الأحد ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٤
بقلم محمد هديب

الكتاب الشعبي : حكايات ألف بالة وبالة

مصلحة الجمارك في السعودية أوقفت استيراد الملابس المستعملة‚ قالت انها غير منظمة‚ ورائحتها غير صحية‚ ولم تطبق عليها عملية التعقيم‚ من جهتنا نحن في الاردن لنا تاريخ عريق مع ملابس اصدقائنا الاوروبيين‚ ونسميها «البالة» كما في بلاد الشام إجمالا‚ يعود التاريخ الى بداية الاربعينيات‚ اي قبل انشاء الجامعة العربية بقليل‚ وسرعان ما ازدهر شارعا طلال والطلياني بهذه التجارة‚

الاسباب التي استندت اليها الجمارك السعودية لا تقنع الجماهير الوفية عندنا‚ وهناك ثلاث ملاحظات وجيهة اهمها عدم الترتيب‚ الذين عاشروا البالة هم الوحيدون الذين يقدرون القيمة المعنوية لتلال الملابس والاحذية الملخبطة بطريقة سحرية‚ وتزاحم الايدي لالتقاط القطعة المطلوبة‚ القطع لا يوجد منها نسخ كما هو الحال في المحلات الجديدة‚ ولا يمكن بسهولة وصف لمعات العيون والدهشة الطافحة على الوجه‚ حين تعثر امرأة على الفردة الاخرى من الجرابات‚ وكم يكون احباطها حين تعثر عليها ولكن مثقوبة او منسولة‚ كرنفال مصغر حيث لا صوت يعلو فوق صوت البائع‚ وتكاد ترى مصرانه الأعور من حلقه‚ وهو ينادي «الجوز بشلن» (الجوز يعني زوج الجرابات وليس الزوج إياه)‚ من الضروري ان تشاهد ولدا يتعلق بثوب أمه‚ ويفضل ان يكون رأسه ممعوطا على الصفر وأنفه يسيل‚ ورجلا يصفع ابنه سويلم‚ لأن الحذاء يستعصي على قدمه مع انه كان يدخل بسهولة بقدم مايكل ‚‚ عجيب!

من الضروري ان ترى بائعي العصير الشعبي المكون من: ماء مخلوط بالماء مع اضافة قليل من الماء‚ وسكر‚ ولون جميل خلاب يسبب أمراضا مستعصية‚

سيدة البالة الشعبية‚ مدينة الزرقاء التي تمر منها سكة الحديد المعروفة بالخط الحجازي‚ وبعد ان مات المشروع الذي كان عليه ان يصل استنبول بالحجاز مرورا ببلاد الشام‚ اخذت السكة مجدها من البالة‚ واذا قال لك واحد انني ذاهب الى السكة‚ فلا يخطر ببالك انه سيستقل القطار بل ستفهم مباشرة ان ابهامه قد خرج من حذائه الى الشارع العام‚ او ان العطلة الدراسية انتهت‚ والأولاد لا بد من شراء احذية وملابس لهم‚ او ان احد عيدينا سيطل بعد ايام‚

هذا السوق على سبيل الدلع الشعبي يسمى سوق «قرمز ونقِّي»‚ وللإخوة النيباليين اقول إن قرمز تعني اجلس القرفصاء‚ ونقي بتشديد القاف تعني اختر‚ وعلى الجميع هنا ان يتخلوا عن هيبتهم الكذابة‚ بامكانك ان تحاجج اي كندي متفاخرا: صحيح انكم اغنى البلاد ماء‚ ونحن نصنف ضمن افقر عشر دول في العالم مائيا‚ لكننا نشرب الهواء ولا نستجدي أحدا‚ في بالة السكة انت مكشوف‚ ولا مجال للاستعراض‚ وشئت ام ابيت «رح تقرمز يعني رح تقرمز»‚

موضوع الرائحة غير الصحية‚ يخدش مشاعري الشخصية‚ الرائحة ذاكرة ‚‚ والانسان يحن الى رائحة البيت‚ ليس لانه يغسل يوميا بماء الورد‚ بل لانها رائحة البيت ورائحة الذاكرة‚ والبالة هي الحديقة الخلفية للغلابى ورائحتها الغامضة الطاردة للحشرات‚ تمنحهم حالة من الصفاء الذهني والتوازن‚ وثلاث ساعات مع روائح البالة تجعل منك بوذيا مثل الدلاي لاما لا تضمر شرا لأحد‚ وتخرج من هذا الجو الشاعري مواطنا صالحا مبتسما‚ وبالخبرة اقول ان رائحة البالة تستمر من 8 الى 10ساعات‚ ولا يوجد مسكن في العالم بهذه المواصفات السحرية‚

وتصر مصلحة الجمارك السعودية على موضوع التعقيم‚ وفي ظني‚ وبشكل اخوي اقول‚ هذا ترف لا مبرر وجيها له‚ فأنا لم اسمع في حياتي عن مواطن تسببت البالة في ايذاء جلده‚ ولو سئلت لقلت: صحيح ان جلدي هو اكبر عضو في جسمي‚ وأحترمه من باب الزمالة‚ لكنني لا ابيع تاريخي من اجل عيون التعقيم ‚‚ انه الكتاب الشعبي الأول ‚‚ «الف بالة وبالة» ‚‚ هل تفهمون؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى