الجمعة ١٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم إبراهيم مشارة

ياقمر ياعالي

ما زال صوتها يرن في أذني كما عهدته على تقادم العهد وكر الأيام ، صوت عذب ممتلئ بدلال الأنوثة كامتلاء صاحبته ، وكان ذلك الصوت حين أسمعه وأنا طفل يعانق روحي ويأسرني كما أسرتني ملاحتها وقد جلاها ذلك الجسم الممتلئ البض وذلك الوجه المستدير القمحي المحمر الوجنة ، وتلك الشفتان الكرزيتان اللتان تكشفان عن أسنان بيضاء إن تبسمت ، كانت خطارتا أنفي تنتصبان كذيل قط وأنا ألقاها متمنيا أن أعانقها وأقبل تلك الشفة فأشم عبق الأنوثة وأنتشي بلذة عجيبة حين يتاخم جسدها جسدي فأحس بطرواته . ولم يكن بها من عيب إلا بعض القصر غير أن تقاسيم الوجه الحلوة والشعر الفاحم المسترسل حتى أليتها يشفع لها ذلك القصر.
كانت تكبرني بسنوات ومنها عرفت الحب وخفق القلب كجناحي طائر فرحا بلقاء المحبوب حين يلقاه ، ومنها عرفت الشوق حين أكون في المدرسة أو في الكتاب وأنا كالقابض على الجمر أنتظر الفراغ من الدروس حين يمسك حارس المدرسة *خالي الحاج* بسلسلة الجرس الكبير الذي يشبه جرس الكنائس فيرن معلنا انتهاء الدروس وأنفتل أنا من القسم ومن المدرسة مسرعا للقائها مصطنعا الأسباب في سبيل ذلك ، وفي أزقة الحي كنت أتمثل صورتها وابتسامتها الحلوة ووشوشتها في أذني أو تعليقها المازح على حدث أرويه لها … كذاب !
أما إذا لم ألقها أحسست بالشفرة تقطع نياط القلب وبالنسر الأسود يجثم على روحي مسلما إياها إلى الوحشة، وألعب الكرة مع أترابي لنسيانها قليلا فما أفلح حتى لأخال تلك الكرة قلبي يلعب به أترابي دون مبالاة !
و كان لها أخوان يدرسان معي في الكتاب وفي نفس المدرسة ولكن في أقسام أخرى يكابدان أعباء الفهم وحل الواجبات وحفظ المقطوعات ووجدا في ظالتهما أزورهما في البيت ليلا وأنجز لهما مااستعصى عليهما في ألفة عجيبة ومرح صبياني وتشاركنا هي المراجعة والأحاديث والمرح ومرة اختليت بها وهمست في أذنها :

 أنت تبتسمين بعينيك قبل أن تبتسمي بثغرك !

فردت في خبث وكيد أنثوي:

 مازلت صغيرا عن الغزل ، اهتم بدروسك ومساعدة أخوي أحبكم أن تنجحوا جميعا .

و أردت بمنطق حبيب صغير تريد حبيبته أن تغرقه في أقيانوس اللامبالاة أن يحتفظ بمحبوبه متمسكا بتلك القشة : براعته وذلاقة لسانه فرددت :

 يهمني فرحك وسأسعى في سبيله ، لا أسألك شيئا من جهتك ولا تطلبي مني الكف عما أنا فيه من الإحساس بالنشوة في حضرتك.

كنت حبيبها الصغير أحسن الكلام في الهوى وأحفظ الأشعار وأجيد كتابة الرسائل الغرامية ، وفوق ذلك كله العاشق في براءة الطفولة وسذاجتها !
لا مرية أنها تمنت لو كنت في مثل سنها إذا لاكتفت بي وأراحت نفسها من هم البحث عن حبيب في مثل سنها تعد نفسها للزواج منه مستقبلا
وكان يحلو لها أن أجلس إلى جانبها إن سمحت الظروف بذلك ويزيد الموقف بهجة وإحساسا بديعا بنشوة الحب ولذة الحياة حين يشرق القمر و تطلب مني أن أغني لها تلك الأغنية التي كانت أمهاتنا تغنيها لنا ونحن صغار لننام :

يا قمــر ياعــالي

وصلـــني لأخوالي

و أخوالي في مــونة

ذبحوا لي فكــرونة

ساح الدم من راسـي .....

و أمتثل لأمرها يخالطني ألم ممض وأنا أتأمل القمر متوسدا ركبتها ، القمر عالي حقا لكنه إلى جانبي وقمرها ما زال في ضمير الغيب ثم تعبث بشعري أو تمسح على خدي قائلة :

 لولاك لأحسست بفراغ قاتل !

و مرة لم تقل هذه الكلمة بل سألتني في خفر مصطنع وكيد ظاهر :

 ما رأيك في فلان ؟

أحسست كأن شفرة حادة قطعت نياط القلب وأصابني خور وتلعثم لساني ثم اصطنعت الهدوء واللامبالاة ورددت :

 شاب ماكر يقضي يومه متسكعا مصفرا تحت شرفات البيوت يهيم بجميع فتيات البلدة ويكتب لهن نفس الرسالة !

فردت ضاحكة :

 غرت منه ؟

وكان الغضب قد استبد بي حقا وأحسست أن زلزالا هد كياني وتظاهرت بعدم الاكتراث وقلت في ضحكة مستهزئة :

 ولم أغار منه ليس من أترابي ثم أنه فشل في دراسته سيء السمعة يبحث عن عمل فما يجده .

كانت الدمعة قد تجمعت في عيني وكادت أن تفضحني، جاهدت في سبيل حبسها فما قدرت وسالت أخيرا على خدي ، وأدركت هي صنيعها و ربما تمنت لو لم تفاتحني في الأمر ، هدأت من روعي ولاذت آخر الأمر بالتضليل بعد أن أحزنها حالي :

 لا تخش شيئا كنت أمزح فقط وأختبر صدقك ، أنا لن أكون إلا لرجل صادق يرعاني ويحسن القيام بأعباء الأسرة ،يقدرني ويغدق علي من فيض حبه وحنانه.

ثم أحسست بالفتور من جهتها لم تعد حريصة على أن أزورهم في بيتهم للمذاكرة مع أخويها ، وقللت هي من غشيان مجلسنا ونحن نذاكر، وطغت على أحاديثنا أسئلة عامة عن الحال والدراسة والسؤال عن الأسرة ثم تنصرف لشأنها !
ولم أعد أجد في ذلك البيت ما كنت أجده من الأنس والفرح الذي يغمر الروح والشوق الذي كان يطير بي إلى بيتهم كلما دجى الليل ، وتناثرت على صفحة السماء النجوم.
وتخابثت أنا مع أخويها، أتمارض أو أدعي التعب أو أصطنع النعاس مكتفيا بالنزر اليسير في مساعدتهم أو ربما بلغ بي الخبث مبلغه في ادعاء عدم معرفة حل مسألة ، ثم أتثاءب وأنصرف إلى البيت .
عاشقان جديدان حطا كعصفورين على دوحة الحياة أما هو فأحسن تصفيف شعره والعناية بهندامه واصطنع شيئا من اللباقة والحنان، كان كلامه يسكرها ووعوده ترسم لها أفقيا ورديا متألقا واشتكى كل منهما لصاحبه تباريح الجوى وألم السهاد ولوعة البعاد في خلوة العشاق والأجساد توشك أن تنتفض متعانقة والشفاه الصادية تتوق إلى ري من منهل الحب ،ولا تسمح البنت للفتى بأكثر من ذلك، أن ينال قبلة فذلك أقصى ما يناله منها !
أكثر الفتى من المرور ببيتهم وكان مظهره لافتا للنظر وعالمه غريب عن عالم شباب الحي ، وفيهم من ترصده و أذاع أمره بين صحبه فكمنوا لهما في مكان خفي وسمعوا منها همسات الحب ووشوشات الحنين ، وعملت الضغينة والحرمان في نفوس البعض عملها فاشتكوهما إلى أهلهما وانتشر الخبر !
وللناس أسلوب واحد في التعامل مع مثل هده الحوادث يجعلون من الحبة قبة وينسجون الافتراءات ويقسمون غير مكترثين أن الوهم حقيقة في لذة عجيبة و فضول لا ينقطع وربماجذل لا نظير له !
وأقسمت الفتاة على طهارتها ودافعت عن نفسها وقد لاقت من الضيم ألوانا ومن الضرب والإهانة أصنافا ، رغم عفتها.
أفرت إفراد البعير الأجرب ولاذت بالوحدة ووجدت في الصمت وانكسار النظرات وطأطأة الرأس جوابا لمن ظل يدينها وتحاشت الأفراح والمناسبات ونساء الحي، ولربما سعت إلى الموت وخانتها الوسيلة ، ولربما هو الإشفاق على والديها العجوزين من تبعة الأمر ، آثرت أن تنزف لوحدها لعل الزمن تجد فيه السند فتغدو القصة طعاما لمعدة النسيان ، غير أن تلك المعدة لا تهضم هذا اللون من القصص تتقيؤه وتطرحه وتظل أفلاذا منتشرة في البيوت والأزقة وفي أحاديث الناس.
وأما الفتى فعنفه والداه وطرداه وتكفلت الأيام بإعادة الأمور إلى نصابها ، هضمت معدة النسيان قصته ، لولا أنه أحيانا كان يخوض في أحاديث مع أترابه مفتخرا بفروسيته وحباله وشباكه معددا فرائسه، وجد عملا و زوجاه والداه كشأن جميع الشباب وانشغل بتدبير حياته الجديدة ورزق الولد وأتاح له ذلك الأمن والدعة ، ولجأ إلى ما يلجأ إليه الناس حين يستقبلون هذا الطور من حياتهم يحرصون على أداء الصلاة ويتقيدون بتلك التقاليد الصارمة فتراهم يوم الجمعة ارتدوا قمصانا بيضاء وربما أرسل أحدهم لحيته وخف إلى المسجد لآداء الصلاة ، وإذا اجتمعوا في مجلس غضوا البصر إذا مرت أمامهم امرأة أو ربما عقب أحدهم :

 أعوذ بالله امرأة غير مستقيمة !

فيرد الآخر:

 سمعت الإمام يقول في الخطبة أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لما اطلع على النار رأى أكثريتها من النساء !

فيعقب الآخر :

 إن كيدهن عظيم ، بقرة إبليس، حفظ الله أزواجنا وستر بناتنا

فيصادق الجميع على قوله : آمين بجاه النبي

وقد مضى على الحادثة أكثر من عشرين عاما وكنت أراها نادرا وما أتيح لي أن أتأمل وجهها أو أسمع كلامها، كانت تغور في البيت كما يغور الماء في باطن الأرض ، أما اليوم فقد تأملتها مليا، تكاد تشرف على الخمسين والوالدان غيبهما الموت وانتقل أحد إخوتها إلى مدينة أخرى. أما الجسم فذوى كأوراق الخريف في نحول عجيب وحال الجمال قبحا والملاحة دمامة وذلك الوجه الوضاء ملأته الندوب والشعر الفاحم وخطه الشيب منتقما منه والنظرات ازدادت انكسارا، لفها الحزن بوشاح أسود و ربما أحست بالمسكنة في كونها عالة، ومعدة النسيان لم ترحمها، ظلت تتقيأ قصتها مصرة على عدم هضمها والجسد المرمري القمحي اللون ازداد تيبسا و نحولا والصدر الممتلئ أنوثة أصابه الانكماش والضمور !
وربما أرادت إحداهن التخفيف من معاناتها وبلسمة جرحها النازف في صمت إن تحدثت عن زواج بنت، فتستدرك :

 ما زال نصيبك، الله لا ينساك وعريسك في ضمير الغيب سأذكرك بذلك في ليلة الدخلة .

غير أن ذلك كان مدعاة لسخريتها الصامتة واستمرار نظراتها المنكسرة .
رمانة نضجت في شجرة الحياة أسرت العيون بجمالها وامتلائها وأسالت اللعاب بمذاقها ،عفنتها الأيام وتصاريف الحياة فبقيت وحيدة في أحد الفروع الهرمة والنسر الأسود يحضنها بجناحيه حين أبت طيور البلدة و صقورها وحمائمها أن تجتمع بها على نفس الغصن !
ومازلت إلى اليوم كلما همت على وجهي ليلا في أزقة البلدة أو على أطراف الحقول ورفعت رأسي صوب القمر رأيت صورتها منطبعة عليه وسمعت تلك الأغنية التي كنت أغنيها لها و أنا أضع رأسي على ركبتها :

يا قمــر يا عـــــــــــالي

جاءت العودة تنطـحني

جا خويا يضــــــــربها

بالسكين الهنديــــــــــة

واش نعطي في الديــة؟

نعطي بغلة مصــــــرية ............


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى