الأحد ١١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم بسام الطعان

نهر الدم

الليل لآخر نجومه، كان يبوح بعتمته حين رن الجرس على غير توقع، ثم ران صمت، ثم بدأ باب السيد "عزيز" يطرق بعنف فاستيقظ، لكنه لم ينهض من سريره، وحين استمرت الطرقات بشكل سريع وقوي، أوقدت الارتجاف في مسامات جسده وألقت به في أعماق الهواجس.

بعد أن هبت روائح الخوف من كل الجهات، وتاه بين الفروض والاحتمالات، قفز من سريره قفزة واحدة وهرع نحو الباب، بينما نظراته تطوف في كل مكان من البيت. ترنح نهر من الخوف على شفتيه عندما رأى شيئاً لامعاً وبارزاً من الباب. قلبه ذهب في طريق، وجسده في طريق، في تلك اللحظة، شعر بغليان دمه وأدرك أنه داخل جهنم لا محالة. وحين تحرك ذلك الشيء اللامع , بدت نظراته محايدة، فلا تشاركه حزناً أو فرحاً، نسي أفكاره عند حافة الوجع وبدا مثل من يفقد الإحساس بأطرافه، كأنه مفصول عن العالم بسكين صدئة، كانت ثمة يد بقفازات رصاصية تخترق الباب الحديدي، وبين أصابعها رسالة مطرزة بخطوط فضية، ظل يتطلع إليها إلى أن تحركت اليد مرة أخرى في إشارة أن يتسلم الرسالة. ماذا عساه في لحظة كهذه أن يفعل سوى أن يشعل قناديل فوضاه، ويبدأ قلبه بالاستعداد للتوقف.

تنفس من بقايا روحه، بعدما لملم لهاثه المتناثر، طرز قلبه بالشجاعة وتناول الرسالة بيد راعشة، وراح ينثر من شفتيه الكلام.

ما إن نامت الرسالة في يده، حتى انسحبت اليد بهدوء والتحم الباب من جديد وكأن شيئا لم يكن، حينئذ كانت أقدامه شجرة في عاصفة، حاول أن يعود إلى غرفته لكنه لم يستطع، ودون وعي فتح الباب وراح يحدق في لهفة عارمة في غبشات الفجر الوليد، فلبسه السكون، وما صادف سوى دقات قلبه المتسارعة، ولكن أمام ناظره بدت الأرض مرآة، ونبضه في المرآة صرخة عالية.

كانت زوجته قد استيقظت بسبب الحركات التي رافقت دخوله إلى الغرفة، فسألته عن سبب خروجه، فنظر إليها بعيـنين ذابلتين ولم يجب، لأن الكلام كان قد اهترأ على شفتيه، وكيف لايهترىء وقد بدا مثل مدينة منكوبة ضربتها الأعاصير – النظرة تشكو الخوف وتريد أن تبوح ولكن اللسان عاجز.

جلس على حافة السرير وقلبه الشاحب يغني صدى نبضه النابض، خاف أن ينام على الرغم من أن النوم في أحدا قه كان يرف كالطائر السجين – هو الخوف أو إحساس بحجم الموت.

عادت زوجته إلى سباتها، وكان الفجر وقتــئذ قد نزل من على سلالمه، فشــعر بأنه طائر في قفص، حاول أن يفتحه، ولكن ثمة قوة طاغية هيمنت على أعصابه فأتلفتها، مسح عرقا نبت على رقبته وجبهته، وأخذ يتطلع إلى زوجته النائمة بجسدها الضئيل فــبدت له كتلة جامدة لا حراك فيها.

كان كلما يحس بشيء من اليقظة، ينظر من حوله , فيرى ما يشبه العتمة، وبين ما يشقي ويدمر , أخذ يصارع نفسه التي بدت مثل أغنية حزينة ويستنطقها:"هل هذا كابوس يجثم على صدري أم حقيقة؟

حاول من جديد أن يخفف من وطأة ما ألم به، ولكنه التم فجأة على أفكار ورؤى حارقة اقلعته من هدأته.

حين قرأ الرسالة التي ملأت عالمه بهسهسة الرثاء، ولم تمنحه إلا الحرقة والأوجاع المستبدة، مارس كل ما لا يخطر على بال، وبعد إن تحمل كثيرا من مرارة الخوف والكآبة، وبعدما جافاه النوم طويلا، قرر بما لا يقبل التراجـع أن يذهب إلى المخفــر. لماذا يضيف عذابا إلى العذاب؟ ألم يكف أنه لم ينم منذ يومين ولم يذق طعاما رغم توسلات زوجته التي بدت حائرة من كل تصرفاته.

خرج من البيت وهو للخلاص ينادي , تاركا قدميه تبتلعان الأرصفة، رصيفاً تلو رصيف، وفي آخر رصيف وجد نفسه أمام المخفر.

ظل يحاور وحدته ويبث شكوى ظمئه، بينما ذاكرته ما تزال تجرجر صورة الرسالة التي مضغته ثم تقيأته، وقبل أن يستعد للدخول، تساءل في داخله للمرة الأخيرة:" هل كنت نائماً أم يقظان؟ هل كان حلماً أم حقيقة؟.. لا، لا.. كنت يقظان بالفعل وها هي الرسالة معي، في جيبي.

فتح الضابط الرسالة المطرزة بخطوط فضية وقرأ بصوت مسموع:

 السيد (عزيز) ستسقط في دوائر الدم

تطلع الضابط إلى من حوله, ثم إلى السيد عزيز:

 من أين أتيت بهذه الرسالة؟

بعد نصف ساعة من الأسئلة والأجوبة، حاول الضابط أن يخرجه من المساحة السوداء التي أحكمت عليه بالخناق، وتحت تأثير احباطات متكررة، ترسخت لدى الضابط قناعة تامة بأن السيد عزيز راكض وراء أوهام، ومن العبث أن يصدق كلاماً كهذا , خاصة أنه كاتب معروف ومحبوب من الجميع.

حين لج في كيفية الخلاص قال الضابط بهدوء ولكن بنفاد صبر:

 أنتم يا معشر المثقفين ألسنتكم طويلة ولكم تصرفات غريبة، أو هي من أحد قرائك الذين يحبون المزاح.. إنها مزحة لا راحت ولا جاءت، ولكنها بالتأكيد مزحة ثقيلة فلا تهتم ولا تخف.

بعد أن غادر المخفر، كانت رسالة مماثلة من ناقد مشهور قد سلمت إلى المخفر، وبعدها رسالة أخرى من قاص وروائي فيهما عبارات مماثلة لرسالة السيد عزيز، وبعد خمسة أيام، وجد أحد الرعاة جسداً دون رأس على حافة النهر وبعض أطرافه معلقة على عصا مغروزة في الأرض، وبعد أيام أخرى وجدت جثة أخرى وبالسيناريو نفسه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى