الثلاثاء ١٢ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم عبد الهادي الفحيلي

حالة شغب

وهو يمسك بمعصمي بقوة ويسحبني وراءه مثل لاشيء، كان الجيران ينظرون إلي في إشفاق. كنت أنظر إليهم من وراء الدموع وأنا أطير في الهواء. هو يلعن دين أمي وربها وربي أيضا.

 حشومة عليك أصاحبي.
 وا سمح ليه غير هاذ المرة.

كانت هذه العبارات تعترض طريقنا وأنا مجرور إلى وجبة تعذيب دسمة.

  ما سوق حتى واحد. كل واحد يديها في راسو.

هكذا كان يرد ولا أحد يجرؤ أن يخلصني من قبضته الجبارة؛ أنا الفرخ الذي لا يزن أكثر مما تزن ريشة.

لا أذكر أنني أتيت شيئا يستحق كل غضبه ذاك. كان جبارا لا يتسامح بسهولة. كان يربيني بطريقته الخاصة "جدا". "العصا خارجة من الجنة اللي كلاها يتهنى"، كان يقول دائما وهو يتطلع إلي في نشوة المنتصر عندما يكون قد انتهى من "تربيتي" وأنا أغالب الألم والقهر. لكنني لم أكن أنتهي من الشغب الذي كان يثير غضبه علي.

كان يشرح لي أنه يحبني ويبتغي مصلحتي -ولذلك يضربني- عندما يكون مزاجه رائقا، فيعطيني درهما أو أقل منه ويشرع في سرد ما لا نهاية من الكلمات التي لم أكن أسمع منها إلا القليل جدا وأنا أرسم مشاريع صرف ذلك المبلغ. كان يعطيني النقود باستمرار فأنسى قسوته علي رغم هزالة المبالغ. كان سخيا معي. حتى في عنفه ضدي كان كذلك. مرة كاد يقتلني؛ رفعني إلى أعلى من رأسه وخبطني على أرض البيت. عندما فتحت عيني بعد فترة لا أدري مقدارها، أتاني وجه أمي من وراء الضباب منكبا علي وعيناها غارقتان في بحر من الدموع. أحسست بألم فظيع في كتفي. لم أجده عندما أفقت. ضمتني أمي بقوة إلى صدرها. صرخت. كان كتفي ملتهبا.

أخذتني إلى رجل طمأنها أنني لا أشكو من كسر في كتفي. ربطها بضمادة وعدنا إلى البيت. في الطريق اشترت لي حلوى طويلة الشكل منقوعة في العسل كنت أعشقها بجنون. نسيت ألمي وأنا آكل على مهل حتى أستمتع بها أطول وقت ممكن.

عندما عاد إلى البيت في المساء متأخرا استقبلته أمي بوابل من الشتم والدموع. صفعه أبي بقوة وحنق وهو يصرخ في وجهه: أتريد أن تقتل أخاك؟ لم يحرك ساكنا ورأسه مطأطأ إلى الأرض. لو يذرف بعض الدموع؟ فرحت كثيرا للصفعة. طرده أبي فخرج ولم يعد تلك الليلة إلى البيت.

كنت لا أزن كثيرا. "بحال إلى ما كاتكولش النعمة"، كانت تردد أمي. كنت قريبا إلى الأرض لكني كنت أعيث فيها فسادا: أقرع أجراس البيوت وألوذ بالفرار. أتعارك مع أترابي في الحي. أهرب من المدرسة مع بعض من "العفاريت الصغار" ونذهب إلى الأسواق المجاورة لنتفرج على "الحلقات" ونسرق الخضر والفواكه. أجذب ثياب "بابوبكر" وأهرب وهو يرغي ويزبد ويعري شيئه ويمسك بأي شِخص تصل إليه يده ليشبعه ضربا وسبا ومشاغبو الحي -صغارا وكبارا- يصفقون ويرددون: بوبكر يشطح لينا.

بابوبكر هذا أمسكني مرة وحملني من عنقي حتى انقطع الهواء عني وأحسست بعيني قد خرجتا من محجريهما. أعتقني أخي الأكبر بمشقة. لأيام استمر عنقي يؤلمني. كنت مارا بقربه لامباليا. كان شيخا كبيرا ما زال يملك بعض فتوة وغلظة. جن في غفلة منه. صار أضحوكتنا. لم يجن دفعة واحدة. نحن -عفاريت الحي- من نقل جنونه إلى السرعة القصوى عندما اكتشفنا السبيل إلى تهييجه. مجرد شد ملابسه يثير كل الشياطين في دمه.

 هاذاك الشيطان؛ كانت تناديني أمي.
كثيرة هي المرات التي كدت أموت فيها بين يدي أخي الأكبر.
 نتا بحال المش عندك سبع أرواح؛ كانت تقول أمي.
كنت أحس بالزهو. سرعان ما كنت أنسى فظاعة التعذيب عندما أخرج من البيت وألتقي رفاقي في الدرب.

كنت أتمنع عن الموت رغم أن جسدي الصغير –على ما يبدو- لا يمكن أن يتحمل صنوف العذاب تلك خاصة من أخي.
عندما أوصلني إلى البيت فتح الباب وقذفني مثل كرة صغيرة من المطاط. أغلق الباب.سحب حزام سرواله الغليظ . لف طرفه على يده وشرع يجلدني وأنا أصرخ وأستنجد "بعار الله وبعار والديه". كان بركانا من الغضب. لم يكن أحد في البيت. الحزام يهوي على كل ركن في جسدي. أتلوى من الألم ودموعي طوفان حقيقي. كان يصرخ وهو يجلدني ويرفسني بقدمه بين الفينة والأخرى: هاذ الشي اللي بقى ليك مادرتيهش. كنت أصرخ مستغيثا: غير هاذ المرة. ماعمرني نعاود.

عندما تعب ارتمى على أقرب سرير وهو مايزال ممسكا بحزامه ويسب عروقي وجذوري. تكومت في ركن وأنا أنتفض مثل دجاجة مذبوحة. بعد لحظات انفرج الباب عن وجه أمي. وقعت عيناها علي في تلك الحالة فسألته:

 آش دار ثاني أوعدي؟
 سوليه هو يقول ليك؟
 آش درت أ لمزغوب؟
 ............
 قول لي آش دار أولا غير قال ليك راسك دير فيه هاذ الحالة؟
 هاذاك راه غايسفطك للحبس أو لا السبيطار. راني لقيتو شاد دري صغير ورا الحايط ديال المدرسة أو منزل ليه سروالو أو......................
 ....................


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى