الخميس ٢٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم بسام الطعان

القرد الأحمر المتوسط

صباحا، أقصد بعد هروب الفجر مباشرة، استيقظ الكاتب على رنين جرس الباب، رنين مزعج، أيقظه من موته الليلي الذي يسمى النوم، وطرد دون خجل أحلامه الوردية، حاصره الرنين ففتح عينيه ببطء، نهض من سريره بتثاقل وتكاسل، بحث عن فردة مداسه تحت السرير، لكن الرنين المتواصل أجبره على الركض حافياً نحو الباب.

فتح الباب بحركة سريعة ، فطار النوم من عينيه دون أجنحة أو عيون ، شاهد أمامه قرداً مسلحاً بكراهية الطيبة ، متوسط القامة، وجهه آسن وأحمر، شعره أشقر ومجعد، ترتسم على جبينه ووجنتيه بحيرة حقد، ويحمل بين أصابعه الحمراء بقايا قلم معبأ بحبر اللؤم.

ماإن اصطدمت نظراته به، شعر بشيء من الدهشة ، وشيء من الخوف، وكثير من الضعف، إنه يعرفه تماماً وإن لم يتحدث إليه من قبل، أشهر كاتب في المدينة كلها، كاتب من نوع خاص، خطه جميل هكذا يقولون ويتغامزون، والتهم عنده جاهزة مثل طوابع البريد، يلصقها على ظهور البشر دون خوف من أحد.

بعد دقيقة أو أقل بقليل، تخلص الكاتب من دهشته وخوفه، ومع ابتسامة مصطنعة رحب به رغماً عما به من مشاعر، ترحيب خارجه جميل مع لقب لا يستحقه، وباطنه وابل من اللعنات، لكم القرد فتل شاربيه الكثين وظل متعالياً ومتباهياً بقلمه.
هل يستطع القبح أن يتحول إلى جمال؟

بدا أمامه كاليتيم على مائدة اللئيم، سأله بهدوء عما يريد ، فحدّجه بنظرة غاضبة، رفع القلم في وجهه وقال بصوت أجش:

 هل تعلم أنني أستطيع بهذا القلم أن أجعلك تنسى الأدب إلى البد يا قليل الأدب؟

تغيرت كل ملامحه حين سمع هذه الكلمات وأيقن أنه سيسقطه لا محالة في هوة سحيقة إن لم يذعن له، وقبل أن يتفوه بكلمة واحدة، استدار القرد وأخذ معه كل أفكاره التي كانت مبدعة.

عاد إلى غرفته منهزماً، منكسراً، وعلى السرير وزع كلاماً لا ينتمي إلى الكلام.

ظهراً، الواحدة إلا ربعاً تحديداً، شعر بالحصار فارتدى ثيابه وخرج لا لسبب واضح، وإنما لرغبة عرشت في داخله كاللبلاب، سار تحت الشمس الغاضبة التي تلفح بوهجها وجوه البشر، يده اليسرى تنام في جيبه، واليمنى تقوم بحركات غريبة وسط نظرات المارة، بينما رأسه حجر رحى يجرش أفكاراً سوداء، واصل سيره من شارع إلى شارع، ومن رصيف إلى رصيف، وفي الشارع المؤدي إلى بيته ، لمح القرد من البعيد، فاستدار وكل همه الابتعاد عنه، اختبأ بين أجساد المارة، لكنه لحق به بخطوات سريعة، أمسك به من كتفه، أخرج قلمه من جيبه، رفعه في وجهه وقال بغضب وبصوت أشبه إلى الهمس:

 لو حاولت الهرب مرة أخرى فسأجعل لك مسكناً في دياجير الظلام.

ثم ابتعد عنه وكأن شيئاً لم يكن، عندئذ انفتحت أمامه كل أبواب الخوف، ورأى الدنيا كلها مظلمة، لكنه شعر بشيء من السعادة حينما حاور وحدته وذاته وسمع صوتاً لم يعرف إن كان يأتي من داخله أم من مكان آخر:" لا تستمع إليه، إنه قرد مكروه بل جرد لا مكان له غير المجاري".

مساءً ، أقصد السابعة والنصف بالتحديد، كان الكاتب يشارك في أمسية ثقافية مع زملائه الثلاثة، القاص والشاعر والشاعرة، لكنه لم يجب على تساؤلات أصدقائه عن سبب انكساره وتعبه الواضح على وجهه وشفتيه وتسريحة شعره، وحين جاء دوره، صعد بخطوات متعبة، وقف على المنبر، فرد أوراقه أو بعثرها، ألقى نظرة على الحضور قبل أن يبدأ بالكلام ، وفجأة اصفـّر وجهه اضطربت أنفاسه، وتبعثرت نظراته باتجاهات شتى، كل هذا حصل لأنه لمح القرد جالساً بين الحضور ومعه آخر يشبهه شكلاً وموضوعاً وهما يسددان إليه راجمات النظرات، أنتظر الحضور أن يبدأ بالكلام، لكنه بقي جثة واقفة وسط الدهشة والهمس والابتسامات.

صباحاً، لا لا، قبل أن يأتي الصباح بكثير، كانت أربع جثث متحركة مدفونة في مكان مظلم، تفوح منه رائحة عفونة عتيقة، أما القرد فكان في مكان ما يشرب مع بعض قرود الأزقة والحواري، وكان كل واحد منهم يرفع كأسه ويتباهى بقلمه وخطه الجميل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى