الأربعاء ٢٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم محمد بروحو

أفواه مغشوشة

يجلسون كما ألفوا، كل مساء. عند عصر كل يوم. في نفس المكان والزمان.

يلقون بأبدانهم المتهالكة. على كراسي، تحيط بطاولات، تهرأ خشبها، وصدأ حديدها، تحلقوا..

يندس بينهم (أبابريا). يذكر أن جلسته كهاته، كان يجلسها منذ أربعين سنة مضت. حين كان جنديا في صفوف الجيش الإسباني. إنه لا يفتأ عن ذكر أماكن الغزوات وتواريخ حدوثها.

بأفواه مفتوحة، ينصتون ببلاهة وأسنان متناثرة. كما كؤوس الشاي على رقعة الطاولة. المتسخة والتي أكلتها العفونة.

تتساقط كلمات فاحشة، من أفواههم القذرة. تجلب بنتانتها، ذباب الأحياء العتيقة، إلى مجلسهم هذا.

أسنانهم المتبقية في أفواههم صدئت ببقايا السجائر، ودخان ما ينفثونه وما يشربون من خليط الكيف.

وأنوف تقطر زعفرانا أسود. من عطوس، يحضر من نواحي المدينة. تلاعب الأفواه الدخان المندفع من داخل أجوافهم. وتتلذذ الأنوف بالعطوس الذي أحضره (السي العياشي ). من سوق جبل الحبيب.

بكلامهم الفاحش، يحاولون أن يثبتوا رجولتهم. كمراهقين يبدون في كلامهم. شيوخا هم في ملامحهم.

تعجبت وأنا أساير تفاهتهم. تفاهة قوم أعلنوا التمرد على الأخلاق. أنصت وأراقب..

أستحضر أوصاف الرجال النبلاء. الشجعان الذين دافعوا عن هذه المدينة وعن تاريخها. شهداء كانوا حقا. أما هؤلاء فأراهم كرماد نار، استدفأ بها ركب مر من هنا منذ حين. تركوا تاريخا مجيدا. لطخه هؤلاء، بكلامهم الفاحش ولغتهم الماجنة.

غبار السنين يعلو ملامحهم وملابسهم. ولحاهم التي غير الزمن لونها.

شعث شعر بعض منهم. رغم كل ذلك فهاهم يضحكون، يتغامزون.

أتأمل وجوههم الكاذبة وضحكاتهم الزائفة. أبحث عن سر ذلك. فأستنتج أن الواحد منهم يضحك على الآخر. على بعضهم. على أنفسهم. بأفواه مغشوشة وبكلمات وحركات مغشوشة كذلك.

في ساحة (الفدان) يتم كل ذلك.

ساحة بسق نخيلها. وتفتحت زهور أحواشها. لكن ها هم يلطخون هواءها الندي. تتناثر الكلمات فتصل أعشاش فراخ مهجورة. غادرتها مكرهة حين وصلت إليها كلماتهم الماجنة. استحيت. فغادرت دون عودة.

أعلنوا اللعنة على الوقار. فكنت بينهم كمن تقاذفته أمواج أيام عصيبة. على شاطئ الحقيقة. حقيقة يشوبها كثير من الإحباط. يجر عربتها بغال غير معلفة، عليلة. إلى هاوية لو سقطت فيها لكانت نهاية حتمية مأساوية.

أحضر فأغوص في محيطهم الموبوء، لم أدر ما الدافع الذي حفزني على ذلك. كل ما أذكر هو أن (أبا بريا) هو من دفعني لفعل ذلك.

كثيرا ما كان يذكر لي أن جلساتهم هذه تفيد الإنسان في حياته، وتقوي شوكته. وقد تضيف لك تجارب عديدة وحيل تعينك على فهم الغاز الحياة وأسرارها الغامضة. يحدثني بكل ثقة. حاورت نفسي في سكون. قبل أن أحاورهم. لم اشعر والكلمات تتقاذف من فمي عبارات ساقطة. أدركت أن العدوى انتقلت إلي وأيقنت ذلك تماما.

يتردد آذان المغرب من مكبر الصوت المعلق على صومعة جامع الباشا. رددت وراءه ألفاظ الآذان عليَّ أغسل فمي ونفسي وأفكاري. ينتهي الآذان وأنتهي مما رددته، وأنا أنظر في وجوههم الشاحبة. يخاطبني (بابريا) وهو يملأ شقاف السبسي بالكيف.

 اذهب أيها الشيطان.

تركت المكان ونزلت الدرج في تؤدة وأنا أردد مع نفسي:

أفواه مغشوشة.. كلمات مغشوشة..

كان سرب الزرازير يحلق مسرعا فوق ساحة الفدان. وكانوا هم يحملقون فيه ببلاهة ويبتسمون


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى