السبت ٢٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم أحمد نور الدين

الثور النائم

في غمرة الليل المظلم ظل يسير متأرجحا باحابيل الخمر. الى ان وصل الى البيت أخيرا. بيته يقع في اخر الحارة ويحيط به من جانب المقبرة ومن جانب اخر الخلاء المقفر الذي لا تدب فيه دابة. اما بيوت الحارة وعمائرها فتلوح من شباك غرفته في اخر مرمى النظر دفع البوابة السوداء بيد ثقيلة ودلف الى الحوش الذي يكتنفه الظلام, وهو يتمتم باغنية سمعها منذ ايام حيث لا يدري الان. قطع مجاز الحوش في صمت بعدما أثقلت عليه ظلمته وتكاثفت مع الصمت المطبق.

بهدوء وحذر شق الباب ودلف الى داخل البيت محاذرا من اصدار اي صوت ان يصحى النائمون. كانت حجرة المعيشة هادءة يكتنفها الصمت فقطعها ماشيا على رؤوس اصابعه باتجاه غرفة النوم. وقف خلف الباب ونظر عبر شقه وحدق ببصره فالفى زوجته تغط في نوم عميق جدا " أوف شخيرها كخوار الثور ... يا ساتر"

وبنفس التروي عاد ادراجه الى غرفة المعيشة ثم تدانى من مقعد وهو يغالب دوارا ثم تهالك على المقعد فأصدر دويا كبيرا ازعجه كدوي مدفع. فنظر بغتة نحو غرفة النوم مشفقا من صحو زوجه ساخطا على نفسه سخطا شديدا.. هو في العادة قوي يتمالك امرنفسه لكن .. الخمرة لعنة الله على الخمرة!! لكن ما حيلته هو ان كان حاله لا يعدل الا بشربها ولا يشعر للدنيا طعما الا اذا افرغ في جوفه عدة كؤوس مترعة!
القى بقذاله الى الخلف واغمض عينيه في تسليم لما يخامره من شعور اختلط فيه الصمت مع الدوار مع ترانيم الأغاني الطروبة فداخلته بقية باقية من نشوة يفقدها لدى عودته لهذا الجحر الموحش. وهو على تلك الحال شعر بثقل في جفونه وكأن نارا اشتعلت بهما وفي انزعاج كبيرادرك ان نورا اشتعل بالمكان ففتح عينيه فيما يشبه الجزع وحدق في الضوء مبهورا ضيق عينيه وركز بصره فاذا بها الخادم الزنجية صباح!
كانت تبدو على وجهها ايات من الخوف والارتباك.

سمعها تقول بصوت واهن:

أهذا انت يا سيدي؟!

فقال بانزعاج :

أجل ومن عساه يكون غيري؟

ثم أضاف بامتعاض:

ما الذي يبقيك ساهرة الى هذه الساعة هه؟

حدق في وجهها باهتمام فلمح فيه علامات من الخوف والارتباك. لكنها سارعت الى

القول:

كنت نائمة يا سيدي .. نمت بعد المساء بقليل.. لكنني صحوت الان على صوت مزعج

فجزعت وجئت استطلع الامر!

فأشاح بوجهه عنها متبرما وقال بعد ان اغمض عينيه:

حسن حسن .. عودي الى نومك من جديد.

حاضر يا سيدي.

وقفلت راجعة من حيث اتت فتلاشى بذهابها كوكب النور وغمر الظلام المكان كرة أخرى فعاد اليه هدوءه وشيء من نشوته الضائعة.
لو افاقت زوجه الان لكانت مشكلة كبيرة. وربما شجر بينهما خلاف وعلا الصوات والصراخ. هذا دأبها كلما أفاقت على رجوعه من السهرة وخاصة اذا كان به سكر!

لكن ما خطبها هذه المرأة؟! هل تظن نفسها في معتقل؟ اليس للرجال حق في الترويح عن انفسهم من مصاعب الحياة؟ الا تكفيه هو مشاكل العمل ومتاعبه؟!

لكنها لا تقدر النعمة التي هي فيها .. أجل اليس من الكرم منه ان يحويها في بيته هذا العمر كله بعد ان فشلت في انجاب ولد له يقر به عينا . كان حري به ان يطلقها ويتزوج بأخرى غيرها فتنجب له من الاولاد ما شاءت له أبوته المحرومة. أما هي فلترعاها السماء وما شأنه بها؟! هذه لطفية وقمر وغيرهما يعيشان بلا رجل ولا معيل لكنهما تعيشان بعرق جبينهما. أجل بعرق جبينهما ولم لا. فما من مهنة في الارض
مهما كانت وضيعة الا ويتكبد اهلها مشاقا واثقالا في سبيلها. لكن أواااه ما الذي دهاه كي يخطر بهذه الخواطر الملعونة؟!! اهي الخمر يا ترى؟ ربما لكن لا ينبغي له ان يتمادى كثيرا في هذه الخواطر ان يتطاول به الندم حيث لا تغيثه الخمر! انها تبقى زوجه ومحسوبة في عرضه وشرفها
شرفه مهما كان من أمر.

رغم كل شيء فهو راض بحياته او انه مكره على ذلك لكن لا بأس فهو يسعى لنفسه لما يرضيها و يجعلها اقدر على تحمل الحياة. فلماذا لا تدعه و شأنه؟ لكل امرء في الارض مذهب فلتمضي في مذهبها وليمضي في مذهبه وما يتحمل المرأ من اوزار لم يكن حمالها!!

لكن هيهات ان تعي كلمة مما يقوله لها في العادة.

" الا تخجل من شيبك يا شين الرجال؟!"

"لقد فضحتنا في الحارة و سيرتك على كل لسان!"

تقول فضحتنا! ها .. بمن تقصد فضحتنا .. فضحت من؟ ليس في البيت الا انا وهي لكن لا هنالك ايضا الخادم صباح .. بلى تبقى صباح في عداد الاشخاص اليس كذلك؟ نعم صباح تأكل وتشرب مثلنا تماما فلماذا لا تحسب في عداد الادميين؟! لعنة الله عليك يا شوقي كف عن هذيانك.

لو كان في العمر متسع لفر من حياته باسرها الى حياة أخرى مختلفة كليا. يعيشها في مكان بعيد جدا يعيشها بهدوء وصفاء كما يحلو له ان يحيا الحياة.. لكن الى اين مفره؟ أو لعله يقدم على الانتحار! فقد راوده هذا الخاطر غير مرة لكنه كان ينبذه معتلا شتى المعاذير. حتى الانتحار بات الان متعذرا بل هو ضرب من العبث.

لقد جاوز الخمسين من عمره. أيام تجرها أيام والعمر ماض. فلنر الام ستبقى ايها العمر البائس متلويا في ازقة هذه الحارة المنكودة.
فجأة اشتعل في جفنيه النور من جديد لكن هذه المرة كان نورا اخر لم يأتيه من جهة
المجاز المفضي الى غرفة صباح. انها زوجته بلا شك!
امتلئ قلبه توجسا لكنه لم يبدي حراكا بل ظل ساكنا مظهرا هيئة النوم.

سمع وقع خطاها مقتربة منه. زاد توجسا واشفق من الاتي! وبغتة احس بيدها تهزه
هزا خفيفا ثم طرق سمعه صوتها يقول:

شوقي شوقي انهض .. لقد حل الفجر!

بعد برهة قصيرة حرك رأسه قليلا ثم فتح جفنيه بثقل ونظر اليها نظرة سريعة فالفى
وجهها هادئا لا ينم عن شعور واعادت عليه قولها السالف " انهض فقد حل الفجر"
في غرفة النوم اعانته على تبديل ملابسه في صمت تام.
شرع في تبديل ملابسه وهو يقلب الامر في باطن عقله في عدم تصديق. ليس من
عادتها هذا الهدوء كله ولا هذا الصبر وتعينه على تبديل ملابسه ايضا؟!
لا بد انها تخبئ له شيئا ما اجل .. فقد تنتظر حتى يأوي الى فراشه فتبدأ معزوفتها
الاعتيادية.. ربما! انه ليس متأكد تماما هذه اول مرة تلقاه هذه الملاقاة.
انتهى من تبديل ملابسه فابتعدت عنه واطفأت المصباح الغازي ثم اعتلت السرير
فتعالى صريره.

لبث هو واقفا في الظلام برهة غير مصدق وكأنه ينتظر حدوث امر ما
لكن شيئا لم يحدث. وها هو يسمع شخيرها يعلو من جديد! عجبا!
شخيرها مزعج أجل لكنه خير من صواتها على كل حال!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى