الخميس ٣١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم محمد متولي محمود

لحظة تساؤلات

لأول مرة يسأل نفسه هذا السؤال :
 كم ثمن الرصاصة ؟
يااااه ... كل سنوات الخدمة هذه بالجيش و لم يسأل نفسه و لو مرة واحده كم ثمن رصاصة البندقية الآلية ... كان من الطبيعي بالنسبة له أن يعلم ثمن السلاح لا أن يعلم ثمن القذيفة التي يطلقها السلاح ... فيما يبدو لأنه تعلم أن قيمته تساوي ثمن سلاحه ... فضابط المدرعات قيمته = ثمن الدبابة ... الطيار قيمته = ثمن الطائرة ... ضابط الدفاع الجوي قيمته = ثمن الصاروخ ... إلخ إلخ إلخ ... أما اليوم فالمقارنة مختلفة فقيمته اليوم = ثمن الرصاصة التي سوف تطلق على رأسه ...

في موقفه هذا اختفى الإحساس بالزمان و المكان و لم يتبقى إلا الإحساس بمزيج من الخوف و الطمأنينة و اليأس و الرجاء و الألم و الأمل و الندم و الإيمان بأن كل شئ مقدر من قبل خلق الكون لكن أحشائه تصرخ ( لو أنك لم تأتي هنا ؟ ) ... ماذا يحدث لو لم يأتي هنا ؟ هل كان يموت في نفس اللحظة في وطنه بنفس الأسلوب أو بأسلوب مختلف ... لا يهم ... أم أنه كان سوف يمارس حياته .... يداعب زوجته ... يرعى أباه ... يربي أطفاله الثلاثة ؟ و لكن ينبع من داخله سؤال فارضا نفسه بقوة صافعا أحاسيس الندم مرسلا بكلمه ( لو ) إلى العدم ( هل من الممكن أن نضلل القدر ؟ ) و تذكر قصة كان قد سمعها من مدرس الدين قديما عن رجل كان يفر من ملك الموت فيجده أمامه أينما ذهب ... ثم تدفقت الذكريات سيلا عرما على رأسه ...
 أراك فرحا اليوم ...
 ظهرت نتيجة الترشيح ...
 و .... ؟
 أنا من الآن فلان الفلاني المراقب الدولي بالأمم المتحدة ..
و صرخت زوجتك فرحا و قفزت في الهواء في طفولية بريئة و عانقتك كأنها تعانق الدنيا ... إنها تحبك و أنت ... أنت تعبدها ..
 أخيرا سوف نحصل على المال اللازم لتأمين مستقبل الأطفال و شراء سيارة ترحمنا من الإهانة في المواصلات و شراء مصوغات ذهبية لك تعويضا عما فقدتية من أجلي في أيام المحن ..

حقا إنها تحبك و أنت تعبدها ... و لكنها لا تعلم إلى أي الدول أنت ذاهب .. و لو علمت لهددتك بالانتحار حتى لا تذهب .. ماذا لو علمت ما أنا فيه الآن ؟ ماذا تفعل عندما يصلها نعشي ؟ هل يجدوا جثتي ؟ هل أبلغتها الخارجية أني متخطف أنا و زملائي ؟ زملائي ؟ آااااااه ... أين أنتم ؟ بالرغم من أسماء دولهم الرنانة إلا أن هذا لم يمنع من أن يقتلوا أمام عينيك بلا أدنى تردد ... أو ... رحمة ..
تصارعت الذكريات و الأفكار داخل رأسه فلم يستطع إيقافها أو ترتيبها ... إنه في حالة من اليأس و الخوف ...

فجأة اختفى السؤال ( هل من الممكن أن نضلل القدر ؟ ) آخذا معه إيمانه إلى حيث لا يدري فأطلت مرة أخرى من مكمنها كلمة ( لو ) مصطحبة معها سيلا من الأسئلة .. لو أنك لم تأتي هنا ؟ لو أنك ارتضيت بحالك ؟ لو أنك رفضت الترشيح ؟ لو .... لو .... لو ..... أمواج من ( لو ) تتلاطم في داخله ... تتفاعل ... ثم تفور منبعثة منها حمما ملتهبة من الخوف ... تشتعل كل قطعة من جسده .. تسري في جسده رعدة قوية .. عرق غزير ينصب من رأسه.. اقتحمت أذنه أصوات ضحكات كريهة من الخارج .. إنها ضحكات حراسه .. ضحكات أصبح يألفها جيدا .. ضحكات لا تنبعث إلا عند صدور الأمر بممارسة هواية القتل ... القتل ؟ .. زادت الرعدة حدة .. انتفض جسده بقوة .. زاغت عيناه في المكان .. حاول أن يفك قيوده و لكن هيهات ..

انفتح باب الحجرة و دخل منه شبحان يحملان السلاح .. و الآن تطلق على رأسه الرصاصة التي لم يعرف ثمنها حتى الآن .
إن الشبحان يقتربان منه بخطوات بطيئة .. عيناهما تلمعان في ظلام الحجرة الدامس .. عادت أمواج ( لو ) تضغط على جنبات رأسه فأحس بأنها سوف تنفجر ... بحث بأصابع يديه المقيدتين عن آله الزمن عسى أن يجدها فتعيده إلى عام مضى ... تشابكت خيوط الظلام أمام عينيه فلم يعد يرى شيئا .. نداءات ( لو ) المنطلقة من داخله أصمت أذنيه فلم يعد يسمع خطوات الموت و هي تقترب منه .. أما الهواء فلم يعد موجودا في الحجرة ... بعد لحظات سوف ينتهي غارقا في بحر من الدماء الممتزجة بعرق الخوف و سيول ( لو ) ..
توقف الشبحان عند رأسه .. إنه الآن يرى قبره و يشم رائحة الفناء منبعثة من داخله ... انتهى كل شئ .. انفجرت جميع التساؤلات من رأسه و اندفعت تغمر الحجرة تتلاطم أمواجها أمام عينيه يذوب كل منظر فيها ... ثم تتماسك فيصبح كل شئ حوله ظلاما في ظلام إلا من بصيص نور أخذ ينطفئ رويدا رويدا حتى اختفى تماما ...

يا ترى كيف يكون الحساب داخل القبر ؟ و ها هي ملائكة الحساب تربت على وجهك و كتفك كي تستيقظ من رقادك .. و لكنك لن تفتح عينيك إلا بعد أن تستجمع أفكارك و تستعيد كل الأسئلة و الأجوبة داخل رأسك الذي فتته الرصاص .. تلك الأسئلة و الأجوبة التي تعلمها جيدا و التي تعلمتها من دينك .. الآن تستطيع أن تفتح عينيك و لكن هناك سؤالا دنيويا لا زال يلح علي ( هل أستطيع أن أعيد الزمن إلى الوراء فلا آتي إلى هذه البقعة القذرة من الأرض و أنتهي كما انتهيت ؟ )
فتح عينيه ثم أغلقهما بسرعة متأوها من قوة الضوء .. أهو نور الملائكة ؟ ثم أخذ يفتح عينيه تدريجيا حتى يعتاد على الضوء .. و لكن .. من هؤلاء ؟

أنهم ليسوا ملائكة .. إنهم بشر .. شخصيات كان يعرفها جيدا في حياته الأولى و بجانبه يجلس شخص يراه لأول مرة يلبس بالطو أبيض و على عينيه نظارة سميكة .. أخذ يحدق فيمن حوله بدهشة فاشرأبت الأعناق و تطلعت إليه الأعين في لوعة و أمل .. تفحصه الشخص الجالس بجانبه من خلف زجاج نظارته السميك قبل أن يهتف بالإنجليزية :
 أخيرا أفاق ...
ه_ لل الأشخاص الآخرون في فرح .. صاحوا بلغات دنيوية مختلفة انطلقوا إليه يربتون على كتفه و يمسحون على رأسه ... في أعينهم دموع فرح .. و على شفاههم ابتسامة عريضة ... أما هو فلم يعد يفهم شيئا ... مرت لحظات و هو يرمقهم في ذهول قبل أن يهتف :
 أين أنا ؟
أجاب أحدهم :
 في مركز قيادة المهمة .

الآن بدأ يعي كل شئ .. إنه ممدد في مستشفى القيادة و هذا هو قائد فريقه يحدثه ...
 نجحت حكومتك في الاتصال بالمتمردين في الوقت المناسب و توصلوا إلى اتفاق حتى يطلقوا سراحك على ألا يجدوا أي من جنسيتك مرة أخرى داخل مناطق نفوذهم و إلا قتلوه على الفور دون تردد هذه المرة..
ثم استطرد في أسى عميق :
 للأسف ... زملائك الباقين لم تتدخل حكوماتهم جديا ...
ثم بفرح :
 لقد اتصل بنا المتمردون و أبلغونا عن مكان تسليمك ... ذهبنا فوجدناك هناك فاقد الوعي تماما ..
ثم تنهد بعمق :
 لقد خفنا أن نفقدك أنت الآخر ..
ثم بملامح جادة :
 و لكن حكومتك غير مسرورة لما حدث بالمرة و أرادت سحب جميع ضباطها من المهمة و لكنها تراجعت بضغط من الأمم المتحدة و بالطبع أااا ... الدول العظمى .. فقررت أن يكون الأمر بالنسبة لكم اختياريا ..
 اختياريا ؟ ( و استيقظت حواسه فجأة ) لا أفهم ...
 بمعنى أن لك أن تختار بأن تبقى أو تعود إلى وطنك قبل انقضاء مدة المهمة ..
 أعود إلى وطني ؟
 أجل ..
 قبل انقضاء مدة المهمة ؟
 أجل ...
 ( بعد فترة صمت ) و ما رأيك ؟
 الأمر عائد لك .. و لكن الزوجة ... الأهل ... الأسرة ... الوطن حيث السلام و راحة البال ... جنة لا يعوضها مال ..
المال ؟ متطلباته و متطلبات زوجته ؟ لقد كاد أن ينسى هذه الأمور ....
هتف بلا تردد :
 من قال إني أريد العودة إلى الوطن ؟ أنا أريد الاستمرار ... أرجوكم .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى