الثلاثاء ١٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم محمد متبولي

الرسالة الأخيرة

جلس على مكتبه كالمعتاد و أخرج القلم و الأوراق من الدرج ثم بدأ يكتب:

(إلى كل من أعرفه على وجه الأرض.. اليوم بلغت الستين وأحلت إلى التقاعد، و مثلما كان اليوم هو آخر عهدى بالوظيفة و قيودها، فقد قررت أن تكون هذه الرسالة هى آخر رسالة اكتبها فى حياتي لأنهى بذلك عادة صاحبتني منذ أكثر من خمسين عاما، ففي أيام الصبا كان والدي يعنفني بشدة ويقسو على بطريقة لم أكن أقدر معها أن انطق بكلمة واحدة أمامه، كنت انتظر حتى يخلد الجميع إلى النوم ثم ادخل غرفتي و أغلق الباب على نفسي، و امسك بالورقة و القلم و اكتب له رسالة أعبر فيها عن استياءى مما فعل و حجم الألم الذي سببه لي عازما أن أضعها بجوار سريره حتى يقرأها عندما يستيقظ فى الصباح، وما إن تصل يدي إلى مقبض باب الغرفة أتراجع، و أقنع نفسي بأن ما حدث كان ساعة غضب لن تتكرر، و أضع الرسالة فى درج المكتب و فوقها بعض الأوراق حتى لا تقع فى مرمى الأنظار.

وفى سن الشباب كلما أعجبت بفتاة وقعت فى حبها، وعجز لساني عن التعبير لها عن مشاعري، فأقرر أن اكتب لها رسالة أشرح فيها شعوري نحوها، و عندما تأتى لحظة تقديم الرسالة أعود و أراجع نفسي، فهي ليست الفتاة المناسبة فهناك اختلاف كبير بيننا، و أعدل عن الفكرة و أحتفظ بالرسالة مع سابقتها.

وعندما التحقت بوظيفتي كنت موظفا مثاليا بجميع المقاييس، فلم أكن ارفع عيني فى عين رؤسائي و أنفذ ما يطلب منى بإتقان و دقة، كنت مثالا للطاعة و الانضباط، كانت كلمات الثناء و التشجيع تتفجر على السنة رؤسائي كطلقات المدفع فى المعركة، إلا أن ثمة شيئا كان ينغص على مسيرتي الوظيفية من حين لآخر، فعندما تظهر مكافأة أو ترقية كانت تذهب لغيري حتى لو كنت الأحق بها سواء بحكم اجتهادي أو اقدميتى، كنت اشعر حينها بالظلم و الحنق و أود أن ادخل لرئيسي المباشر لأعرف منه السبب وراء ذلك، و انقل له احساسى بالظلم و المرارة و ربما أتشاجر معه، ثم أقرر أن ارفع شكواي إلى اكبر المسئولين بالدولة بدلا من الصدام معه و إتاحة الفرصة لأعدائي بالاصطياد فى الماء العكر، و ما إن انتهى من كتابة الشكوى، حتى تهدأ نفسي و أشعر بأنها ستكون بلا فائدة و أنني سأحصل على حقي فى المرة القادمة، ثم احتفظ بالرسالة كالمعتاد، و أعود فى اليوم التالي لأمارس مهامي كأن شيئا لم يكن.

لن أنسى ذلك اليوم الذي قررت فيه حامى أن ترسم لي طريقة حياتي طيلة عمري، عندما فاجأتني برغبتها فى خطبة فتاة من معارفها لي، حاولت أن أقنعها أنها ليست الفتاة التي احلم بها، و انحنى سأتقدم للفتاة المناسبة فى الوقت المناسب، فباغتتني بردها، قالت: (اختر من تشاء و سوف أخطبها لك فورا)، لم استطع أن أرد عليها، قلت لها إن من ستشاركني مشوار حياتي يجب أن يكون لها مواصفات معينة و بدأ الحديث يتصاعد، فندت جميع مزاعمي ودحضها دحضا، انتهى الحديث بعد ما أصابتني نوبة معتادة من نوبات الصمت، و كالمعتاد كتبت لها كل ما لم يستطيع لساني أن ينطقه أمامها و هددتها أنها لن تراني ثانية إذا ما أصرت على ما تريد، ثم وضعت الرسالة فى الدرج و بعد أسبوع عقد قراني على من اختارت أمي.

كلما مرت الأيام كنت اشعر بان تأثيري محدودا جدا فى حياة أبنائي مقارنة بتأثير أمهم، كنت أشعر كأنني مجرد رمز للأسرة أو حتى استكمال للشكل الأسرى المعهود، كان ذلك الشعور يؤرقني كثيرا و كلما اشتد على كنت اكتب رسالة لأبى اطلب منه النصح و الإرشاد، لكن للأسف حتى لو أردت أن أرسلها فلن تصله بعد أن أصبح ينتمي لعالم غير عالمنا ما لي به من سبيل.

كبر الأبناء و تزوجوا، الحقيقة أنني فى بعض الأحيان لم أكن راضيا عن من اختاروهم شركاء لهم فى حياتهم، لكنني لم استطع التدخل تركت الأمر برمته لامهم، كنت اشتاق إليهم من حين إلى حين، كنت أخاف محادثتهم فى الهاتف حتى لا يقلقوا على أو على أمهم، كنت اكتب لهم رسائل تبين فضل الآباء على الأبناء و اطلب منهم ألا يكونوا قساة القلب جاحدين، ثم ارق لحالهم و أشفق عليهم من قسوة كلماتي ثم أحتفظ بالرسائل كالمعتاد.

أننى على مدار حياتي لا أتذكر قرارا اتخذته سوى قرار اصطحاب المكتب بدرج الرسائل من شقة العائلة إلى شقة الزوجية، أما الآن فإنني قد تحررت من كل القيود و أولها قيد الرسائل، لن أكمم فمي، لن أحبس مشاعري، سأقول و افعل ما أريد وقتما أريد دون مراعاة لأحد، و سأواجه زوجتي و أبنائي بل العالم بأسره بحقيقتي و حقيقتهم، و سأنشر رسائلي فى كل مكان --------).

شعر فجأة بأن باب الشقة قد فتح، أحس بخطوات زوجته و هى تقترب، فطوي الرسالة مسرعا ثم أخفاها فى المكان المعتاد.

تمت

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى