الأربعاء ١٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم حسين حمدان العساف

ذكرى مولد عبد الناصر

من رحم معاناة الأمة كان ميلاد عبدالناصر في الخامس عشرمن كاتون الثاني عام ألف وتسعمائة وثمانية عشر، كانت ولادته في قرية ( بني مر)، أبوه كان موظفاً عادياً في دائرة البريد، كان على موعـد مع القدر ليقود أمة على طريق العزة والكرامة. قاد، وهوضابط صغيرتنظيم (الضباط الأحرار) ليحررمصرمن نظام ملكي ، طال رقوده على صدرها، تبين له فساده وخلاعـته، وهو ضابط محاصرفي (الفالوجة)، وأدرك بوعـيه العميق أنّ تحريرفلسطين، يبدأ بتحريرمصر.

فجّـرثورة( 23) تموز(1952)، وأعلن مبا د ئها الستة الشهيرة، يوم كانت مصر تئن من وطأة الاحتلال البريطاني، وشعبها يرزح تحت نير الاستغلال، تمزق وحدته خلافات الأحزاب. كان لديه منذ البداية مشروع كبير، أخذ يسعى إلى إنجازه، مشروعه: نهضةالعرب وتحررهم وتقدمهم وإقامة دولة وحدتهم الكبرى من المحيط إلى الخليج، وكان عليه أن يبني مصر، ويعدّ ها لتكون رائدة هذا المشروع، وخاض من أجل تحقيقه معارك التحريروالبناء، مصّرالشركات والبنوك الأجنبية داخل مصر،وأمّـم قناة السويس، وقاد شعبه، والتفت حوله شعوب الأمة لمقاومة العد وان الثلاثي، فانتصر عليه، وأطلق قوله الشهير:أنّ (عـلى الاستعما ر أن يحمل عصا ه على كاهله، ويرحل)، أصدرقانون الإصلاح الزراعي وقرارات تموز الاشتراكية، حرر الفلاح والعامل من الاستغلال ، حسّـن مستوى معيشة العائلة المصرية سعياً لإقامة مجتمع الكفاية والعدل، وأرسى حجرالأسا س لبناء قاعـدة اقتصادية صلبة، تنطلق منها ثورته التحررية التقد مية الوحدوية، لأنه كان يدرك أن لاحرية للوطن، ولاحرية للمواطن دون قدرته على انتاج ما يحتاج إليه، فبنى السد العالي، كما بنى أكبر مجمّع في الشرق الأوسط للصناعات الثقيلة هومجمّـع الحديد والصلب. عرضت أمريكا عليه الإسهام في بناء الاقتصاد المصري الناهض: تزويد مصر بصفقة الحبوب، تمويل بناء السد العالى مقا بل أن تدور مصر في فلكها،فرفض هذا الشرط، لأنه رآه ينتقص من سيادة مصر، ويؤثر على قرارها الوطني الحر، وأعلن للعالم كله: إننا نملك إرادتنا وكرامتنا، ولا يستطيع أحد أن يملي إرادته علينا.

كسر احتكار السلاح، وتصدى لسياسة الأحلاف العسكرية، وسياسة المحا ور، وثق علاقات مصر بدول العالم الإسلامي، وأخرجها من دائرة الاستقطاب الدولي والنفوذ ، وأسهم في إنشاء تكتل دولي ثالث بـ (باندونغ) غير منحاز للحلف الأطلسي، ولالحلف وارسو، أطلق عليه تكتل دول: (عدم الإنحيازوالحياد الإيجابي)، كان عبد الناصرأحد قادته إلى جانب تيتو ونهرو. خالف الماركسية في ديكتاتورية (البروليتاريا)، أي سيطرة الطبقة الصناعية العاملة على الطبقات الاجتماعية الأخرى، ورفض حلها الصراع الطبقي حلاً دموياً، وحله سلمياً، كما خالف الرأسمالية في سيطرة الطبقة الرأسمالية عليها، واتجه إلى بديل ثالث، يتمثل في تحا لف شعبي، يضم طبقات الشعب كافة، ينتفي فيه الاستغلال دون أن تسيطرفيه طبقة على طبقة، أسما ه: (تحالف قوى الشعب العاملة)، يضمه إطارسياسي عريض، تلتقي بداخله مختلف التيارات السياسية، هو: (الاتحاد الاشتراكي العربي)، يكون بمثابة جبهة وطنية، تدافع عن البلد، وتصون وحدته، أوجد في داخله تنظيماً طليعياً، يقود الاتحاد الاتحاد الاشتراكي إلى طريق أهدافه، وكان ينوي قبيل رحيله المفاجىء كما أشار بنفسه إلى ذلك، إلى إيجاد حزب معارض فاعل استجا بة إلى ماتتطلبه العملية الديمقراطية التي التزم بها، ودافع عنها.

رأى أن مصر جزء من الأمة العربية، وأن قوتها من قوة العرب، وقوة العرب من قوتها، وكان يرى الأمن العربي واحداً لايتجزأ، وأنّ الاعتداء على سيادة أي بلد عربي اعتد اء على سيادة مصر، فلم يتخلّ عن العراق، حين تعرض للتهديدات الأمريكية أيام الجمهورية العربية المتحدة، ولم يقف من أزمته موقف المتفرج، وإنما تحدى تهديدات أمريكا، وأعلن من قصرالضيافة بدمشق وقوفه مع شعب العراق وثورة شعب العراق ودعمه له بالسلاح، ووقف إلى جانب سوريا حين هددتها إسرائيل بضرب دمشق في أيار عام(1967)، وضع ثقل مصر لمساندة حركات التحررالعربية، في العراق والجزائر واليمن والخليج العربي، سلح الثورة الفلسطينية، وساند الحركات التحررية في أفريقيا،

لم تكن السلطة تعني له الجاه أو الثراء أو التسلط، وإنما كانت وسيلة لإنجاز مشروعه النهضوي الحضاري ، فقد كانت حرية الوطن والمواطن، وتعزيزالوحدة الوطنية ، وإقامة مجتمع الكفاية والعدل، ومحاربة الظلم والفساد والاستغلال، ووحدة الأمة المجزأة التي ملكت عليه عقله وأحاسيسه ومشاعره منطلق نضاله التحرري ومعاركه التي خاضها طوال حياته، كان يعبرفيها أصدق تعبيرعن آمال الأطفال والشباب والرجال والشيوخ، النساء والرجال.

كان المواطن العربي يجد في عبدالناصرآماله وأحلامه، يجد فيه القريب والحبيب. فرحه القادم، ومستقبله المشرق، دعاه عبدالناصرأن يستيقظ من سباته الطويل، و يحطم قيده، ويثورعلى مستبديه، فصرخ في أذنه: (أرفع رأسك يا أخي، فقد مضى عهد الاستبداد)، فاستجابت الجماهير له، والتفت حوله ، وتفاعلت معه، متجاوزة حكامها وحدودها الإقليمية المصطنعة في ظاهرة لم يسبق لها مثيل في تاريخ العرب المعاصر، منحته تأييداً، لم تمنحه لسواه، بل لم يكن يخطر بباله، ورأت فيه ملاذها الوحيد الذي تلجأ إليه في أزماتها، كانت معاركه معارك أي إنسا ن عربي، ومواقفه مواقف أي إنسان عربي، كان إذا ماخطب، انصرف الناس من محيطهم إلى خليجهم عن أعمالهم وعمّـا يشغلهم، وتحلقوا حول المذياع أوالتلفاز ينتظرون بفارغ الصبر ما سيقوله ، وما سيعلنه من مواقف، كانوا يرون فيه حلمهم ورمزشموخهم وكبريائهم. قا د حركة الجماهير عـلى طريق أهدافها، فأ نجز أول تجربة وحدوية في تأريخ العرب الحديث رغم دعوته إلى التريث في إنجازها لإعداد دراستها والتخطيط لها بنجاح، وأخذت الأمة تستعيد بقيادته حيويتها، وتقترب من تحقيق أهدافها، وأخذ العرب يعلو شأنهم في العالم، تصفق له الجماهير حين ينتصر، وتمنحه ثقتها وتأييدها حين ينتكس، ترفض استقا لته، وتطالبه بالمضي في المسير على طريق مشروعها النهضوي الحضاري،

لقد أسهمت رموزالفساد والخيانة في نظام عبدالناصرالتي أساءت إليه بممارساتها الخاطئة، وأسهمت الأحزاب القومية والماركسية والشيوعية والإسلامية وقوى العمالة والرجعية العربية التي خاصمت ثورته أو عادتها، كما أسهمت إسرائيل وأمريكا والقوى المعادية الأخرى في إحباط مشروعه الكبير، لأنها رأت فيه خطرا يهدد زعاماتها ومصالحها، فكانت جريمة
الإنفصال، وكانت نكسة أو هزيمةحزيران (1967)

ورحل القائد بعد أن حقن الدم العربي النازف في أحداث أيلول الأسود بالأردن، وهو يحتضن الثورة الفلسطينية التي ظل يدافع عنها، ولا يساوم عليها حتى رحل ، فبكت عـلى رحيله العواصم العربية والمدن والأرياف، رفعت فلسطين المحتلة والمخيمات الفلسطينية الرايات السود فوق المنا زل، ودّعـته جماهيرالأمة معاهدة إياه بتصميم قاطع وعواطف صادقة ومشاعرجياشة تفيض بالحزن واللوعة على متابعتها الطريق الذي رسمه لها، وهي تقول: (بالروح والدم سنكمل المشوار) هذه هي الناصرية التي تعني فيما تعنيه نهوض جماهير الأمة من محيطها إلى خليجها لإنجاز مشروعها الحضاري النهضوي العربي الذي عبّرت عنه ثورة عبد الناصر، ومواصلة النهج الذي رسمته لها ثورته التي عكست آمالها وأهدافها في الحرية والديمقراطية والوحدة، إنّ الناصرية لا تقف عند رحيل قائدها، وإنما هي ثورة تحررية وحدوية مستمرة.

وكم تشبّه به بعض الحكام العرب، محاولين ملء الفراغ الذي أحدثه رحيله، فارتدوا زيّه، لكن ورقة التوت سرعان ما سقطت عنهم، فبانت عوراتهم ، وظلوا حكاما طغاةً جاثمين على صدورشعوبهم التي تتمنى لحظة الخلاص منهم، ولسوف تزغرد فرحاً إذا أزفت هذه اللحظة، ظل الفراغ فـراغاً، وظل القائد يزداد حضوراً في قلب أمته وتأثيراً في وجدان جماهيرها كلما تقادم العهد على رحيله، فهو غائب حاضر، وراحل باق.

حاول خصومه عبثاً أن يطعنوا بذمته المالية. بحثوا عنها طويلاً في مصارف مصر وغير مصر، فلم يظفروا بشيء، لم يعهد لزوجه أم خالد منصباً، ولم ينصّـبها سيدة أولى على مصر، أويسلط الأضواء عليها، ولم يوّرث الحكم لابنه خالد، عاش شهماً وفيّـاً، ورحل بطلاً نقيّـاً.

انتقده خصومه وأعداؤه فى عدة مسائل، أبرزها اثنتان:
المسألة الأولى : إنه بدّد اقتصاد مصر في قضايا العرب، وتبين أنّ مصر بعد رحيله لم تكن مدينة لأي دولة، أو تنؤ بأعباء الفوائد، كما كانت حالها في عهد السادات وحسني مبارك، بل كان لديها فائض في الموازنة وميزان المدفوعات، ولم يتفاقم غلاء الأسعار في عهده، كما تفاقم بعد رحيله.

المسألة الثانية: إن ثورته لم تكن ديمقراطية، وهذا هو سبب إخفاقها، فقد نكل بخصومه، وسجن معارضيه، وكمم الأفواه، والحقيقة أنّ ثورة عبد الناصركانت ديمقراطية، وكان عبد الناصر ديمقراطياً بطبعه وحياته، وفي نهج ثورته، وكانت إقامة الحياة الديمقراطية في مصر، هدفاً رئيساً من الأهداف الستة التي رفعتها ثورة الثالث والعشرين من تموز، لكن الظروف العصيبة التي انفجرت في أثنائها الثورة من وجود الاحتلال البريطاني العسكري في أرض مصر، والأحزاب والقوى السياسية المصرية الرجعية والعميلة والشخصيات البارزة المرتبطة بالخارج ، كانت تقف بوجه الثورة، وتأتمر لإسقاطها، وكان مطلوباً من الثورة أن تدافع عن مبادئها، وتحمي نفسها من السقوط، مما اضطرها إلى اتباع نهج القوة والحزم في مواجهة خصومها وأعدائها، وهذا حق مشروع لكل ثورة في العالم، ومع ذلك، لم تكن ثورة عبد الناصر دموية
كالثورة الفرنسية والثورة البلشفية التي أزهقت عشرات الآف من مناوئيها، وإنما كانت ثورة سلمية بيضاء، ولو أنها اتبعت نهج اللين والتسامح مع أعدائها وخصومها، لانقضواعليها، وأسقطوها منذ البداية.

أمّـا اليوم وبعد مرور ثمان وثلاثين سنة على رحيل قائد الحركة الناصرية فإنّ على المفكرين القوميين والكتاب والمثقفين والسياسيين والأحزاب والقوى الناصرية أن يسهموا جميعاً في إغناء الناصرية ونقدها وتطويرها حتى تنهض مجدداً، وتتمكن بالتحالف مع القوى القومية الأخرى والماركسية والإسلامية والليبرالية من إسقاط المشروع الأمريكي الصهيوني ، فهي مازالت إلى اليوم قادرة على تقديم الحلول لكثير من الأزمات التي تحيط بنا.

وليس لنا ـ نحن العرب ـ من خيارلمواجهة هذ ه التحديات والأخطارالتي ينطوي عليها هذا المشروع المعادي إلاّ التمسك بخيار المشروع النهضوي الحضاري الذي سعت إلى إنجازه ثورة عبد الناصر، فبه نحافظ على وجودنا وكياننا، لقد قدمت لنا الناصرية إرثاً حضارياً كبيراً وغنياً، له دلالات هامة، ينبغي أن نهتدي بها، ونستثمرها في مواجهة تحديا ت الحاضرمن أبرزها :

1ـ التأكيد على دور جماهير الشعب في الدفاع عن قضاياها:
لم يقص عبد الناصر دور جماهير الشعب في الحراك السياسي أو يهمّشه، وإنما أكد على دورها في رسم حاضرها ومستقبلها، وأدخلها في دائرة الفعل السياسي، لم يساوم على قضاياها، أو يتاجر بمبادئها. واجه تحديات الحاضر بصمودها، وخاض معاركه السياسية بقوتها، فانتصر بها، ونهض من عثراته بإرادتها، وكان يحشد في كل مرحلة سياسية طاقات الشعب، ويستثمر قوته في مواجهة التحديات لتلبية متطلبات المرحلة الراهنة في إطارسياسي ، يوحد به صفوف شعبه، ويعزز وحدته الوطنية التي تشمل شرائح مجتمعه كافة على اختلاف أطيافهم وميولهم واتجاهاتهم السياسية، وكان يحدد لكل مرحلة سياسية أوتحول اجتماعي إطاراً سياسياً جديداً، يواكب التطور، ويستوعب المتغيرات العالمية والعربية والمحلية بدءاً من تنظيم (هيئة التحرير) ومروراً بـ (الاتحاد القومي) فـ (الاتحاد الاشتراكي العربي)، ثم اتجاهه أواخر حياته إلى إيجاد (الحزب المعارض) الذي يمثل الرأي الآخر، فعبد الناصريرى قوة الشعب في وحدته الوطنية، وهذه القوة تكبر بمقدار حرية المواطن التي ترسي دعائم حرية الوطن، لأن الوطن الحر أساسه المجتمع الحر.

ولما رأت جماهير الشعب في قيادته آمالها وأحلامها والمدافعة بإخلاص عن قضاياها، اندفعت إليه، والتفت حول قيادته، وحملت الراية بعد رحيله، إن ّ سر شعبية عبدالناصر التي ملأت مساحة الوطن العربي والتي لم تتوفر لأي قائد عربي آخر في العصر الحديث هو إيمانه بدورالشعب في صنع حركة التأريخ والتقدم، وكان يرى أن القائد هو من يعبرعن إرادة شعبه، ويسعى إلى تحقيق أهدافه في فترة من الفترات، فالقادة بنظره راحلون، والشعب باق.

2ـ الصمود ونزعةالتحدي:
لم يستسلم عبد الناصر لمشاريع الهيمنة والاستبداد، وإنما قاومها، وتحداها، وحرّض الإنسان أن يثور على الظلم والاستبداد، ويحطم قيود العبودية، وأن لايطأطىء رأسه لمستغل أو مستبد كي يعيش سيداً كريماً في وطن حر مستقل، وهو يرى أنّ مقاومة الاحتلال ومشاريع الهيمنة حق مشروع لكل الشعوب، تقره الشرائع والقوانين الدولية. تحدى عبد الناصر بقوة شعبه الاحتلال البرطاني العسكري القائم على أرض مصر، ففجّـر بوجهه ثورة الثالث والعشرين من تموز، وتحدى العدوان الثلاثي على مصر، وانتصرعليه، وقال(إذا شاء الاستعمار أن يفرض علينا القتال، فلن يستطيع أن يفرض علينا الاستسلام)، ولم يسمح للاستعمار أن يتخذ من أرض أي بلد عربي قاعدة عسكرية له لضرب بلد عربي آخر أو غزوه أو تدميره، وإنما كان يدافع عن هذا البلد بكل ما تملكه مصر من قوة، فتحدى التهديدات الأمريكية على العراق بإعلان تضامنه مع شعب العراق وثورته، كما تحدى الاستعمارالفرنسي في الجزائر بتسليحه الثورة الجزائرية والاستعمار البريطاني بتضامنه مع شعب الخليج العربي والامبريالية والصهيونية بإسهامه في إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية وتسليح الثورة الفلسطينية، فلم يهادن الامبريالية والصهيونية في مواقفه الوطنية والقومية، ولم يتحسّـب لعواقب صموده وتحديه على مستقبله السياسي ومستقبل أفراد أسرته.

3ـ وحدة الأمة العربية:
تعمّـق مسارالنهج القطري في الوطن العربي بعد سقوط مشروع عبدالناصر، وتحوّلت بعض الأنظمة إلى محميات أمريكية، تنطلق قواتها من أراضيها لتدمير هذا البلد العربي أو لمحاصرة ذاك، وانهار نظام الأمن العربي والتضامن العربي، وفجّـرت الديمقراطية التي بشربها الاحتلال الأمريكي للعراق النزعات الطائفية والمذهبية والعرقية الساعية إلى تجزئة الدولة الواحدة إلى دول انفصالية خلف ستار خادع من الديمقراطية والفيدرالية، وكـرّس الاحتلال النهج الانفصالي في العراق، ويسعى إلى تعميمه في دول عربية أخرى، وأخذ هذا النهج يحاصرالتوجه القومي العربي، ويسعى للقضاء على مشروع نهوضنا، ويمس مسلماتنا وثوابتنا الوطنية والقومية، ويثيرحولها التساؤلات والشكوك والرفض، ويستجيب للعولمة الأمريكية الجديدة التي تطالب البحث عن هوية جديدة لمنطقتنا العربية غيرالهوية العربية والمشروع العربي، وأنكرهذا النهج، كما أنكرت معه بعض التيارا ت الإسلامية والماركسية وجود مشروع عربي ديمقراطي، وإن وجد ، فلا ترى في وجوده مخرجاً من أزمتنا دون أن تقدم الأخيرة بديلاً عن المشروع الأمريكي، فصار من ينادي بالوحدة العربية شوفينياً متعصباً، وصار من يدعو إلى مقاومة الاحتلال إرهابياً متطرفاً، ولايخفى أن هذا التوجه الجديد يخدم المشروع الأمريكي الصهيوني الذي يسعى إلى القضاء على أمتنا واقتلاعنا من جذورنا، وتجفيف ينابيع الجوانب المشرقة من تراثنا وأصالتنا.

لقد رد عبد الناصر على هذا التوجه بقوله: (إن الأمة العربية لم تعد في حاجة إلى أن تثبت حقيقة الوحدة بين شعبها، لقد تجاوزت الوحدة هذه المرحلة وأصبحت حقيقة الوجود العربي ذات، يكفي أن الأمة تملك وحدة اللغة التي تصنع الفكر والعقل، ويكفي أن الأمة العربية تملك وحدة التاريخ الذي صنع وحدة الضمير والوجدان، ويكفي أن الأمة العربية تملك وحدة الأمل التي تصنع وحدة المستقبل والمصير)، وانطلق عبد الناصر بهذا التعريف إلى العمل القومي، فعزز التضامن العربي إنْ بوحدة الصف أو بوحدة الهدف لحشد إمكانات الأمة وتجميع طاقاتها لمواجهة التحديات التي تحدق بها في عالم يتجه إلى التكتل والقوة، لا مكان فيه للضعفاء، كان عبد الناصر مؤمناً بالقومية العربية ومتفائلاً ببزوغ فجرالوحدة العربية.

قال:
 (إن القومية العربية هي التي خلقتني لست أنا الذي أثيرها، بل هي التي تحملني، إنها قوة هائلة ولست إلا أداتها المنفذة ولو لم أكن موجودا لوجد غيري، واحد، عشرة، ألف يحلون محلي
 إن القومية العربية لا يمثلها رجل أو جماعة من الرجال
 إنها لا تتوقف على جمال عبد الناصر أو أولئك الذين يعملون معه
 إنها كامنة في ملايين العرب الذين يحمل كل منهم مشعل القومي
 إنها تيار لا يمكن مقاومته، ولا تستطيع أية قوة في العالم تدميره طالما احتفظ بثقته في نفسه)، لا أقصد

4ـ النقد الذاتي:
كان عبد الناصر يلتقي بجماهير شعبه في بداية كل مرحلة ونهايتها، وبعد كل أزمة أو هزيمة أوانتصار، فيحاورهم، ويجري معهم مراجعات نقدية شاملة لما أنجزته قيادته من عمل، ويستمع إلى تقويمهم، ويستنير بإرشادهم وتوجيههم، ويصارحهم بمواطن الخلل والعجز أوالتقصير في أداء قيادته، كما يحدثهم عن مواطن النحاح والتقدم، لم تكن تجربته منغلقة على ذاتها، وإنما كانت منفتحة على التراث العربي الإسلامي وعلى تجارب الشعوب الأخرى والأفكار الإنسانية، تأخذ منها ما يفيد المجتمع، ويتلاءم مع قيمه ومثله.

وكان ما يميزتجربته أنها تسايرالتطور، وتستوعب المستجدات، فلا تقف عند الخطأ، وتجمد، وإنما تعالجه، وتتجاوزه، لقد نقد عبد الناصر تجربته أمام شعبه في خطبه وحواراته معه في منتهى الصراحة والشفافية، قيّم تجارب تنظيماته السيا سية، وقيّم تجربة الوحدة مع سورية، وقيّم هزيمة الخامس من حزيران، وتحمّـل وحده بشجاعة القائد مسؤوليتها، ولم يدع الغرور يستبد به في الانتصار أو الإحباط ينفذ إلى عزمه في الهزيمة، كان يستلهم الصمود من إرادة شعبه، فيتجاوز كل تعثر أو نكسة، ويمضي بثقة لا حدود لها إلى الأمام وهوأشد عزيمة، وأعظم بأساً، وكان يرى أنّ النقد البناء أساس التطور، لأنه يكشف العيوب والنواقص، ويرشد إلى الصواب والنجاح، ويقوّم الزلل والإنحراف، ونمت في عهده حركة النقد ، فازدهر الأدب والفن والثقافة، وكـّرم الأدباء والمفكرين والعلماء.

لا أقصد من الحديث عن ذكرى ميلاد عبد الناصر إطلاق التأوهات على ماضي الأمل والحلم والنهوض الذي أدبر، وإنما هو دعوة لجماهير الأمة، وفي طليعتها القوميون والناصريون إلى النهوض من جديد للإسهام في بناء المشروع النهضوي العربي الديمقراطي وإسقاط المشروع الأمريكي الصهيوني، وما ينجم عنه من مشاريع قطرية أو طائفية أو مذهبية أو عرقية

فقد قال القائد عبد الناصر:
 ( إن مرحلة من كفاحنا قد انتهت، ومرحلة جديدة توشك أن تبدأ
 هاتوا أيديكم وخذوا أيدينا، وتعالوا نبني وطننا العربي من جديد)

فتحية إلى روح القائد الخالد في ذكرى مولده، وتحية إلى أرواح المناضلين العرب وشهداء المقاومة العربية الباسلة في كل مكان .
الحسكة/ سورية


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى