الأحد ٢٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم بسام الطعان

إلامَ

كصخرة كبيرة سقطت وتدحرجت على الأرض بلا مبالاة، سـقط عليك السؤال المخيف يا ( قانع).

لم تعد تجرؤ على الاقتراب من القطعان البشرية التي غالباً ما تقيدك في عمقك، ثم تجعلك هائماً بواد ليس فيه زرع أو ضرع يا ( قانع).

هل وجودك على الأرض يشكل إدانة لهذه القطعان أم لذاتك؟

ما سمعته كان غريبا فاجأك، لقد صرت قصة تتلى في الصباح والمساء، فوق الأرصفة وأمام الأبواب، وكأن لا حكاية في العالم إلا حكايتك.

من داخل منتجع الذات التي تمتلئ بالتوهان، قلت لنفسك في ليلة شبه ميتة:(سأرحل إلى مكان لم يوطأ من قبل، ولم يحلق فيه طير، فهذه الأرض ليست جديرة بي أو لست جديراً بها).

تذكرت أمك النائمة في حجرتها، فدخلت في حروب ضارية مع نفسك، آه يا (قانع) تقلبت في فراشك تقلب المحتضر على سـرير الموت، أنفاسك تصاعدت متقطعة، وخفقات قلبك الواهن تصارعت، شعرت بصداع قوي داخل رأســـك، حاولت أن تغمض عينيك وتستسلم لسلطان النوم، لكن مخلوقاً غريباً علـــى شكل سـؤال جثم فوق صدرك وبدأ يمتص بلذة وعلى مهل أوردة دمك، كنت بأمس الحاجة إلى النوم، ولكن كيف يأتيك النوم وقد تجرعت سؤالاً علقمياً في كأس صدئة لو وجـّه إلـى جبل لتصدع وانهار.

ابن من أنت يا (قانع)؟

سؤال أعاد الروح إلى ذاكرتك بعد أن كانت مدفونة بين أنقاض أيامك وجعـلك تنفض عنها غبار النسيان، حاولت الدخول في السنين المنسية، بحثت في أراجيح الطفولة، لعلك تتذكر شيئا منها، لكنها سرعان ما انهارت وألقـت بك في بركة مليئة بتماسيح شرسـة، حاولت قطف زهور الذكريات لتطرد بعبيرها الرائحـة العفنة التي تبعثها أشباح ذاكرتك المفجوعة، لكن السؤال ظل يكسو رأسك.

ابن من أنت يا (قانع)؟

سؤال مخيف زمجر كآلة ميكانيكية صنعت في العصور القديمة في أذنيك، ســؤال لم تعد تريد سماعه، تكرهه كما تكره العالم الذي أنت فيه، انه حبل من مسد يلف جسدك النحيل، وينحت كهفاً بلون الدم في سراديب قلبك، دخل ألم مفاجئ في تجاويف رأسك، فضغطت عليه براحتي كفيك، ولكن ما دخل رأسك، هو الآخـر يئن لحاله ويبحث عن متنفس يرمي من خلاله كوامن بركانه.

من خوابي الظلام رحت تتجول في ردهات الذاكرة من جديد، أرسـلت نظراتك إلى الماضي القريب والبعيد، بحثت عن رسم لرجل حملك، مسد شـعرك، قبـّلك، داعبك، قدم لك قطعة حلوى، لكنك لم تر غير رسم لشيطان يقف في الزاوية المقابلة ويقهـقه ساخراً.

اجتاحتك رعشة هزتك هزاً، أيقظت أوصالك، وعلقتك من قدميك ويديك بسنا نير الصحو، نهضت من سرير الاحتضار، مسحت حبات العرق المتناثرة على جبينك المشتعل، لملمت شظاياك وما رافقها من أهوال، زرعت في غابات الكلام أشـجاراً لا تثمر إلا المرارة، دخلت إلى حجرة أمك الباردة، المدماة بويلات الأنين، وقفت بالقرب من فراشها وأنت مختنق بالنشيج .. أمي.. أمي.. هل أنا.. ابن مـنـ.. هاجمك وابل من الوساوس فتراجعت بصـمت، لم تدر لماذا يا ( قانع )، بقيت مكانك هامداً جامدا كالتمثال، اقتربت منها مرة أخرى وفي عينـيك تمور ملايين الأسئلة، رأيت الاصفرار بادياً على وجهها المليء بالتجاعيد، جلست بقربها، مسدت شعرها الأبيض بحنان، أمسكت يدها، قبـّلتها ولونتها بالدموع، نظرت إليها بعينين جاحظتــين رأتا كل أنواع الهمـــوم، ثم أطبقت جفنيك وذهبت في رحلة بدايتها لهيب ونهايتها تعذيب:" كم جرحاً سأنزف يا أمي.. يا أعز الناس.. كم منفى سألقى قبل أن ينفجر هذا القلب؟"
فتحت عينيها ببطء، نظرت إليك بأسى، وأحست بما يجول في خاطرك، مسحت دموعك وأنت تحاول التراجع، لكنها نادتك بحنان لا يوصف، وأجهشت ببكاء مصحوب بتوجعات آلامها، اقتربت منها وأنت تحس بأن ثمة عالماً مجهولاً بانتظارك، جلست إلى جانبها، فشـدتك إلى صدرها وضمتك بحرارة لم تعهدها من قبل، ارتميت في حضنها رمية اليتيم وانفجر السؤال:

ـ ابن من أنا يا أمي؟

دون مقدمات ردت:

ـ لا أعرف ابن من أنت يا ولدي، وأنا لست أمك.

ثم أضافت وهي تمسح دموعها بيديها المتعبتين من كد وتعب الليالي والسنين:

من زمااااااان يا ولدي، وفي ليلة ماطرة وباردة، كنا زوجي وأنا نتدفأ بنار المدفأة ونحلم بأشياء كثيرة، وفجأة سمعنا دقات قوية، وما أن فتح زوجي الباب حتى وقف في مكانه مذهولا لدقائق ولم يعد يعرف ماذا يفعل، وحين سمعت صراخ طفل رضيع تهتُ بين الفروض والاحتمالات، ثم هرعت نحو الباب، ولكن يا للعجب ويا للهول، رأيت رضيعاً وملفوفاً بقماط مبلل ولا يكف عن البكاء، فما كان مني إلا أن حملته بسرعة وجئت به نحو المدفأة، أما زوجي الذي رحل عني وعنك بعد ثلاث سنوات فبقي خارجا تحت المطر وهو يطوف حول البيت لعله يرى أحدا، ومنذ تلك الليلة وهذا الرضيع صار ابني، وقد أطلقت عليه اسم (قانع) وقلت في نفسي زوجي قانع بما كتبه الله له وأنا أيضا ً وهذا المسكين أيضا ً لا بد انه سيكون قانعا بمصيره، ولا اخفي عليك أننا كنا فرحين جداً بك، صحيح أن الله القادر على كل شيء لم يرزقنا بأطفال، إلا أن الله الكريم أسعدنا بك وأزال عنا الكثير من الهموم، فلا تزعل يا ولدي ولا تلتفت لكلام الناس.

تنزلت الكلمات ويلاً من نار جرفت مسـامعك، كدت تهرب لمغاور وصحارى الجنون، غير أنك تمالكت زمام نفسك وقبعت في صومعة السكون، وقبل أن تنهض من حضنها وترجع أدراجك إلى الوراء، ارتجفت أمك، تأوهت وزفت نظراتها للأفق البعيد يا (قانع).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى