الأربعاء ٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم جودت جورج عيد

سَعدون والخسَّة

شعر سَعدون بالتَّعب قبل أن يطرق باب ذلك البيت الجميل، حاملا حقيبته السَّوداء المثقلة بالكتب...فتحت الباب صَبيَّةٌ غضَّة، جميلة المحيّا، حافية القدمين تلبس بنطالا قصيرًا أَبيضَ يكشف عن ساقين بيضاوين و"تي شرت" أبيض مقوَّر يَطلُّ من فتحتِهِ نهدٌ خجول... وَقَفَت ونظرَت إلى عينيهِ المرهقتين اللّتين سرعان ما تداركتا التَّعب لتستقرّا بشهوةٍ غامرةٍ في ذلك الجَسد ولتداعبا ملامحَه، في محاولَة للتَّسلُّل إلى نهدَيها الصَّغيرين من خلال ال -"تي شيرت" الضَّيق المقوَّر.

  تفضّل !

تلعثمَ سعدون وتداخل اللُّعاب بين أسنانه وقال: "معي كتب... كتاب جديد كتبته..." وبعدما استعاد ثقته الضائعة بين عينيها، راح يشرح بكل كلِمة تخطُر على بالِه عن كتابه بينما كانت عيناه هائمتين تتفحصان ملامح وجهها وشفتيها... وبسمَتها المتردِّدة!

  لحظة من فضلك، قالت بصوت ناعم مدلَّل، سأسأل الماما.

خرجت أمها من إحدى الغرف الداخلية في المنـزل الكبير وكانت تلك الصبية كالظِّل خَلْفها تحاول رؤيته لتبستم له من وراء جسد أمها المكتنـز...

  تفضَّل لماذا تقف عند الباب؟

دخل بسرور وحبور... فسيجلس مع تلك الصَّبية الحافية القدمين وسيروي ظمأه، حتما ستقَدِّم له الشراب أو الماء وسيبيع كتبًا !! اختفت الصَّبية الحافية وانهالت أمها بالأسئلة حول الكتاب الذي كان أخرجه من حقيبتِهِ. أجابها عن جميع أسئلتها بدِقَّة رغم أن باله مشغول بأسئلة حول تلك الصَّبية، هل ذهبت لأنه لا يعنيها الكتاب؟ أم لا يعنيها هو كشاب بهيّ الطَّلعة جذاب؟ لا يهم ففي كلتا الحالتين شَعَر بالكَرب وبالاهانةِ...لكن الصبيَّة أتت بُعَيد لحظات ،وقد لبست حذاء بيتيًا أحمر اللون، تحمل صينية في وسطها كأسُ شراب أحمر اللون، تقدَّمَت منه وتحركت في قلبه نبضات رغبة دفينة سِرِّية ممتعة، تناول الكأس وتناولت عيناه وجبة أخرى ساخنة من عينيها الزرقاوين وعطر جسدها الغضّ... رَمَقَته بنظرةٍ شهوانية كادت توقع الكأس من يده إلا أن صوت الأم أعاده إلى حقيقة المعاناة التي كان بدأ بالحديث عنها حول إصداره لهذا الكتاب.

كتابه يحمل مقطوعات نثرية كتبها خلال ما يقارب السَّنة وتوجَّه إلى عدَّة مطابع ودور نشر في البلاد الا أنه لم يوفَّق بعرضٍ جذاب. تكلفة الطباعة في المطابع المختلفة باهظة أما دور النشر فقد عرضت عليه عروضًا، أكثرها لا يحترم الكلمة ويُقدس "البزنس"، عرض عليه أحدهم أن يشتري الكتاب منه وجميع حقوق النشر والطباعة وإلى ما ذلك بملبغ زهيد جدًا وآخر عرض عليه أن يعطيه عشرين نسخة من الطبعة الأولى على أن يوزّع هو كدار نشر ويبيع الكتب دون أن يدفع لسعدون أية نسبة. بعدما تعب من العروض والتجوال! حمل كتابَهُ وذهب إلى الأردن حيث صار نافذةً للكُتَّاب هنا في الداخل للاطلالة على العالم العربي حيث يقرأ الفرد معدل ست دقائق في السنة!!! بحسب تقارير اليونسكو الأخيرة. على أية حال اتضح لسعدون أن دور النشر هناك حالها ليس أفضل ... وكانت الاتفاقية بأن يدفع سعدون تكلفة الطباعة وهي بدورها تقوم على توزيع ونشر الكتاب في العالم العربي غير القارئ !!! وطبعًا "للبرستيج" قالوا له أن مكتبهم الرئيسي في بيروت، عاصمة الثقافة وإن كانت مشرذمة!! لذلك سيصدر الكتاب من هناك وسيحصل سعدون على عدد من النسخ.

أغرتْهُ هذه الاتفاقية، مع أنها لم تختلف كثيرًا عما اقتُرِحَ عليْهِ في دور النشر القليلة في الناصرة وحيفا أو في القدس. أدرك سعدون بأن المُعضلة، كما يبدو، ليست مَحلِّية بل أنها على صعيد القطر العربي كله فلا قرّاء ولا كرامةَ للكلمةِ ، لكن على الأقل سيكون التسويق أوسع وسيبيع هو بدورِهِ نُسخُهُ في البلاد... "نَت باد"!!

هذا ما قاله سعدون لأمِّ تلك الصَّبية الجذابة محاولا أن يترك انطباعا خاصا لديهما بفصاحتِهِ وبقدرته اللّغوية والكلامية وثقافته العالية...

اشترت الأم كتابًا واحدًا... وخرج سعدون من المنـزل، وقفت الصبيَّة عند الباب لتقول له عيناها شكرًا لزيارتك التي زيّنت هذا المساء المملِّ بشيءٍ من الرَّغبة والاثارة وودَّعته على أمل أن تراه، أما هو فكان حزينًا لأنه لم يطلب منها رقم هاتفها النَّقال!! لكنه كان مسرورًا بحيث باع حتى الآن وخلال يومين من التجوال بين البلدات العربية، عشرة كتب. كان هذا إنجازًا له، علمًا أنه ما زال بعيدًا عن تغطية التكلفة...

كانت الساعة حوالي السادسة مساءً فقرر العودة إلى الناصرة ومعه ثمن بعض الكتب، قاد سيارته ببطء وبتعب... أما الأمر الوحيد الذي أراح تفكيره فهو تلك الصبيَّة التي صمَّم أن يعود إليها في اليوم التالي بحجة ما ليقترب منها أكثر...

هو كشاعر، حساس جدًا ومرهف ولا يفهم في الأمور الماديَّة والأموال، لكنه يدرك بأنه بمأزق ماديّ ... فكانت تلك الصور الملوَّنة الرائعة لتلك الصبيبّة، تختلط مع صور سوداء ورماديَّة حول وضعه المادي وحول أسئلة لا يملك لها إجابات...كيف سيسدد القرض الذي أخذه لتسديد مصروفات طباعة هذه الكتب؟ كيف سيبيع الكتب؟ هل سيستطيع بيعها؟ هل سيشتري الناس منه الكتب؟... إن كتابتَهُ مثيرة وقيِّمة، حيث أنها تعايش واقع الحياة في الوطن العربي بشكل صريح! لكن، كما يبدو، إنَّ الكتب والقراءة هي ما بعد الواقع أو ربما الواقع هو سبب عدم القراءة، أو أن عدم القراءة هي التي تجعل الواقع أسود وغير منذرٍ بالخير، أو ربما عدم القراءة تجعل عقول الناس مستودعًا للصدأ... لماذا لا يقرأ الناس؟ حارَ سعدون في أمرهم... لماذا يرفضون شراء الكتاب متمنطقين بذرائع مثل: "لا أحمل النقود الان!"، "بالكاد نستطيع شراء الخبز... حتى نشتري كتبًا؟!"، " نقرأ بالانترنت ولا نشتري الكتب!"، "من يقرأ اليوم؟!" بينما هو غارق في هذا التفكير اجتاحته شهوة حارقة حين وجد يده تقتحم بوابة ذلك ال- "تي شيرت" الصبيَّة المقوّر لتداعب نهدَيها... وبينما هو على هذه الحال مرّ في سهول خضراء افترشت بعض المساحات من الأرض بين طمرة وعبلين ووقفت عند إحدى أطراف الشارع الرئيسي الترابيَّة، عريشة صغيرة لبيع الخضار والفواكة ولفت انتباهه تل أخضر من الخس لم يسبق أن رأى مثله من قبل ولم يسبق أن رأى خسًا بهذه النضارة وبهذا الحجم العملاق.

أوقف السيارة بسرعة، نزل وأتفق مع البائع أن يشتري الخسة الواحدة بشاقل واحد واشترى مئة خسة كانت في العريشة ودفع المائة شاقل التي كانت في حوزته ثمن الكتب التي باع... فرح سعدون بهذه الصفقة فهي الأفضل بالنسبة له، وضع المائة خسَّة بعناية ورتبها على مقعد سيارته الخلفي اذ لم يكن متسع في صندوق سيارته الصغير المليء بالكتب. في الطريق دخل إلى شفاعمرو وكانت الساعة تراوح السابعة مساءً وما زال الناس يزاولون بعض وجودهم في الشوارع أو بين البيوت أو في الشرفات... أخرج رأسه من نافذة السيارة وصاح بأعلى صوته خس... خس عملاق وسعره من الأساطير خسَّة عملاقة بثلاثة شواقل فقط. أوقف سيارته عند "ظهر الكنيس" وباع هناك ما يقارب العشرين خسة خلال نصف ساعة... فرح سعدون جدًا حيث كان مجديًا له بيع الكتب ومن ثم شراء الخس وبيعه، لكنه طمح لبيع كل الخس، فكّر في العودة إلى بيت تلك الصبيّة في القرية الجبلية الخلابة لبيعهم خسًا وكلامًا معسولا وليتمتع بالشَّحنات التي تسري في جسده وكل أعضائه حين ترمقه تلك الصبيَّة بنظرة شهوانية، لكنه آثر العودة إلى الناصرة لأن الظَّلام قد خيَّم وما زال عليه بيع الخسّ، فواصل السفر بسرعة حتى وصل إلى المدينة وكانت ما زالت تعجّ الشوارع بالمارة والسيارات والباعة والتجمعات الشبابية والعائلات قرب العين وفي المطاعم، مما أشعره بالاطمئنان بأنه سيبيع كل الخس، وفعلا ما أن وصل الحسبة وعرض بضاعته حتى قفز أصحاب المحال المجاورة والناس على سيارته لشراء خسة عملاقة بسعر من الأساطير...

انتهز سعدون الفرصة وأخرج كتبًا من صندوق السيارة ووضعها بين الخس، لقد كانت هذه فكرة ذكية، لكنه لم يبع الكثير من الكتب وأما الخس فلم يبق منه غير خسَّة واحدة، قرر أن يعود بها إلى بيته المتواضع ويحتفل بالصفقة التى أبرمها لبيع الخسّ والكتب وكان على يقين من أن الكتب هي التي جلبت له الخير والمال وجلس في حاله استحضار ميتافيزيقية ليأكل الخسة الكبيرة مع فرويد!!! بعد نهار مضن مليء بالغبار الحقيقي الذي توغَّل في مسامات جلده... فخلع ملابسه، حمل جسده العاري، حمل الخسَّة ومشاهد من لقائه تلك الصبيَّة في فانتازيا حالمة وغطس في حوض الاستحمام.

* * *

في صباح اليوم التالي، وضع كمية الكتب في صندوق السيارة الصغير وانطلق نحو عريشة بائع الخس في السهل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى