الجمعة ١١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم نوزاد جعدان جعدان

الكاتب والأطياف

أحبّ الوحدة ولطالما أحبّها، غاص بالفوضى ولطالما غرق بها ،كره الضجة ولطالما كرهها، عشق الصمت ولطالما عشقه،فلقد تعلّم على سواد الليل وكره شعاع النور فأدمن على السهر وانعزل عن الخارج .

مهران شاب في ربيع العمر ينسج قصصا ورواياتا،وفي ليلة من ليالي الصيف الحارة وبينما مهران يفكر بمدخل لقصته بعد أن غادر قطار الأفكار قبيل أن يلحقه قلمه،بحث عن قلمه الرصاص الذي كان يعشقه ولا يستطيع الكتابة دونه، بحث جيدا وأخيرا وجده على الأرض ممدا اقترب منه ليمسكه فظهر أمامه قدما رجل ذو قامة طويلة يلبس لباس المهرجين وفي مقتبل العمر،ليفزع مهران وتتوسع حدقتا عينيه ويصفرّ وجهه ويصرخ: من أنت؟ ماذا تريد؟.. فيجيبه المهرج بصوته الأجش: أتنساني يا أبي،رفرفت رموش مهران مستغربا ومتعجبا لجوابه:من تقصد بأبي لست أبا لأحد ثم أنا لم أتزوج بعد حتى يصبح عندي أولاد ثم أنت تكبرني عمرا، ويرد المهرج بسخرية:أتضعني وتلدني وتقول لي لست أباك،فأنت كل الليل وأنت كل ظلامي فلقد جعلتني مهرجا لأضحك الناس فسرقت الابتسامة من وجهي آه منك يا أبي .

دبّ الرعب في قلب مهران ففرّ من الغرفة مصطحبا معه قلمه ودفتره ليتوجه إلى فراشه وأغمض عينيه ليتخلص من هذا الكابوس، فاستلقى في فراشه ليغفو قليلا ويسمع جمهرة من الناس توقظه فأحدهم ينط على فراشه والآخر يدغدغ أذنه وشخص يهز السرير ،فأمسى مهران لا يميز الأصوات وازداد خوفه فرّد عليهم بقوة: دعوني ارتاح،فقط أريد النوم أرجوكم دعوني أنام،لتختفي الأصوات رويدا رويدا،ثم فتح مهران عينيه قليلا لتبدو في وجهه فتاة شبه عارية مستلقية بجانبه فاستيقظ من سريره مذعورا ومتسائلا: من أنت؟ ..فتجيبه الفتاة: أتنساني يا أبي أنت الذي جعلتني مومسا حقيرة أبيع جسدي في المزاد والأسواق ..
وقف مهران على قدميه مبتعدا عنها خائفا: ماذا تريدين مني ومن أنتم وما الذي تفعلونه في بيتي وكيف دخلتم إلى داري؟..فتجيبه الفتاة: تعال نم بالقرب مني فأنت الذي جعلتني مومسا وترفض الآن النوم بالقرب مني آه منك أيها الأب المخادع ..

هرب مهران من غرفة النوم لينتقل إلى غرفة الجلوس وليفتح الخزانة ليخرج منها حبوبا مسكنة وإذ به يرى أمامه شخصا تماما مثله يشبهه بكل الصفات وكأنه توأمه،فحاول مهران لمسه ليتأكد من أنها ليست مرآة وقبيل أن يسأله مهران أجابه الشبيه: أنا أنت، أعني أنت تخشى أحيانا من الخروج إلى العامة فتبعثني بدلا منك إلى الخارج وأحيانا تمسي جبانا في مواجهة الناس فتضعني أنا المسكين في الواجهة بدلا منك ..

فيجيب مهران: لا،لا إنما يحاولون كسر قلمي لأنني مازلت اكتب بقلم الرصاص إلا أنني اعتبر نفسي قصيدة السماء ومهما حجبت الغيوم الشمس فالشمس تبقى شمسا أما كتاباتي فهي كالخمر المعتق التي سيأتي وقتها وستمسي أكثر لذة، وصدى كتاباتي كلام يخرج من القلب فيدخل بالقلب وليس ككتابات اللسان التي تتوقف عند حدود الأذن دون أن تتجرأ بالدخول للداخل ..ثم لماذا يحاولون كسر قلمي الرصاص؟ولماذا يحاولون أن يطمسوا معالمه بممحاتهم، أنت تختلط بالخارج وتعرف الجواب ..حسنا سأقول لك الغصن الغض الجميل تتكاثر عليه فؤوس الحطابين لقطعه مع أنه في طور العطاء والازدهار ..فلماذا ينتقدون قلم الرصاص ويحاولون طمسه بدلا من أن يشجعوه ويجعلوه غامقا فيضيفوا له حبرا و لماذا يحترمون الحبر الغامق الاثنان يكتبان ولكن الشكل مختلف ..

بدأ مهران يزحف ولم يعد يستطيع الجلوس ولا النهوض ولا التفكير وتلُبك لدرجة غير طبيعية ليتقدم ويخرج من تحت الأريكة شخص يلمس يده و يداه باردتان، ليخاطبه:
لماذا يا أبي جعلتني مشردا بلا أحد دون أن يكون لي سند، أتذكر عندما غضبت وأحرقت بيتنا الذي يؤوينا تذكر يا أبي.. تذكر !

نظر مهران إلى وجهه وإذ به شخص مرعب الشكل وسخ المنظر والتراب يتساقط منه وذو جسم نحيل ووجه مكفهر، فهرول مهران فارا ،ليلاقي شخصا يصرخ على وجهه بقوة: أنت أيها المجرم جعلتني حفار قبور تكرهني النساء ولم تعد ترغب بي النساء لأقضي وقتي بين الأموات وأصبح شخصا حيا بقلب ميت و لأعاني الوحدة في حياتي فتبا لك من أب ..

بدأ مهران بالهروب إلى المطبخ ليصطدم بشخص طويل القامة عريض المنكبين في يده سكين تنزل منها الدماء وبيده الأخرى رأس حفار القبور وعلى الأرض يتدحرج رأس المهرج وليؤنب مهران قائلا:
أنت يا أبتي جعلتني مجرما في الدنيا فلقد زرعت الحقد في أحشائي وجعلتني بلا رحمة،فيبتعد مهران عنه قليلا سائلا إياه عن سبب قتله لحفار القبور،فأجابه القاتل:

أتسألني وأنت السبب، لقد باع هذا الخسيس أخته التي كانت حياتي وكل أمل لي في الحياة فجعل هذا النذل حياتي بؤسا بعد أن كسر أجمل صورة لي في الحياة، ثم قتلت المهرج المسكين الذي كان يعشقها ولكنها كانت تنظر إليه كدمية مضحكة فأنهيته من عذابه وقد كنت أريد قتلها أيضا ولكنها ضاعت من يدي في حانات المدينة والآن جاء دورك يا أبي ..فركض مهران و اتجه إلى الحمام كآخر ملجأ له مسرعا مذعورا،وليعم السكون ويخيم الصمت على المكان..

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى