السبت ٢٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم سامر مسعود

صياح

كان قد تخرج للتو في الجامعة، تلك الجامعة التي اعادت ترتيب كيانه لبنةً لبنة، باختصار شديد أصبح قادرا على الصراخ بطريقة مقبولة. "أن تتألم فهذه من مقومات الشخصية، أما أن تصرخ فهي من مهارات الكبار" همس صيّاح، الابن الأكبر، بينما كان في طريق عودته من مدرسة القرية، حيث يعمل، إلى بيته الذي لا يبعد كثيرا.

طرق الباب ودخل، استقبلته أمه بحفنة حب غامر. "أن تتعلم كيف تعيش في حياة ملؤها الحزن والمعاناة، فأنت موجود " اختلس الفكرة خلال رحلة مرور كلمات امه إلى مسامعه:

طعام الغداء جاهز.

_لا اشعر برغبة للطعام، فقط اريد أن ابدل ثيابي واسترح قليلا.

لملمت أمه ملامح وجهها ليبدو أكثر تماسكا، ثم قالت:

أتصل مدير المدرسة التي يعمل فيها والدك، وأخبر حازما أنه لم يتمكن من إعطاء دروسه المعتادة؛ إذ انتابه دوار شديد أعقبه استفراغ لمرات متتالية...

أين هو الآن ؟ سألها صياح بقلق واضح.

لقد رفض أخذه إلى الطبيب، وهو الآن في وضع مستقر... هذا ما اخبرني به أخوك.

في هذه الأثناء، كان حازم يمسك بذراع والده ويدخلان المنزل. كان وجه الوالد شاحبا ذابلا، في حين كان وجه الابن مغلفا بعلامات القلق والحزن.

احتضن صياح والده، شيعه إلى غرفته، ساعده في خلع حذائه وفي تغيير ثيابه، رتب له السرير، دثره بغطاء ربيعي، وأخذ يستجدي أطياف النوم للتتنزل أمطار رحمة على جسده العليل.

أنفق الوالد زهرة عمره، في العناية بأسرته الكبيرة. أصيب منذ سنوات خلت بمرض السكري وضغط الدم. أخبره الطبيب قبل شهور أنه بحاجة إلى زراعة كلية في القريب العاجل.

تكتسب فترة المساء في فصل الربيع نكهة من نوع خاص عند أهالي القرية، ترتقي لدرجة البوح والايحاء. هي معبد زمني يتناجى فيه المعذبون والمحبون كل على طريقته.

في ذلك المساء، كان صيّاح يتمشى بصحبة والده على طريق ترابي مرتفع يشرف على القرية من جانبها الغربي، وفي الجهة الجنوبية كان جبل "سلمان" الشاهق يتألم بتأثير مستوطنة تتغذى على روحه الجريحه، فيبكى الجبل نبعا مرضيا ملوثا. قال صيّاح لوالده بنبرة نواحيّة:

بعد شهر سنسافر إلى دولة مجاورة لإجراء عمليتك الجراحية...

محطة أخرى في رحلة العمر المر. همس الاب بحزن عميق.

ما يقلقني مصير الأسرة؛ فكما تعلم نحن العائلان الوحيدان لها. اخوتي لازالوا على مقاعد الدراسة الجامعية و...

دعك من هذه المخاوف فللبيت رب يحميه...

_أنت تدرك تماما أنني لا أبخل بشيء في سبيل علاجك، ولكن ما مصير الأسرة إذا لم تنجح العملية؟

ما الذي تريد أن تقوله ؟ سأل بتوتر واضح.

أجابه بعد تردد:

لو قام محمد بذلك بدلا مني فسيظل للأسرة عائل آخر يرعى شؤونها، وإذا ما حصلت على شهادة الدكتوراه، فإن في ذلك بارقة أمل لمستقبل أفضل. ثم استدرك: إنها الفرصة الوحيدة...

ارتسمت على ملامح الوالد، بعد أن سمع هذا الكلام، علامات الخذلان والاحباط... شعر صيّاح بفداحة الخطأ الذي ارتكبه، قال لوالده وهما في طريق العودة:

_غدا سأقدم إجازة مفتوحة، وسنسافر في الموعد المحدد...

في الموعد المضروب كان الوالد يرقد في غرفة العمليات، وفي الغرفة المجاورة كان صيّاح مستلقيا على سريره، تحيط به أجهزة طبية كثيرة، وقبل أن يأخذ المخدر مفعوله كان يفكر بفصول بحثه المقدم لنيل شهادته العلمية، وبإخوته الذين يعدون لحفلة تخرجه... أحس بدموع حارة غزيرة تسيل من عينيه لتصب في نبع جبل سلمان الشاهق... وغرق في نوم عميق...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى