الجمعة ١٤ أيار (مايو) ٢٠٠٤
بقلم إدريس ولد القابلة

متاهة إنتظار ـ الحلقة الثانية

6

_هناك أسفار عادية وأسفار كالحب، تقطع مسارا طويلا، ابتداءا من التعلم ثم البلوغ وصولا إلى المحكمة.

من المغرب إلى أفغانستان، سفر طويل، مسار استثنائي ومعرفة وتعلم وتفكير وتأمل امتحان للتحمل والصبر ومقاومة الملل رغم تباين المناظر والمناخ وأنماط الحياة.

إنه مسار للتعود على الوقوف ثم الانطلاق من جديد.سلسلة لا متناهية من المحطات، أوقات النوم والأكل غير المنضبطة، تخضع للحاجة البيولوجية وليس، إتباعا لعادات وأعراف ثابتة.

مسار الارتباط الحميم بالكتاب ومزاولة المطالعة، مسار مساءلة الذات للمزيد من التعرف عليها وتحديد موقعها بالنظر للغير.

لقد أخذت معي كتاب " الحي اللاتيني" لإدريس سهيل هذا الرجل المتقوقع في مجال الوجودية رغم تغير الأحوال، وكتاب " الأيام" لطه حسين المعبر عن غنى عمق الأنا وبطولة شاهد عيان رغم غياب النور والنظر.

لقد اكتشفت طه حسين وأنا بالثانوية، مباشرة بعد مغادرة التعليم الابتدائي، ثم عرجت على أعمال نجيب محفوظ ويوسف إدريس قبل الرحيل إلى ماركس " وإنجلز" و" هيجل" و" فويرباخ" و" غرامشي" و" باكونين" و" بوشكين".

سرت في هذا الاتجاه كمسار قطار على السكة الحديدية دون التفاتة لا إلى اليمين ولا إلى الشمال حتى أصبح كل ما لا يسير حسب السكة مجرد هراء وضياع للوقت، رغم تنبيه الأساتذة وتوجيهي نحو قراءات أخرى، " كاميل زولا" و" لبول فاليري" و" بالزاك" و" هيجو" و….

هكذا كان يسبح في التفكير وهو جالس على الكرسي الجلدي البرتقالي بمقصورة عربة قطار من الدرجة الثانية متوجها نحو الشمال قاصدا مدينة طنجة، " المدينة المومس" منذ قرون.

في المقصورة المكيفة يعيد اكتشاف ضبابية كتاب " أولاد جارتنا" الذي سبب متاعب لمبدعه المتواضع الحائز على " النوبل" يعيد مرافقته في مسيرته عبر تاريخ البشرية منذ الأزل، وبالتحديد منذ نزول الكلمة الربانية إلى الأرض.

بمجرد انطلاق القطار بدأ في إعادة النظر في أحكام القيمة التي اعتاد إصدارها فيما يتعلق بقضايا قرنه دون الإحساس بتلك المتعة التي عرفها إبان اتخاذها.

بمدينة طنجة ركب الباخرة، عبر المضيق والتحق بالقطار ثانية.

عبر شبه الجزيرة الإيبيرية وعبر القطار بالحدود الإسبانية – الفرنسية لعبور فرنسا طيلة أيام وليالي.
…. يعلن المذيع عن الوصول إلى مدينة باريس، مدينة نهر " السين" يتذكر مطالعته للشاعر الفرنسي " أبو لينير " ويستحضر مناجاته لنهر: السين" الجاري تحت جسر " ميرابو".

يطل من نافذة القطار، يرى الأنوار وسيل البارزيين، أهالي عاصمة " كلوفيس" التي استهدفها الجرمانيون النورمانديون، ومسرح تصادم " الآرمانياك و" البوركونيون" المدينة التي عاينت التمزق وحروب الديانات، مهد الثورة المحولة لمسار التاريخ، شاهده الصمود ضد هجمات النازيين وغاراتهم الجوية.

….. صوت صفارة.
ينطلق القطار لعبور ما تبقى من فرنسا، يخترق الضباب.

موسيقى هادئة تنتشر نغماتها في الأجواء ، نغمات دون كلمات ، يتذكر الأغاني الشعبية وأغاني " الراي" ، يتذكر أنه مراهق كان يحب أغاني " ناس الغيوان" و" ميكري " لدرجة الجنون ، قبل اكتشافه أغاني : الشيخ إمام و " مارسيل خليفة".

القطار يدخل إلى محطة " بروكسيل" يقف ويخرج من المقصورة، يطل من النافذة يرى أنوار مدينة الازدواجية اللغوية واللوحات التشكيلية الفلاماندية.
يعود إلى مكانه يتناول سيجارة ويجلس قرب النافذة، ينتظر انطلاق القطار من جديد ليخرج ثانية من المقصورة يتوجه إلى عربة المؤخرة لرؤية السكة الحديدية ومشاهدة الأعمدة تتوارى أمام عينيه، وكلما فات عمودا أحس بأنه خطوة إضافية على مسار هروبه من واقعه.

فماذا يقولون عن هروبي هناك؟
أرجع إلى المقصورة أجد شخصا، تبدو عليه علامات المعتاد على السفر والتجوال، كهل يقارب الخمسين.

مر وقت طويل ولم ينبس بكلمة باستثناء السلام، نطق به بلغة لم أفقه منها حرفا.
ذقنه محلوق بطريقة سيئة، منديل حول عنقه، علامة جرح قديم بالشفة السفلى، يذكرني بالممثل " شارل برونسون" في حالة غضب.

من وقت لأخر يسحب قنينة خمر من كيس من ورق مقوى، يتناول رشفة ثم يعيدها لمكانها أحيانا يحك قمة رأسه كأن أمرا ما فاجأه وعندما انتبه إلى الكتاب بيدي، نظر إلي باهتمام وقال:

  هل أنت عربي ؟…. اسمح لي لأقدم لك نفسي: " كارلوس: من بلاد الباسك، عازف كمان، هل يمكنني أن أدعوك لتناول كأس معي، الكحول يدفئ البدن والقلب وكذلك الروح، مساكين هم الذين يجهلون محاسن وإيجابيات مشروبات " باكوس".

كان " كارلوس" منذ أسبوع يعمل بطعم ببروكسيل، وكانت مهنته لإطراب الزبناء، يتوجه إلى " انقرة" للقيام بنفس المهمة بمقهى هناك لقد اختار السفر على مثن القطار لكرهه للطائرة وخوفه منها.
يبدو لي كأنه مندهش بتواجده بمقصورة القطار، يئن تحت وطأة ماض ثقيل.

يتكلم ويحكي، وعيناه تتحول يمينا وشمالا، من باب المقصورة إلى النافذة، ثم من حدائه المغبر إلى موضع الحقائب فوق رأسي.

من مواليد " بلباو" هوى الموسيقى منذ نعومة أظافره، نبغ في استنطاق الكمان، عند اندلاع الحرب الأهلية غادر أبواه البلاد ولجأ إلى فرنسا كانت صدمة عميقة، ولم ينطق الفتى بكلمة طوال سنة كاملة لا بلأسبانية ولا بالفرنسية ولا بالباكستانية، وانغلق على نفسه في عالم الموسيقى والأنغام، نجح مدرس " السولفيج في علاجه بإقناعه بالمشاركة في مباراة المعهد الموسيقي، فاز فيها بالرتبة الأولى.

حين بلغ السن السابعة والعشرين فقد أمه، فعل الزمان فعلته واختطف منه إلى الأبد الإنسان الذي أحببه وأحبه، كانت الصدمة قوية لدرجة هجران الكمان وهجر الأصدقاء، وهام في الأرض، يسيح من مدينة إلى أخرى، بين فرنسا وإسبانيا محاولا البحث عن أصوله، لاشيء لم يعثر على أثر لأحد من دويه أحس كأنه فطم قبل الأوان، اكتشف أنه شاد جنسيا ولم يقو على التصريح به، يضطر للرجوع إلى مكانه لضمان عيشه اليومي عاملا في ملهى ليلى.

الخمر والسهر بنكهاته بمرور الأيام، لم يعد يحيى إلا ليلا، أخذ عهدا على نفسه أن لا يعزف الألحان الكلاسيكية واعتبر ذلك بمثابة معاقبة ذاتية جزءا له لتوصيل كمانه إلى الحضيض باستعماله في "صندوق ليلى" من الدرجة الثالثة.
يغفو أحيانا ويستيقظ أخرى لكنه يستمر في سرد مجرى حياته.
في سن الخمسين يكون المرء قد شرع في منحى النهاية الحتمية.
قال بمغص:
 كان علي أن أموت في العشرينات من عمري مثل " جيمس دين" أو في سن العشرين من عمري مثل "جيمس دين" لكني لم أكن قد صرحت بعد بما لدي للعالم. و عندما أحسست بفوات الأوان لجأت الى الخمر و لم يعد أحد يعيرني أي اهتمام. فإذا وقع لك ما وقع لي فأنصحك أن تضع حدا لحياتك.

صوت المذيع يعلن، القطار في طريقه إلى محطة " روتردام"

أطل من النافذة، جو غانم، ضباب في كل مكان، الأضواء لا تكاد تبين.

في هذه المدينة القابعة، على بعد كيلومترات معدودة عن البحر الشيء الذي لم يحرمها من أن تكون ميناء الفحم والبترول، المدينة التي تحدث الحرب وأعادت بناء نفسها رغم الدمار للاحتفاظ بمكانها على خريطة أوربا.

…. انطلق القطار، استيقظ " كارلوس" تناول القنينة رشف رشفات ابتسم لي وبدأ يتكلم.

عندما علمت أن معلمي العجوز الذي لقنني السولفيج، يعيش " بأنقرة" وقررت الإلحاق به لانتظار الموت سويا، سأحاول العثور عليه هناك مهما كلفني المر من بحث وتعب ولا محالة أنني ملاقيه بعد ذلك يمكن أن أتقبل الموت بصدر رحب.

….. أنظر من النافذة، أشجار وضيعات تنساب بسرعة فائقة لا يقوى المرء من جرائها على تمييز الأشكال إلى " كارلوس" وأكلمه عن " ألبير لامو" ( أديب فرنسي) موضحا له أنه مات شابا كذلك في سن الثلاثين ونيف على إثر حادثة سير مروعة، كأن حتفه كان جسدا لفلسفة العبث التي اعتقد بها، لقد رغب هو كذلك في البحث عن أصوله وعن الأرض التي ولد بها رغم أنها لم تعد جزء من وطنه الأصلي، وهذا ما كان ينوي تبيانه في مؤلفه، " الرجل الأول" الذي ظل مشروع مسودة، نشر بعد موته رغم النواقص العالقة به.
…. تذكر أيام مطالعته لكتاب " الرجل الأول" واعتكافه على التهامه التهاما لما تضمنه من تشابه وتطابق مسار حياته الخاصة، فقر ويتم ورحيل وصمود في الدراسة والعيش في انتظار الغد المغاير عن اليوم والبارحة.

يتململ " كارلوس" بمكانه وينطق:
  آه…. كل ما هو موجود وما هو غير موجود.
  عبث…. كل شيء عبث في عبث في عبث….
…… إننا في خضم حلم بليد، مشاهد وصور ولحظات متتالية، بسرعة دون أن نقوى على الربط فيما بينها.
أنت وأنا، في هذه المقصورة بهذا القطار السائر بدون توقف، ألسنا مجرد حلم سيذوب بتوقف القطار عن المسير؟
  قرب، سأبوح لك بسر، ‘ن الحقيقة لا وجود لها، كما أن الاتحاد السوفيتي لم يوجد يوما رغم آلاف الكيلومترات المربعة المنصوص عليها بالخريطة أنه كان موجودا فقط في دماغ " لينين" و"ستالين" فما هو موجود فعلا هو الإنسان التواق للحرية والحقيقة، رغم أن الحقيقة لا وجود لها.
 
…. يقف " كارلوس" يتناول القنينة يرشف رشفات ويتوجه إلى باب المقصورة ويغيب على أنظاري ناطقا بكلمات لا أفهم معناها، لكني علمت أنها باللهجة الباسكية، عندما عاد وقال:
  إنني منذ قليل أتلفظ بكلمات باسكية، هذه اللهجة التي لم أنطق بكلمة منها منذ عاينت موت أمي.
في هذه اللحظة أحسست أن هذا الغريب يشبهني إلى حد ما، كل الحب الذي أكنه لأمي استحضرته على التو، لم تكن تشكو من أي مرض ظاهر، لكن البسمة هجرت ثغرها، كانت ترى الوجود مجرد لحظة سيئة علينا المرور بها، لهذا كانت لا تبخل بجهد لأتمكن من متابعة دراستي وأتفوق فيها.
في هذه المقصورة، أستحضر مشاهد من ذكريات ماضية، تنبثق من الذاكرة وتمر أمام عيني بسرعة فائقة، وقد ساهم " كارلوس" في خلخلة مخزون ذكرياتي لتطفوا على السطح، كنت دائما في حاجة للغير للتمكن من استحضار الذكريات السارة منها والمأساوية.

تستوقفني ذكرى وفاة أمي بكل دقائقها.
… ليلة من ليالي رمضان صرخت جدتي:
  هيا انهض لتودع أمك.
أسرعت إلى غرفة أمي، رأيتها تنظر إلي بحنان، جلست بالقرب منها منقبض القلب، منهار القوى أمسكت بيدها، قبلتها بحرارة ونظرت إلى وجهها.

تبسمت لي بصعوبة، وألم حركت شفتاها كأنها تود قول شيء لكن رأسها مال جانبا وتراخت يدها، ناديتها، ثم ناديتها، ولكنها لم تجب لاهي أجابت ولا هي تحركت، بل رقدت إلى الأبد وكانت النهاية وظل الحزن ينحرني.

أصبح السفر غير محتمل والقطار يدخل إلى " موينخ" مدينة الجعة ومسرح العملية الفدائية لمناضلي " أيلول الأسود" ضد العثة الأولمبية الإسرائيلية في السبعينات، مدينة " هونري قلب الأسد" ( "دوق" الساكن بألمانيا) ومقر ميلاد اتفاقية تقسيم تشيكو سلوفاكيا وانطلاقة النوايا التوسعية الهتلرية.

صفحات طويلة من اليأس والملل طويت وأخرى في طور الإعداد والتبلور.

هروب من الواقع والالتقاء بكارلوس الباسكي الذي يقصد اتجاها معاكسا لاتجاه البحث عن أصله زرع بذرة لينظر نموها لتصبح له جذور يتشبث بها.

كنت لا أرضى بأمي لأنها لا تعرف " ألبر كامو" و" زولا" و" بروست"و….و…. لكنني كنت فخورا بها لأنها كانت تعرف أكثر منهم بفضل قساوة الحياة ومرارتها.

كانت متواضعة إلى حد عدم مساءلتي عن الرسائل التي كنت أتوصل بها، وما أكثرها، من الداخل والخارج.

كانت تقول لي دائما: " كل ما يهمني يا ولدي هو نجاحك في الدراسة، وليكن ما يكون، آمرك أن تكون سعيدا، هذا أمر لا رجعة فيه".

وتبتسم خلافا لعادتها، كلما قالت لي ذلك.
…أمي المسكينة …. إن السعادة ليست مرتبطة بالحصول على شهادة، كنت أسعد عندما كنت أرافق أبي إلى سينما الملكي كل أحد، المشهد يمتلكني كأنني أعاين صورة فوتوغرافية بالألوان.

وكانت كذلك جدتي، والدة أمي، فكيف أنسى حضورها الدائم بجانبي بعد وفاة ابنتها الوحيدة، محاولة سد الثغرة.

يتكلم " كارلوس" ثم ينام نوما ثقيلا، وبمجرد أن يستيقظ يتناول القنينة يشرب جرعة، ويشرع في الكلام، يتحدث عن أي شيء عن نفسه، عن الريح، عن الثلج، عن الشمس، عن القمر….

لا أعيره أي اهتمام، كلامه يتناهى إلى أذني كنغمات موسيقى غريبة حادة لكن محبوبة من آن لآخر نتوجه معا إلى المقصف يتناول جعة باردة، أتناول شايا أسود ساخنا، ثم نعود إلى المقصورة.
…. الأعمدة والأشجار، الهضاب والجبال لا تتوقف على انسياب وراء النافذة.

في صباح باكر ليوم لم أعد أذكر ترتيبه الكرونولوجي، يدخل القطار إلى " فيينا" أخت " برلين" في التقسيم وتجسيد دل الانهزام في الحرب الكونية، وقفة ستدوم ساعتين.

ينزل " كارلوس" من العربة ويتجه إلى باب المحطة لمحاولة العثور على بائع خمور قريب لتعويض القنينة التي أتى على آخر ها منذ قليل يعود منتصرا، إلا أن فرحته لم تدم طويلا.

شابة تلج المقصورة وتجلس قرب النافذة يقول لها:
  يا فتاة إنك لست في داركم هنا…..
ترفع كتفيها…..
  تتكلم الإنجليزية…………
  نعم أتكلمها وكذلك الفرنسية والإسبانية والروسية و…..
  أهلا وما الأمر؟ هاهو مكانك…..
تغير مكانها شاعرة بالحرج، مجيئها أفقدنا حريتنا في المقصورة، فرضت نفسها علينا لحرماننا من وحدتنا التي أرسيت على تصرفات وطريقة لتبادل الحديث دون الاضطرار لاختيار الكلمات أو العبارات.
لم يمد لها أحدنا أية مساعدة وهي تحاول رفع حقيبتها لوضعها بالمكان المخصص للأمتعة، تنجح في بلوغ هدفها بمشقة، وتقول:
 " أوكي" أوكي" اسمي « دونيس"……..
أبتسم لأحافظ على اللياقة المتعارف عليها لاسيما في البقعة الأرضية التي نقطعها حاليا أما " كارلوس" فكر نظره على حدائها الغريب شكلا ولونا ومظهرا.

" دونيس" طالبة علم اجتماع، متوجهة إلى تركيا، ثم إلى " بانكوك".

لا يمكن أن تكون هناك نقطة تمارس بيننا وبين " دونيس" فأنا و " كارلوس" نسافر للهروب، للنسيان، لمحو الصور والمشاهد المحفورة بالذاكرة.

أما " دونيس" فهدفها مخالف تماما، إنها ترغب في اكتشاف العالم ومواجهة واقع جديد ومعايشة تجارب جديدة.

ترتدي سروالا من نوع " جين" مثقوبا وقميص صوفي يبدي نصف صدرها.

بالنسبة لرجل لم يستقر نظره على جسد أنثى لمدة طويلة منذ أيام، أحس بإحساس القلق والرعشة رفقة أنثى يانعة في نفس المقصورة، فضاء ضيق يغري إلى حد عدم التمكن من كبح الرغبة الشهوانية.

تفتح " دونيس" مجلة نسوية وتتظاهر بمطالعتها من حين لآخر، أصوب نظرة نحوها.
فجأة ينفجر " كارلوس " قائلا:

  إلهي، إن هذه الفتاة، بشر كالآخرين، ستشرب معنا نخبا، هكذا ستعود المقصورة عالما واحدا، يجمعنا نحن الثلاثة، بغض النظر عن السن والاهتمام والغاية وفلسفة الحياة.

دفعة واحدة يخيم جو من الروح، دون حرج ولا تصنع تتناول " دونيس" القنينة من يد " كارلوس" وتوجهها إلى فمها، تعيد الكرة تمدها إلي، ثم أردها إلى صاحبها.

شعرها الأسود منسدل على كتفها، يحيط بوجه مستدير، نظرة مترددة بين البراءة والشقاوة، والباقي أنثوي دون ميزة خاصة.

ملكتني رغبة في لمس خدودها بظهر يدي اليمنى، لكنني لم لأفعل لأن بوسعها أن تعضني.

يفعل الخمر فعلته، تهتم " دونيس" أكثر بكارلوس " هكذا النساء يتجهن دائما إلى الأصعب، لكن من حسن الحظ لا يستحسن " كارلوس" النساء خوفا من اكتشافهن ميولا ته " السادومية " يتجنبها بلباقة لكنها أصرت على محاصرته يقوم ينحني لتحيتها ويشرع في رقص الطانكو مع ترديد أنغام إسبانية، ثم يمد يديه إلى " دونيس" داعيا إياها إلى الرقص معه، يخرجا من المقصورة ويستمران في الرقص، يتجمع المسافرون في الممر فيضاف إليهما زوج أمريكي ويبدأ التصفيق وتتسع المشاركة إلى حد مساهمة كل ركاب العربة تصفيفا أو إنشادا.

ولم يتوقف الرقص والتصفيق إلا عند سماع المذيع يعلن دخول القطار إلى مدينة " زاغريب.

يتحرك القطار من جديد، ونوجه إلى عربة المطعم للتزود بمشروب حلال لأنني رفضت تناول الخمر، حتى يتسنى لي مشاركتهما في عملية " تشين – تشين".

….. رجل طويل القامة، بلحية كثيفة وصوت حاد، يمسك بنادل قصير القامة ويجذبه إليه متلفظا بكلمات لم أفقه معناها، موجهة لشابتين نادلتين كانتا تعدان طاولات الأكل استعدادا لتقديم وجبة العشاء لركاب الدرجة الأولى.

أضخم الفتاتين، قوقازية الأصل، تطوعت لترجمة ما نطق به الطباخ:
" يقلن أن هذا النادل من أهل " سادوم" لأنه لم يرد إشباع الرغبات الشهوانية للعاملات معه"
تضيف القوقازية:
  ألسنة ثعابين، إنهم سيلسعونني لأنهم لاحظوا أنني أكلمكم أنتم الأجانب …. إنهم لا يهمونني في شيء، فليقولوا ما يبدو لهم.
 
نظر صاحب اللحية إلى القوقازية ووجه إليها كلمات، وعلامات الغضب بادية على محياه، ثم حول نظره عنها بصمت.

تقترب منا القوقازية وتهمس:
  إنني أحب الأمريكان، لقد ربحنا الحرب معا.
تصفيق صاخب ينفجر في عربة المطعم.

نغادر المكان ونعود إلى مقصورتنا، في طريقنا تقذفني " دونيس" بنظرات غريبة، وبمجرد جلوسنا تبتسم لي طويلا.

مع قدوم الليل، استلقى كل واحد منا في الاستواء حتى يتمكن ترجي اصطياد ساعات من النوم.
تتمثل أمامي صورة عائشة، ثم صورة أمي وهي تحتضر، يتملكني حزن عميق، ليس لفقدانهما ولكن لعدم قدرتي على تحقيق آمالهما.

تذكرت أجواء الدرب العتيق، وبنت الخراز والشقراء بنت زنيبر، فالأولى من عائلة فقيرة، من ثوبنا كما يقال، أم الثانية من عائلة أندلسية الأصل، غنية، في نفس السن، بنفس الطموحات، كنت أكن في قلب الصبي الذي كنته آنذاك حبهما بنفس القدر ونفس الدرجة ونفس اللهفة، لقد كانت بذرة حب حقيقية صادقة إلا أنها لم تلق التربة الخصبة والمناخ المناسب للترعرع والنمو.

……. لم يكلف " كارلوس" عن الكلام، يحكي " لدونيس" ما سبق أن حكى لي، رغم انه غير في الأوصاف، وفي الإحساسات، وفي الذكريات لكنه حافظ على اللب.
…. تملكني إحساس دائم، كلما غادر القطار محطة شعرت بجلدي يضيق حولي، وكلما ضاق مليا تحددت دقة استحضاري للذكريات متمثلة في صور ومشاهد أمام عيناي.
تنظر إلي " دونيس" باهتمام وتقول:
  هل أيقظك " كارلوس" بثرثرته؟
تستمر في النظر إلي، ألاحظ أن عينيها حمراء على وشك الانغلاق من شدة النوم والإرهاق، شعرها مبعثر يذكرني بليالي التقلب باستمرار على فراش دون الدود بلحظة نوم وانفلات من أجواء الوحدة.
…. الحياة مستمرة والقطار يواصل سيره ليل نهار، مخترقا حاليا ضواحي " بلغراد" مدينة الضفة اليسرى لنهر " لاساف".

7

أستيقظ فلم أر " كارلوس" ولا متاعه، و" دونيس" ترشف من قنينة " شامبانيا" على وشك الانتهاء.
رغبت في تقبيلها لكنني تمالكت نفسي.

لاحظت اضطرابي، ابتسمت والتفتت إلى النافذة، أتتبعها بعيني إلا أنها ظلت ترمي بصرها نحو الأفق المتحرك، أغادر المقصورة واتركها هناك.

أعود، أجدها بنفس المكان.

  ذهب " كارلوس" دون أن أودعه. أقول لها ببله.
 
تردف"
  بالنسبة لشاب في سنك تبدو انك " لست في صحتك" كما يقال:
لقد قرأت أفكاري وشعرت أنني قلق.
  كيف عرفت ذلك؟
  إنه لا يعرف ولكن يستشعر به، إنه إحساس وليست معرفة، والفرق شاسع بينهما إنك لم تنطق إلا بكلمات وعبارات عامة فضفاضة منذ قدمت إلى المقصورة يبدو لي أنك لست واثقا من نفسك.
  كل شيء ممكن….
  فلا يبدو عليك أنك خجول…. عن لم تكف عن النظر إلي بطرفي عين.
  إنك جميلة ، وأنا هنا في هذه المقصورة ، في هذا الفضاء الضيق والمناظر الطبيعية المختلفة تنساب أمامي عبر النافذة…..
  لا تعتذر…. أنا مازلت لم أعرف الشيء الكثير عن هذه الحياة …. عادي جدا أن يتوق الإنسان للتفريج على نفسه، إنما…..

….. إن سذاجتها أرغمتني على الابتسام، واستغلتها طريقة لاستفزازي، لذا قاطعتها قائلا:
  كلما عرفنا كلما اكتشفنا أننا لا نعرف شيئا، نريد إضافة لبنة ونفاجأ بوقوع البناء كاملا، ها أنا ذا منذ أيام وأنا بهذا القطار، كلما فات يوما وقطعت مسافة أيقنت أنني لم أكن أعرف ما كنت أظن معرفته، لا أدري لماذا ؟
 
استمر حديثنا ساعة أو ساعتين، كأننا نلعب " كرة الطاولة" على ظهر باخرة فاجأتها عاصفة عارمة في قاع البحر.

تحاصرني بعدة أسئلة خاصة وعامة، أجيبها دون التمكن من إقناعها، يسود صمت لمدة طويلة، ألاحظ بثبات حركاتها وسكناتها.

تستلقي على بطنها وتضع معطف " كشمير" على رأسها وتمسك جانبا منه كأنها تحتضن دمية، تطوي ساقيها الطوال وتستسلم للنوم.

التفت إلى النافذة لمعاينة المناظر الطبيعية جبال بقممها البيضاء، سهول وهضاب، فضاء من الأخضر، الأخضر دون سواه، الخضرة في كل مكان.

أتذكر عائشة وهي تقول لي أنها تريد أن تذوب بين ذراعي، أن تختفي خدمة لرغباتي.

تقوم " دونيس" وتستقر في جلستها، تنهض تتوجه نحوي وتطبع قلبه خفيفة على جبيني، وتغادر المقصورة، تاركة رائحة عطرة وراءها.

بعد برهة تعود وتقفل باب المقصورة خلفها، تنزل ستائر النافذة، تحل رباط شعرها وتنتصب أمامي واضعة يديها على خصرها كأنها تستعد لمعركة.

…. تعود بي الذاكرة إلى طفولتي بالدرب العتيق وتتمثل أمامي صورة القصرية بنت الجيران.

…. قوية البنية، ضخمة الهيكل مليئة الجسم، غليظة الردفين، لكنها دقيقة القسمات، جميلة الوجه وحلوة الابتسامة، كانت تكبرني بعدة سنوات ننظر باهتمام إلى قطتها " سوسو".

تعود " دونيس" إلى صوابها وخرج من الحلم راضية مرضية بعد أن أزلقتني في تركيبات شيطانية ذوابية.

قررتا التوقف بمدينة " صوفيا" ليومين أو ثلاثة بعد مغادرة المحطة توجهنا إلى الضاحية للبحث عن فندق رخيص، حسب معلومات توصلت بها، " دونيس" من أصدقاء لها قدموا قبلها إلى هذه المدينة.

…. استطعنا الحصول على غرفة بجانب أخرى مقيم بها سويسريان وألمانيان، علينا اقتسام الحمام معهم.

نتكلم حتى الفجر، كل واحد منا على سريره، تحد ثني " دونيس" بهدوء وبصوت منخفضض يهدهد فؤادي، تكلمني عن أبيها الذي فقدته، عن الحب، ذلك الحب الذي قتله الطلاق في قلب فتاة صغيرة، عن مغامرتها الليلية، عن أمها، لم تكف عن الحديث حتى حل الصباح، علمت الكثير عنها، عن أبيها وأمها عن حياتها ووسطها ومشكلها ومآسيها.

عدة نقط تمارس بيني وبينها، أمل ميئوس منه انتظار أكثر من اللازم، هروب من واقع معاش، رغبة جامحة في وضع اليد بصيص نور.

أنداك تطفو ذكرياتي مع عائشة على السطح.

….. شاطئ الرمال الذهبية …. أول فسحة رفقة عائشة …. كان يوما فردوسيا …. كنا نود التفسح إلا أننا بقينا جالسين على الرمال نتحدث عن الغد.

عائشة …. دونيس كم هما متشابهين في نظري، البارحة واليوم.

نقضي الأيام الثلاثة في التعرف على المدينة، توطدت علاقتنا و"اسطامبول" قريبة آخر مطاف " دونيس" ستتوقف بها وسأتابع المسير، رغبت في التخلي، فعدم ذهابي إلى أفغانستان لن يؤثر في شيء فلم أغادر بلادي إلا قصد الهروب من واقع، فما علي إلا استغلال الفرصة المتراقصة أمامي.
تتمسك " دونيس" بذراعي ونواصل السير نحو محطة القطار.

تنظر إلي بعينين لامعتين وتقول:
  وإذا رافقتك في رحلتك حتى النهاية ؟

… يقال أن المرأة هي نصف المرء، والمرء بدونها يظل نصفا، ليس كاملا، فكل نصف يبحث، متحديا الصعوبات واليأس والوهن، عن نصفه الآخر لاستكمال الوحدة.

فإذا قذفت الصدفة أو القدر بنصف على طريق النصف الآخر، الجزء المكمل له، يقع ما يسمى ب " نظرة الرعد" و " الضربة القاضية" حسب ما اتفق عليه أهل الحب والهوى ومشاكل القلوب.

هربت من واقعي، وفي طريقي سلطت على الأقدار " دونيس" في لحظة تزاحم التساؤلات.
  الحرب، المقاومة…. كل هذا لا يناسبك. قلتها وهي تجذبني إليها بقوة، ثم تضيف.
  أنا لست طفلة، وعندي شهادة الإسعافات الأولية، يمكنني أن أنفعهم هناك.
  في القطار نستقر بمقصورة فارغة لنتناجى في صمت، في الممر طفلان بأعين زرقاء يحملقان فينا خلسة، تتضامن الظروف معنا، يغيب الصغيران ونطلق القطار، تغلفنا حرارة غريبة وتقذف بنا في عالم سريالي.

…. الكل يعرف أن الفرنسيين يضطجعون في القطار عندما يكون الآخرون يطالعون كتابا أو جريدة أو يتبادلون أطراف حديث.

من حين لآخر، يبدو لنا وجه طفل ينظر عبر بوابة المقصورة أو امرأة عجوز، كأنهم يريدون الاطمئنان علينا دون إزعاجنا، يضحكون أو يبتسمون ولكن بمجاملة وليس تهكما أو حقدا، لم بر ولو مرة وجه رجل يطل علينا، سوى وجوه أطفال أو نساء.

تبادر " دونيس" قائلة:
  لم تحبني، هل توافق على مرافقتي لك ؟
  إذ كان الأمر بيدي، فأنا أريد طبعا، لكن الأمر ليس كذلك، بالإضافة أن هناك مشكل القضية والعقلية والعقيدة، ولا تنسين الجنس فهو حاسم بالنسبة إليهم.

… يحرق القطار المراحل ويقترب من " إسطامبول" وباقترابه يتكسر الحلم.

مدينة البوسفور ترهبني بحر "ا لمرمرة" يتمثل أمامي كأنه يحرس مدينة قرن الذهب، موقع تلامس القارتين، حفيدة القسطنطينية ستقتل حلمي الجنيني لا محالة.

تستقبلنا " إسطامبول " نحو حار يفوق المعتاد جماعات كبيرة تنتظر المسافرين على الرصيف.
…. نركب سيارة أجرة، ونتوجه، إلى مقهى سلمني " أفغان" عنوانها، علي مقابلته غدا صباحا.

نبيت بفندق بالمدينة القديمة، كلما تقدم الليل زاد قلقي، هل هو التعب؟ أم الخوف من فقدان سعادة عابرة تنزلق بين الأصابع لتفلت إلى الأبد.؟

إحساس بالقيء يمتلكني، كنت أود مكالمة " دونيس" عن عائشة التي شعرت بوجودها العابر يملأ الغرفة.

ننام كل واحد في سريره.

في الصباح لم أستيقظ مبكرا، أترك " دونيس" في الغرفة وأتوجه إلى المقهى للقاء " أفغان".
…. استقر قرب طاولة كان يجلس بها جماعة من الشبان ذوي الشعور الطويلة وحلاقات غريبة يتناولون فطورا إنجليزيا كاملا متكاملا اذان الظهر يأتي متقطعا من بعيد، وما هي إلا لحظات ويحضر " أفغان" بقامته الطويلة وبنيته الرياضية، نتصافح ونتبادل أطراف حديث حول السفر، يتناول من جيبه ويمدها إلي.

بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين.

أيها المجاهد، المؤمن بالله وكتبه ولائكته ورسله، وقدره حلوه ومره، أنت مقبل على صفقة الخلاص، بيع الدنيا في سبيل الآخرة لتكون من أصحاب النعيم بجواز النبيئين والصديقين، جزءا لك للجهاد من أجل لإعلاء كلمة الحق، هنيئا لك أن هداك الله إلى هذا الطريق.

انتظرني حتى أنهيت قراءة الخطاب فقال:
  إنك ستتوجه إلى مخيم للاجئين في الحدود الأفغانية، الباكستانية، إحدى المخيمات التي تحتضن ضحايا العدوان السوفيتي، كل يوم يتكاثر فيه عدد الجرحى والأطفال الجائعين ستعمل هناك لمساعدة الممرضين في انتظار التدريب للالتحاق بمجموعة من مجموعات المجاهدين.

وبعد صمت قصير، يضيف:
  عليك ركوب القطار الذاهب إلى " باكو"( عاصمة جمهورية أزربايدجان) عبر " أنقرة" سأنتظرك هناك لعبور بحر " القزوين " معا تجنبت توديع " دونيس" وتوجهت إلى المحطة لركوب القطار المتوجه إلى " أنقرة" ومن ثمة إلى " باكو" في "الأزربايدجان" المدينة القابعة على ضفاف بحر " القزوين" في انتظار فناء مخزون ذهبها الأسود، عاصمة " الأزري"( سكان الأزرييدجان (80%) المتشبتين بإسلامهم.

…….. أجد " أفغان" مع جماعة من الشبان على رصيف ميناء " باكو"، وبعد السلام والتعارف والسؤال عن الحال والأحوال نمتطي جميعا باخرة لعبور بحر " القزوين" أكبر بحر داخلي وأملحها.
نصل ليلا إلى " أشخا باد" جوهرة " التركمنيستان" المتخلص من الأخطبوط السوفيتي منذ سنوات.

قطعنا البلاد في اتجاه الجنوب نحو أفغانستان على ظهر الدواب تارة والشاحنات أخرى حسب المتوفر، وحسب صعوبة الطرق والمسالك قطعنا سلسلة " هندوكوش" الجبلية، عبر أودية عميقة ومسالك وعرة.

عاينت " أموداريا" و " هلمادا" والأراضي القاحلة الحجرية، وتحملت المناخ القاري الجاف، وارتجلت أرض الغزوات والاحتلالات، بلاد الرحل وملتقى الجماعات الاثنية والبقع المسقية بدماء المجاهدين، والشاهدة على عبور ملايين اللاجئين نحو الباكستان وإيران، شاركت المطعم والمشروب والملبس مع " الباشتون" ( جماعية إثنية تقطن أفغانستان والباكستان)
والتادجيك( سكان أفغانستان من أصل إيراني) وحاولت تعلم بعض كلمات " الداري" ( لهجة فارسية مستعملة في أفغانستان. و" الباتشو" لكن لم أتوصل.

من جيل لآخر، من قرية لأخرى لمست قدماي مواقع ظلت شاهدة كمحطات تاريخية، معبرة عن صد الأفغان لغزوات الفرس قبل الميلاد ولإسكندر، وعن احتضان النور الرباني واعتناق الإسلام منذ القرن الثامن ولمقاومة " جانسيس خان" ( لغة الباشتون) والإنجليز.

أستحضر ما قرأته عن البلاد في الكتب والمجلات والجرائد، وما سمعته من أخبار وتعاليق وآراء منذ اندلاع الجهاد: الإطاحة بالنظام الملكي في بداية السبعينات وإقامة الجمهورية، كما تذكرت بعض الأسماء: الرئيس: طراقي بابراك كارمال، نجيب الله، برهان الله رباني …. تمثلت أمامي صورة دخول الجيش الأحمر " لكابول" واندلاع المقاومة الشعبية من الباكستان ومناظر ملايين اللاجئين وحدهم الإسلام وتنظموا تحت لوائه، وحدتهم العقيدة لصد الغزاة.

أيام وليالي ، قطعنا فيها أفغانستان مسرح المقاومة الضارية لبلوغ الحدود والوصول إلى إحدى المخيمات.

8

المخيم الذي أقمنا فيه يستقبل يوميا كل المآسي البشرية، آلاف ضحايا العدوان ينتهي بهم المطاف هذا منهكي القوى، شديدي الكفر بما يروج عن الروح الإنسانية والتسامح والسلم والسلام عبر العالم، أشباح وأجزاء أشباح تنتظر الفناء.

مخيم بالاسم، مقبرة في الواقع رغم غياب القبور لا علم لعالم به.

الجميع يقتصد حتى في حركاته وتنهيداته ليقوى على الانتظار، انتظار الفرج.

حزن وشقاء ومآسي من لا يمكنهم العودة إلى بلادهم ولا أمل لهم للتوجه إلى مكان آخر، كأنهم يعيشون مع إيقاف التنفيذ، نقطة اللاعودة، ولم يبق إلا الامتثال للبقاء المؤقت وإطالة مدته دون النظر إلى الغد ودون طرح أي سؤال، ولا أحد يمكنه الإجابة.

خيام متلاشية ووفود اللاجئين واردة كل يوم تساهم في توسيع مدى المقبرة بلا قبور، عائلات وجماعات تفترش الثرى، صراخ الأطفال والمعطوبين، هو العلامة للتعبير عن استمرار الحياة في عالم الأشباح الذي يسود المخيم.

شعب ثار ضد الظلم، وضد إقبار الدات وقتل الروح لنصرة المادة، تحمل الصعاب والمآسي ولا زال.
مئات من البشر تنتظر، أكثرهم أنهكهم المرض والجوع، بعضهم ظل عفيفا، حر النفس لكن الأغلبية تتسول، تطلب حاجياتها الطعامية والمعنوية والكل في حالة انتظار، انتظار الماء، انتظار الطعام، انتظار الدواء، انتظار الفرج.

كل صباح تعلق صور أطفال من مختلف العمار في طور البحث عن عائلاتهم ودويهم فتتجمهر النساء حولها للتعرف عليها، لكن دائما علامات الأسى والحزن تظل بادية على الوجوه حتى خيل لي أن أحدا لم يسبق أن عثر على أحد، وأن أحدا لن يجد أحدا.

الحزن والألم والأسى في صمت، بمجيء هنا وبتطوعي يخيل لي أنني أشارك الأفغانيين ألآمهم كمساعدة مني للدفاع عن البقاء بكرامة تامة غير ناقصة.

وجدت هناك "عبود" الجزائري الذي فقد عائلته بكاملها في الزلزال، و "فاروق" العراقي الطبيب الذي لم يتمكن من فتح عيادة في منطقة نائية.

كل شيء ناقص في المخيم، الدواء والطعام والأغطية والملابس، رغم كل ما نسمع عبر القنوات الفضائية عن جميع المساعدات والتبرعات لدعم المجاهدين الأفغان.

متطوعون من مختلف البلدان والجنسيات ليس لديهم لا الوقت ولا الرغبة في الحديث فيما بينهم، صمت مفروض من جراء المواجهة اليومية للمآسي والأحزان.

كنت أساعد الممرضين، أقوم بمعيتهم بكل الأعمال المطلوبة، لم نكن نتكلم إلا فيما نحن مكلفين به من عمل ومهام.

في الليل والنهار، كان لابد ولا مناص من حرب ضروس ضد البعوض والناموس، إبان العمل والأكل والنوم، لم يكن يخلصني من لسعاته إلا التعب والإجهاد إلى درجة فقدان القدرة على الإحساس.

يوم الجمعة، في الزوال، تصل جماعة من المجاهدين حاملين شابا في حالة لم يسبق أن رأيت أسوأ منها.

لم يكن بين الطاقم الطبي إلا جراح واحد اضطر لمغادرة المخيم لبعض الأيام.
وضع الجريح على سرير، حضر الطبيب والممرضين والمساعدين وشرع الجميع في إنقاذه حسب الإمكان والمستطاع.

أغلبنا تعب اليوم قبل الأوان، لقد ساهمنا منذ قليل في إسعاف الطفل "برهان" ضحية القصف السوفيتي، لكنه فقد الحياة، لقد فقد أطرافه العليا والسفلى ولم نتمكن من إيقاف النزيف رغم الجهود والمحاولات، وها هو شاب آخر في وضعية سيئة، إصابات في جهازه التناسلي وإصابات عديدة بالمصارين وثقب في الطيحان، وكلما حاولنا إيقاف النزيف من ثقب تكاثر من آخر.

أكثر من خمسة ساعات من المثابرة والمجاهدة لم نتمكن من إنقاذ الشاب.

لم ينظر أي منا إلى الأخر، لكننا طلبنا جميعا من الطباخ إعداد الطعام وألنا في صمت لم أستطع أن أفهم كيف كنا نحس بالجوع بوقاحة، الحياة تنهزم يوما بعد يوم أماكم الموت والفناء.

أرمق الطبيب في حديث مع الأخ الأصغر للمتوفى منذ قليل، لا يتعدى الحادية عشرة، ينحني ويقبله على خديه الحمراوين ويجره نحو شجرة ضخمة يجلسان فيحدثه عن أبيه المفقود.
أتوجه إلى الشجرة أجلس بالقرب من الطفل وأقول له:
  هل تريد الذهاب معي إلى المغرب؟
يمسح دموعه، ينظر إليها مبتسما، ومنذئد لم يعد " رهاني" يفارقني، فأحسست أنني التزمت بضمان غد للطفل دون أن أضمن غذي.

……. في هذه الزاوية من ظل العالم، نجد أكبر معامل لتمركز البشر التائهين، هناك من يبحث عن أب وآخر عن أم أو أخ أو أخت أو قريب، وآخر عن تاريخ، عن جذور عن ذاكرة.

غاب " رهاني" عن أنظاري أبحث عليه في المخيم ولم أعثر له على أثر وقيل لي أنه ذهب، غادر المكان، ألج خيمتي بقلب ورأس فارغين ن كنت أجهل درجة تعلقي بالفتى، لم أع ذلك غلا بعد غيابه، كنت على وشك تناسي جروح الماضي إلا أن هذه الحادثة أدمتها من جديد.

أغادر الخيمة، أتيه وسط المخيم وحوله، امشي هنا وهناك كحيوان في قفص.

المطر يهطل، أمطار غزيرة تنزل، منذ الفجر تهاطلت أكثر فأكثر، يواصل مطوله في كل مكان حوله.

الوقت يمر كوثيرة سير حلزوني على بقعة حجرية لا أحد يتكلم عن " رهاني" أو يتفقده.

ثلاثة أشهر كأقدمية، مع شهادة المسؤولين بالتفاني في العمل وطاعة الأوامر.

  لقد قمت بمهمتك على أحسن وجه، هل مازلت مصمما على البقاء بيننا.حركت رأسي ببطء على وجه التأكيد.
  ألم تحن إلى الوطن ؟
  إن ما يربطني هذا أهم وأعظم مما يربطني ببلادي، هنا على الأقل أعيش للقيام بمهمة أما هناك ما علي فعله هو انتظار ولا شيء إلا الانتظار.

بعد صمت أضيف:
  لقد علمت أن فرقة ستتوجه إلى أفغانستان …
  هل أفهم من هذا انك ترغب في التطوع؟
لقد كانت مهمة سرية، على بعد مائة كيلومتر من الحدود ن هناك مجموعة من اللاجئين ينتظرون، يريدون الالتحاق بالمخيم، شيوخ، نساء وأطفال لا قدرة لهم لاختراق الأسلاك الشركية والتعرف على المناطق المغلولة.

تكونت مجموعة تضم طبيبا وممرضين ومساعدين ومقاتلين.

يتراجع المسؤول عن المخيم إلى الوراء ن يتفحصني أكيد أنني تغيرت، لقد فقدت خمسة أو ستة كيلو غرامات في أقل من ثلاثة أشهر، ودبغ جلدي بفعل الشمس والغبار، كما انه لا يمكن معايشة الفقر المدفع والجوع والآلام والمآسي دون أن يسود النظر ويفقد لمعانه.

يقترب مني ثانية:
 هل فكرت جيدا قبل التطوع؟ إن الجيوش السوفيتية منتشرة بالمنطقة، هل أنت مستعد للمشاركة في هذه المهمة بدون تردد؟

عندما لاحظ تشبتي بالمساهمة في العملية جعلته يوافق على تطوعي.

سنكون ثمانية، أربعة مقاتلين والطبيب وممرضين أحدهما لا يتجاوز ربيعه التاسع عشر بالإضافة إلي كمساعد.

نغادر المخيم، وبعد ساعتين نطأ أرض أفغانستان ن نسير وسط غابة كثيفة، من حين لآخر يقفز قرد هنا أو هناك، جماعات من الطيور تغرد وتشقشق، حشرات وزاحفات ترن وأخرى تزن، دفاضع تغرغر لتساهم في نظم سامفونية غابوية خاصة.

أحد المقاتلين يعرف جيدا المنطقة، يأمرنا بالرجوع على أعقابنا لتجنب مواقع ملغومة، بذور الموت والدمار مغروسة في كل مكان في انتظار من يحركها من سباتها إنه يستطيع بطلان مفعولها لكنه عليه أولا اكتشافها وهذا ما يتعذر مرارا.

على مقربة منا يثير انتباهنا إلى حصان أو بغل تناثرت أطرافه بفعل انفجار قنبلة مضادة للمصفحات ن مجموعة من النسور نجوم حول أجزاء الجيفة لازالت عالقة بأغصان شجرة.

واصلنا سيرنا رغم حلول الليل لعلمنا أن وحدة من الجيوش الأحمر تتمركز بالمنطقة.

نتوقف للاستراحة بمكان أحسست أن ظلمته تشبه الموت، تخيم في الأجواء كأخطبوط ينشر أطرافه في كل اتجاه، لم أتمكن من إغماض عيني إلا مع بزوغ الفجر.

ساعتي اليدوية تشير إلى الخامسة والنصف، صمت تام ثقيل غير معتاد، لا زقزقة طيور ولا هجيج غضون، شيء غير عادي بتاتا، لا يمكن أن يكون وراء هذه الحالة إلا وحش مفترس.

فجأة تنطلق سلسلة من الطلقات النارية السريعة ثم صراخ حاد، ويخيم صمت من جديد.

أحس بألم في ذراعي الأيسر وأرمق أحد المقاتلين يلفظ أنفاسه الأخيرة.

طلقات نارية جديدة، قطرات الدم تتساقط على وجهي، الرصاصات تنغرس على التوالي بجسد الطبيب الممدود أمامي كحاجز يقيني.

صمت ثقيل يخيم من جديد تمزقه أهات الألم الحاد – خطوات تقترب، صداها المتزايد يخترق مسمعي، أمسك بقوة على التراب المبلل بدم جثة الطبيب الحاجبة عني الرؤية.

ينتصب الجنود قرب كل جسد، طلقتان موجهتان لمحتضرين من المقاتلين، أصبح وقع الخطوات أكبر من وقع الطلقات، حداء ضخم يصطدم بخصري، أسمع كلام الجنود بوضوح دون أن أفهم منه كلمة.
كم عددهم ؟ لا أستطيع رؤيتهم، أحس بألم لا يطاق، أصرح مضطرا لأن أحد الروس داس على ذراعي المعطوب.

ينظر إلي بقسوة ويأمرني وهو يجذبني من اليد ذات الذراع المعطوب، تصطك أسناني بالألم والروس يتكلمون فيما بينهم، أيادي منرفزة تفتشني، تعتر في جيبي الداخلي على حافظة الأوراق.

كلام، لم أفهم منه إلا كلمة، مغربي…. مغربي…. يجذبني الجندي، ذراعي يؤلمني أكثر فأكثر، جسدي يرتعش ارتعاشا، لم أعد أقوى على الوقوف، أفقد وعيي.

…. حديث دائم بين الجنود، لا أفهم منه إلا كلمة، جاسوس، حاولت التكلم مع أحدهم بالفرنسية، ثم الإنجليزية، فصفعني.

على بعد خطوات تجثم جثث المقاتلين والممرضين يأمرني أحد الجنود بالجلوس ويشرع قائدهم باستنطاقي دون عنف وهو يحرك بقية " سيجارة" أمريكي بين شفتيه، تارة إلى أقصى اليمين وتارة أخرى إلى اليسار، رجل لا يفوق الأربعين.

  أنت مغربي؟
أأكد إيجابيا بتحريك رأسي قبل التلفظ بصوت خافت بكلمة، نعم.

يبتسم ابتسامة مكر وهو يقلب أوراقي الشخصية بين يديه، مضيفا:
 …. والآخرون، هل هم جواسيس الأمريكان، عملاء الإمبريالية؟
  لا ليسو عملاء، إنهم متطوعون في إطار الأعمال الإنسانية لا غير….
  يبصق جانبا ويعيد:
  عملاء، جواسيس…..

لمحاولة إقناعه أشرت إلى حقيبتي العامرة بالأدوية والأدوات الطبية، يأمر القائد أحد الجنود بإحضار كل الحقائب ثم يقوم بتفتيشها، أمرا بتكبيل يدي وراء ظهري رغم الجرح المنزف بذراعي.

…. بدأنا السير، وبعد لحظة لحق بنا جنديين، تحدثا مع القائد الذي سبهما قبل إتمام كلامهما فهمت أن أحد رفاقي لم يمت ولاد بالفرار، أنظر إلى الوراء فلم أر إلا ست جثت عوض سبعة تساقطت الدموع من عيني، لم أتعرف على الذي فلت من قبضة الروس، لكن كنت أود أن يجري، يجري وأن لا يتوقف عن الركض حتى يبلغ المخيم لإخبار المجاهدين.

أفكر في نفسي، في بدني، في ورطتي، يأمر القائد الجنود بجمع الحطب وإضرام النار وقذف الجثث بها.

يتوجه نحوي، يفك قيودي، أفكر في عائشة في " كارلوس" في " دونيس" في الآخرين، ثم في " رهاني " أراه وراء نافذة يصيح ولا من يبالي به.

يأمرني القائد بخلع ملابسي وينثر الساعة من معصمي، يقذف بالثياب والساعة إلى النار وينفجر ضاحكا.

أحس أنني لأصبحت مجرد ظل عار يدفعه الجنود أمامهم ساخرين منه، تنتشر رائحة غريبة رائحة حرق اللحم البشري.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى