الخميس ١٤ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم زياد يوسف صيدم

الصدفة

غادر قسم الأطفال (الرضع) في مستشفى سان رافائيله غاضبا ومرتبكا بل وحزينا على علاقته التى توترت بشكل ينذر بالقطيعة مع صديقته الشقراء التى كانت تعمل كمساعدة ممرضة في ذاك القسم كانت خطواته سريعة يريد أن يلحق بآخر حافلة ستغادر موقف المستشفى إلى محطة المترو فالوقت متأخرا وهو يسكن في الجانب الآخر من المدينة حيث أوصل باولا التى كانت مناوبتها هذه الليلة حتى الصباح ..وفى طريقه بدأت تتلاطم في رأس أحمد آخر حديث صاخب معها بتفاصيله المملة كموج بحر هادر والذي أفضى إلى لقاء في الغد الساعة العاشرة صباحا توقيت خروجها من عملها وقد يكون حاسما بينهما.. فالقطيعة احتمال وارد ويفرض نفسه نتيجة تراكمات سلبية فالعلاقة أخذت تسيء منذ قرابة الشهر لأسباب في معظمها تعود إلى غيرة متبادلة من ناحية وعدم اكتراث منها واختلاقها للأزمات دون مبرر ؟؟كما هو لم يكن بسيطا في معاملته معها فلم يمر على كثير من القضايا الخلافية وان كانت صغيرة مرور الكرام ..؟! صعد الحافلة شبه الفارغة من الركاب وما هي إلا لحظات حتى أقلعت طبقا لجدول زمني معلوم ومحدد وضع على يافطة قرب الموقف ... ألقى بنفسه في منتصفها على أول مقعد أمامه فركاب الحافلة في هذا الوقت هم من العاملين في المستشفى اللذين لا يملكون عرباتهم الخاصة..استعاد وعيه الشارد وإدراكه الذي امتزج مع أحزانه وخلافاته التى تجوب رأسه الذي كاد أن ينفجر فقد تحول إلى ما يشبه بورشة حداده على صوت بدا مرتفعا وحديث لم يفهمه ولكنه كان حادا بنبرته ثم سرعان ما تحول إلى ضحكات سرعان ما انقطعت فجأة لتعود من جديد نبرات صوتها الغاضبة..؟

كانت هناك جالسة في المقعد الأمامي تتحدث إلى رجل بجوارها أكبر منها سنا بعشرين سنة على الأقل...أرخى السمع لها كما ركز النظر على شعرها المجدول بجدائل رفيعة وكثيفة ملأت رأسها وقد وضعت ورود من قماش ملون على بعض من نهايات جدائلها وما زاد من تركيزه أكثر عندما كانت تتجه بجانب وجهها ملتفتة نحو ذاك الرجل لتحدثه فبانت سمرتها الفاتنة وتقاطيع وجهها الجذاب والساحر.. واعتقد للوهلة الأولى بأنها من البرازيل ولكنه استرق السمع ثانية بتركيز أكبر فاستدل على أنها من شرق أفريقيا نعم فلم تكن اللهجة غريبة على أحمد حيث صداقاته كانت متشعبة وكثيرة... انتبه على دق جرس الحافلة ينذر بالوصول إلى محطة المترو الأرضي فنهضت بقوامها الممشوق وطولها الفارع وقوامها المكتنز بشكل متناسق جذاب فشرد بخياله مرة أخرى باختلاف في الأسباب هذه المرة..!!!

أبطأ أحمد من خطواته قليلا حتى أصبح خلفهما حيث نزلا أمامه معا وسرعان ما افترقا فهي ذهبت بنفس الاتجاه الذي يقصده والرجل في الاتجاه المعاكس فتنفس الصعداء وحمد الله في سريرته وكأن صخرة أزيحت من على صدره..! فتبعها حتى جلس قريب منها بانتظار المترو فبادلها بابتسامة لم تمتعض فقد تذكر بأنها نظرت إليه في الحافلة ولم يعيرها اهتماما لانشغال فكره وبسرعة بادلها الحديث معجبا بتسريحة شعرها فشكرته حيث كانت تتحدث لغة البلد المضيف لهم بطلاقة وتمكن وبادرها بسؤال أنت إثيوبية فردت لا ولكنى على الحدود وضحكت بعفوية وهنا سمع صوتها العذب قائلا أنا من أسمرة في اريتريا فابتسم قائلا لم أكن بعيدا إذا فقالت لابد وانك من نابلي فابتسم ولم يجبها ؟؟ ولما كانت أحداث غزو ارتريا للحبشة وتحرشها بالصومال وتهديداتها لليمن ما تزال حديث وسائل الإعلام فقال لها وكيف من دولة صغيرة كبلدكم يتصرف وكأنه دولة عظمى ؟ فضحكت وقد ظهرت أسنانها البيضاء وبانت ابتسامة ساحرة زاد من صوتها عذوبة الضحكة فقد استغربت كونه متابع للأحداث الجارية فرد عليها لست من نابلي ولكنى .... ثم سكت عن الكلام حيث هدير المترو القادم وضجيجه والهواء المندفع أمامه لم يجعلانه يكمل حديثه فصعدا معا وجلسا على نفس المقعد جنبا إلى جنب...واستكمل حديثه بأنه مقيم هنا منذ سنوات لعدة أمور ولأسباب متعددة فهزت رأسها وعرف منها أنها تعمل بشركة نظافة داخل المستشفى وبان عليها حزن شديد وحسرة على ماضي جميل فقدته !! فأسعفها بجواب ينم عن حنكة ودراية حتى لا تقع في إحراج وخجل قائلا لها العمل الشريف لا عيب فيه فهو يعلم جيدا بثقافة البلد وعاداته ومتطلبات الحياة المعيشية الصعبة فمن لا دخل له وخاصة للنساء تنتهي بالعادة إما على ناصية الشارع أو في إحدى دور الرعاية التابعة للكنيسة..كما علم ضمنا أنها تخفى قصة حزينة سرعان ما نوهت له عنها حيث فقدت زوجها الايطالي الشاب الذي كان من عائلة غنية أحبها ولم يمضى عام على زواجهما بعد حتى فارق الحياة في حادث سير مروع على الطريق السريع ميلانو - فينيتسيا وهى تعيش من يومها وحيده في بيتها الذي تركه لها ..ولم يمهلها أحمد في الاسترسال في حديثها حيث أكمل عنها يحدثها بأحزانه ومشاكله وشعوره بالوحدة هو أيضا نتيجة لانهيار علاقته بصديقته في هذه الليلة بالذات..!! فبادرته قائلة ولهذا شاهدتك شارد الذهن حزينا في الحافلة وهنا فهم جيدا بأنها نظرت إليه ولم يكن مخطئ الظن فأجابها نعم ولكن الحياة مستمرة..!! فابتسمت بابتسامة ساحرة وألقت عليه بنظرة فيها إعجاب وشراكة بالموقف ..!!

وساد الصمت بينهما برهة من الزمن قطعته قائلة سأنزل في المحطة القادمة فرد عليها هل تعملين غدا بنفس التوقيت لهذه الليلة فأومأت برأسها مبتسمة وأضافت سأبدأ في الرابعة عصرا وانتهى بنفس التوقيت كما الآن واستعدت واقفة فرافقها إلى جانب بوابة المترو مودعا لها وقد شارف المترو على التوقف في المحطة التى تريد النزول إليها فبادرها بكل أدب وثقة وإعجاب إذن تقبلين دعوتي لفنجان من القهوة غدا صباحا....أجابت نعم ولكن أين ومتى؟؟ أجابها هنا في مقهى المحطة الساعة العاشرة صباحا..!!فوافقت فصافحها وقبل أن تنزل ضحكت وقالت أضحك لأني لم اعرف اسمك حتى الآن فأجاب كذلك أنت وأتبعها بضحكة واستدرك قائلا ولكن لا بأس إلى الغد فالأيام الجميلة قادمة يا .....وأشار بيده لا تقولي لي اسمك الآن.؟؟ فغدا يوم جديد في سفر حياتنا ...فرمته ببريق في عينيها وكأنه السحر..نزلت هي واستمر هو بطريقه وما زالت ابتسامتها الأخيرة وبريق عينيها الآسر الذي يحكى قصة عذاب وحرمان وأمل ! قد انتهى للحظة.

وفى الغد بينما هو في انتظارها وقبل أن يلمحها قادمة نحوه برشاقة خطواتها وقوام ممشوق فارع الطول وجدائل رفيعة قد غطت معظم شعرها الطويل الخشن داكن السواد وقد ألصقت على بعض منها قطع القماش على شكل ورود وشرائح حمراء وصفراء اللون وها هي ابتسامتها الساحرة بسحر الساحل الشرقي لأفريقيا تخفى بين ثناياها حب بدأت تتجسد وتتدفق بشائره الأولى...

انتبه فجأة إلى شيء دائري معلق على الجدار ؟؟ فحك رأسه بإبهامه الأيمن مبتسما وفى داخله سعادة لا توصف وقد تذكر أمرا أصبح في حكم الماضي......


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى