا أعرف كيف أشكرك.. لقد أنقذت حياتي مرتين، مرة حين داويت جراحي ومرة حين أدخلـتني إلى بيتك وقدمت لي الحياة بكل مباهجها.. صدقاً لو كنت املك أموال العالم كلها لما بخلـت بها عليك.
ابتسم الرجل وربت على كتفه، وقبل أن يتكلم أضاف:
 بما أنني لا أستطيع أن أقدم لك شيئا مقابل صنيعك وبما أنني أخـاف أن أراك يوماً ما ولا أستطيع فيه مساعدتك، وبما أنني سأخجل من ذلك كثيراً، فالأفضل لي ولك أن تموت كي لا أراك ثانية.

بغمضة عين شريرة، وبقلب تلوث فجأة بكل ألوان الجنون، أفرغ كل الرصاصات في جسد الرجل الذي تمايل قليلاً ، ثم خر على الأرض , حينئذ طـارت من حنجرته المصبوغة بالدم النقي، ثمانية عشر مليوناً من العصافير والحمام والنسور، حلقت في الفضاء عالياً، وراحت تتأسف وتتمنى الانتقام ، وفي الطرف المقابل أخفضـت ست وعشرون مليون شجرة نخيل رؤوسها خجلاً، وتمنت لو لم تطعـمه من ثمارها.
أيها الناس، الطيبون والسيئون، الصالحون والمفسدون ، الصادقون والكاذبون ، أيتها الدنيا المليئة بالغرائب والعجائب، كيف يُقتل الكريم وصاحب النخوة والشــهامة في عرض الصحراء؟!

بسرعة وهمجية، أبعد الجثة عن السيارة ، صعد إليها وانطلق وهو ينظر إلى الجثة من خلال المرآة إلى أن ابتعد ، وظلت الشمس ترسل أشعة غاضبة على غير عادتها في مثل هذا الوقت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى