الأحد ١٧ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم ناصر الريماوي

انكســـارات صباحـــية

النصــف الآخَــــرْ

"إنه الحب الذي يبدأ بنظرة، ليس بالضرورة إلى رحابة الوجه وصفاء الإبتسامة، ربما لإشتعال الحرف في حضرة البردْ، للرغبة المدفونة منذ وقت طويل يوقظها ذلك الإسم المكون من خمسة حروف ...، ربما يبدأ بكلمه، تطغى على عنوان القصيدة، شرارة الحب تشعلها كلمة في حضرة البرد وبحر القصيدة، اليباس هو بيدر القش في حضرة الروح، تستأذن القلب في دعوة عشق مفتوحه... فلتبدأ النار ... هذا موسم الإحتفاء بالنار تشعلها كلمة وعود ثقاب تسلل من بحر القصيدة"

تضحك، فيطفح الوجه بألق غير معتاد، ثم تقول في دهاء: هل هذا غزل؟
  عزيزتي لنكن اكثر جدية...
  أين؟ في هذا المكان؟ لا اظن ذلك...
  إذن حدثيني عن هذا النصف المتبقي الذي يدّعي وجوده الآن معي، هل يفتقد نصفه الآخر؟

يعقبها صمت طويل، ظل يلاحقها زمناً، ليحط هنا امامي وفي هذا الوقت...

  لماذا لم تتركي الصمت هناك برفقة نصفك الآخر؟ لماذا؟
  لأني أحتاجه برفقتي هنا... كما أحتاج هذه النافذة
وقبل أن تعاود الصمت، أشارت إلي من خلال النافذة الوحيدة التي تفصل بيننا، في حياد قلق لإنكسار الإتجاهات الباهته بين قلبين تفصل بينهما نافذة و قضبان متقاطعة، لتحرر جملتها هناك:

  وكما أحتاج هذه الفراغات بين قضبان النافذة... كي أراكْ
  هذا المكان يا عزيزتي لا ينقصه المزيد ... فالرماد المستشري بين جدرانه، ينحدر بتلقائية الوقت الثقيل نحو سواد الهاوية.... عزيزتي المكان أصبح قابلاً للإشتعال! وهذا يكفي.

جابهتني بعينين تجولان في زوايا التفاصيل المبهمة لكلينا، نيابة عن عبثية الحديث، هكذا وبكل بساطة ينتدب الصمت عينيها لكل المهمات ليتركني حائراً مرتبكاً باحثاً عن مبررات واهمة وتفسيرات مختلقة، بينما هي ورغماً عني... دوماً تجابه.

  هل نستبدل الموضوع بموضوع آخر... عزيزتي
  نعم هذا أفضل، قُلتَ أن كلماتي مألوفة لديك، متى سمعتها قبل الآن، وأين؟

لا اذكر... لكنني أعرفك، أو ربما أعرف نصفك الآخر... لا أدري... فقط ساعديني، فأنا هنا أحتاج نصفك الماثل امامي هنا... لأحيا به.

  قد لا أستطيع ...
  لماذا؟
  لأنني هنا، وفي هذا المكان تحديداً... أحيا بنصفي الآخــر...

قالتها ثم توارت خلف إنكسارات عديدة، لم يكن بمقدور الوجه إلا أن يعتذر وهو يسترد مني ذلك الألق الذي تفيأ ظِل المكان، ربما لغفوة عابرة، فوق صدري، منذ قليل... ثم إشتعل المكان.

(2) القـــدح الآخَـــــرْ

(( منذ رحلة التطهير في محو الخطيئة بيوم، وصبح واحد على الأكثر، وقهوة الصباح مرهونة لقدحين في شخص واحد على الطاولة الصغيرة تحت عريشة العنب، قدح للتواطؤ مع عادةٍ قديمة، وآخر لشخص لم يعد موجوداً تحت قبة الصباح، ألوذ بالهذيان وحيداً للتعويض عن إفتقادي هلوسات الصباح الثنائية تحت ظلال بيت القصب المسقوف بأوراق الدالية، ما أسهل أن تعتاد على إنتظار شخص غير موجود! يسكن مرثية الأمس بعد أن تبرد الجدران بقدر يوازي هذا البرود التدريجي الذي يتسلل طوعاً لقهوة القدح الآخر.
إنه الصباح في لغة الغياب يتصفح منها نصف ذاكرتي،

وقدح يبيت وحيداً منذ ليلتين على طاولةِ النصف المتبقي... في حضن جريدة

وبرد الشتات

حين يلتف من حولي

يسكنني الآخــــر... يوقظ نصف غيبوبة أخرى... من ذاكرة ٍبعيدة))

  القهوة لغة الصباح ... بين إثنين أو قلبين ... أعياهما سهر الامس.
 
قالتها ثم غادرت إلى غير رجعة، لم أكن هناك وقتها، لكنها كانت بين أصابعي، كنا على نقيض الفراغ حين يأتي الصبح، ومن حين لآخر كانت تمر تحت جنح الليل مثل فراشة أو مثل يعسوب ينوس فوق حقلنا القديم ... هنا في الجوار، كلما أدركها وقت الحكاية في طي البرائة.

عبرت بين ضلوعي مرتين، في المرتين لم تقل شيئاً ولم تلمح عن رحلة التطهير في محو الخطيئة، لكنها قالت: هذا الصباح يشبه ليل البارحة !! ثم غابت مع أول خيط للشمس...

أفقت على يدها أمام وجهي تلوح على إمتداد الفراغ بين عيناي وقضبان النافذة...

  عزيزي أين ذهبتْ ؟ الشرود في حضرة النافذة غير مقبول
  أعتذر، وماذا بعد؟
  و يشكو غياب قدحٍ آخر...
  لم افهم؟... من تقصدي،النافذة؟... أم شيء آخر؟
  بل هذا الصباح... وتلك القهوة الدافئة...

ترنح الوجه في دلال حين مالت بجذعها قبل أن تتكىء على حافة النافذة لتكمل في بوح يمهد لما هو جديد ومفاجىء، حين أكملت:... المرهونة للقدح الآخــر... أليس كذلك؟

  أنت تثيرين فضولي ...كيف عرفتِ ؟؟
  هذا سرّ...قد يمنحكَ زمناً إضافياً هنا لتحيا، فلما أبوح به؟
  ليتني أفهم!
  أتدري يا عزيزي... في هذا المكان نحتاج أسراراً كثيرة، كي نظل احياءً.
مذهلة حتى الرمق الاخير لكنها لاتدري بأن نافذة واحدة لا تكفي لهذا العشق المهدد بموت مفاجىء

  منذ متى وانت تعرفين؟
  منذ أصبحت هذه النافذة بوابتي الجديدة للحياة التي تدور رحاها هناك بعيداً عنكَ وعني.
  هل ابوح لكِ بسر القدح الآخر؟
  كما قلت لكْ، أنا الأخرى احتاج أسراراً كي أعيش... وكي لا اغلق النافذة الوحيدة...

ثم اخذت تترنم في غنائية تشي ببوح جزئي لإثارة الفضول من جديد: القهوة لغة الصباح... بين إثنين... بين قلبين... أعياهما سهر الامس...

  حقاً أنتِ مثيرة... كيف عرفتِ بهذه ايضاً؟ لقد كنا وحدنا، هل كنتِ تعرفينها ؟ هل كنتِ معنا؟

  لست واثقة، لكنني أتغنى بها منذ زمن هنا!
  هل تعجبكِ هذه الحياة لكي نعيشها هكذا... نطارد وهماً يسكن سراً عفا عنه الزمن...
بسطت إحدى كفيها وباعدت بين أصابعها ثم دفعت بها قريبا من وجهي وقالت: نعم... حياة خمسة نجوم...

ثم اغلقت النافذة أمام وجهي، قبل حراس الطريق... إشتعل القدح وانزلق من يدي فوق حشائشي المهملة تحت عريشة العنب... فأحترق المكان.

(3) إنكســــار الآخَــــــرْ

(( أرجوحه قديمة في حديقة مهملة تسلقتْ في إستخفاف غصناً يتداعى، حبلين مشرعين للريح خلف جدار بارد، بينما لوحها المشدود لم يكن ليتسع في يوم من الأيام لأكثرَ من فتاه واحدة أقسمت ذات يوم لأكثر من زهرة عبرت إليها في ذكرى ميلادها الاخير بانها لن تكبر... وفي غفلة من أرجوحتها غادرت، نسيت وعدها، أصغت للعابرين... فكبُرَتْ، غافلتها النافذة بعد وعد لم يتحقق، لم تعلم إلاّ متأخرة بأن طيور الوقت لم تكن لتمّر بتلك النافذة ولا حتى لمرة واحدة، ومع هذا ظلت تواظب على حافة الإنتظار وهي تنصب سحراً لعودة الوقت المسافر لهذه الأماكن التي لا تحترق بعد زمن الرماد... غفلتْ عن سحهرها هذه المرة ولم تصغِ...فكــبُرَتْ من جديد))

رائحة نفاذة تختلط بنكهة القهوة عند الصباح كانت قريبة، غير أن رطوبة المكان تكفلتْ بإمتصاصها على الفور، القدحين في متناول اليد على النضد المجاور، إلى جانب البرواز كعادة قديمة، أمسكت بالبرواز ثبتّهُ أمامي، جعلتهُ في متناول بصري تماماً، مكبرات الصوت تعلن عن زيارة مفاجئة، تماماً قبل الرشفة الأولى ...

 زيارة ولقاء أمام نافذتي!؟ ثمة شيء ما يدعو للدهشة!!
إندفعتْ تلك الرائحة النفاذة بقوة إلى الداخل، حين فتحتُ النافذة على مصراعيها، لم اصدق للوهلة الأولى...

 زيارة مباغتة... أليس كذلك يا عزيزي؟
 عطركِ، وتسريحة الشعر الجديدة ،باغتاني!
 وهل تظنني أحضر من دونهما؟! في الحقيقة جئتُ أعتذر عن صفعة النافذة وإنسحابي بلا إذن، و... وشيء آخر...
وأشارت تسبقها إبتسامة على إمتداد عينيها، عبرت من خلالي كرحيق زهرة برية، تضوعت حول سرداب النضد المجاور... ليمر وقت قصير قبل أن استوعب غايتها وهي تقول: أشاركك القهوة الصباحية...

أحكمتْ طوقها بعناية من خلال عينيها حول المكان حتى تحول الرماد إلى وهج فضي، فطويتُ ذلك البرواز فوق النضد وأنا أتحول بالقدحين إلى النافذة، دفعتُ بالآخر إليها وأحتضنتُ قدحي، إعتذرت لبروازي القديم حين توارينا كعاشقين خلف حوارات صباحية... لا تنتهي، وقبل أن نفترق منحتها كتيباً لقصة لي، كنت قد نشرتها حديثاً، رجوتها أن تخفف عن نفسها وطأة الحصار تحسباً للزمن القادم مع طلعة الرماد المقبلة، ترددتْ طويلاً ثم إحتضنتها كتلميذة تضم إلى صدرها كراسة قديمة، وهي تقول: أخشى على نفسي من شخوص هذه القصة... ثم نظرت إلي مودعة وهي تضيف:.... ومن طلعة الرماد المقبلة... على كلينا.

كان لطلعة الصباح التالي عبق خاص، مفعم بنكهة القهوة والحنين، سرى خلال اوصالي ثم تعداني إلى برواز النضد المجاور، وقبل حوارية الصباح، وعلى غير موعد مسبق، كانت تحط أمام نافذتي للمرة الثانية، هذا الصباح لم اجد متسعاً لشيء، لم يكن بمقدوري سوى معانقة الوجه، أما كيف تاهتْ أصابع اليدين في شلال الشعر المنسدل على الكتفين، وإغماضة الجفن، حين عمَّرتْ وقتاً أطول بكثير فاق سحر النظرة الاولى، فهذا ليس من شأني، أنه الوقت حين يسرق منّا كل شيء... ليمنحنا لحظة واحدة... تطول خارج أسواره في غفلة منّا.

مع أول رشفة طائشة من قدح الضيافة، كنا نغافل الحراس، نتسلل عبر الممرات الضيقة التي تفضي للطريق الوحيدة، الملبدة بركام الرماد المزمن، لنسكن آخر المطاف، فوق عشب الأماكن المحرمة، هناك شرعنا نغزل من خيوط الشمس رداءً لهذا الصبح المختلف وقبةً للظل، فراشات كانت تحلق على مقربة منّا، دعتها إلينا بنظرة حانية من وجهها الذي تخلص جزئياً من عناقي لتشاركنا مظلة الصبح تحت رداء الشمس، ولما تذكرتُ بيت القصب المسقوف بأوراق الدالية قبل هذا الزمن المعتق بخمر الرماد، غبتُ أكثر في عناقي لأبقى هنا.

نزعتْ طوق اليدين برفق يستعصي على الوصف، من حولها، لتنطق بأول الكلمات: أحسستك تكتبني في تلك القصة... هل كنت تقصدني؟
  هل أنتهيتِ منها؟
  ربما الليلة، قل لي هل كنت تقصدني؟
  صدقيني لا ادري، كتبتها وحسب.
  إذن لماذا أسميتها (إنكسار الآخر)؟
رجوتها ان تُبقي على ملامح الوجه... دافئة، تحت هذه القبة الصباحية حين تسأل، فأعتذرتْ وردة في الجوار نيابة عنها، ولم تعد لتنبش أسرار المكان، لكنها تواصلت مع غيمة عبرت للتو فوقنا ألقت بظلال ثقيلة تداخلت مع صمت أعقبه زفير تنهيدة أحرقت عشب المكان من حولنا، فآثرتُ السلامة:
  عزيزتي عندما تكملي القصة نتحدث، والآن... اعيدي لي وجهك.
لم تعلق، كنا نعود مع الرشفة الأخيرة من قهوة الصباح إلى قضبان النافذة، كأننا لم نغادر، أعادت لي بعضاً من القدح عند حافة النافذة وشيئاً من نضارة الوجه، ثم ودعتني بوعد لم افق منه إلاّ بعد الظهيرة:
  غداً ألقاكَ هنا... على قهوة الصباح، إنتظرني...
للمرة الثانية ومنذ زمن بعيد... يعود القدح الآخر فارغاً، وعند ركيزة النضد الوحيدة كان برواز قديم ملقى بإهمال مطوياً منذ الصباح، كان بإنتظاري... تأملتُ فيه طويلاً قبل أن ألقي به بين أشيائي القديمة في سرداب النضد المجاور ... إلى غير رجعه.

(4) المكان الآخَـــــــــــرْ

(( حنين يرتقي إلى حد الإنكسار، في إنتظار مبهم لشخص لن يأتي، هناك حيث تسكن الروح، تطوف وحيدة، تستدعي أطيافاً حية تركتها ورائها هناك بين زوايا بيتنا العتيق... اتراها تنتظر هي الاخرى عودة شخص ما؟ أم انها تعلم ان الذين يغادرون خلسة تحت جنح الليل، لا يعودون في وضح النهار... مهما طال الزمان))
من خلال النافذة،بدت كاسفة وشاحبة، ملبدة بهموم كثيفة تنذر بالسقوط، سكبت قهوة الصباح تحت النافذة، لتعيد القدح فارغاً، تملكني شعور بالضياع أمام هذا السكون المطبق على صفحة الوجه، كانت ساهمة تصوب بصرها نحو نقطة بعيدة.
  ما بكِ عزيزتي... أفزعتني!
  لم كتبتَ تلك القصة؟ لم طلبت مني قرائتها؟... نطقتها آلياً ودون ان تنظر إلي
  إنتهيتِ منها... أليس كذلك؟
  نعم... ثم نظرت إلي فجأةً لتكمل: حتى هذه اللحظة لم اتمكن من تفكيك العلاقة بيني وبين شخوصها! لقد اطبقتْ على حاضري تماماً...
  هذا شعور طبيعي، عزيزتي ...يعتريني هذا كلما إنتهيتُ من قراءة قصة او رواية... صدقيني
للمرة الاولى تخرج الملامح عن جمودها لتوحي بسخرية وإنكسار
  ألا تدري هذه المرة من هم شخوصها؟
لم تنتظر لتسمع إجابتي، بل دعتني للرحيل مؤقتاً برفقتها إلى مكان لم تنوه إليه، فاذعنت وانا الوم نفسي لإفشاء سر ٍ دون مقابل... لأحرمها فرصةً إضافية للعيش هنا... بينما أحيا انا بسرها المزمن... وإلى الأبد.

(5) ما تبقى للذاكرة...

كانت كمن يبحثُ عن شيء وسط الركام، تنزلق بخطى وئيدة من ركن إلى آخر، بين ركام الحشائش التي تطاولت في كل إتجاه، أرسلتُ بصري خلفها وحافظت على مسافة ثابتة بيني وبينها حتى لا تتعثر بوجودي، هذا المكان ليس غريباً، ربما تكمن الغرابة فقط في دقة الوصف، مثلما تخيلته يوماً في قصتي الاخيرة لبعض التفاصيل، لكن الأحواض المستطيلة امام الشرفة الواطئة غدت معتمة أكثر بكثير مما كانت عليه، لوح الطاولة المستدير الذي يتكىء على جذع شجرة صغير، مثقل بغبار السنين واتربة الفصول بينما توارت من حولها تلك المقاعد الإسطوانية المصنوعة من جذوع أشجار الكينا تحت ركام كثيف لأوراق الشجر وفضلات الطيور، أخيراً اخذت مكانها هناك على واحد من تلك المقاعد، والصقت خدها على لوح الطاولة ليتمرغ بأتربة السنين وركام الذكريات... لتشرع في بكاء صامت سرعان ما تحول إلى نشيج مسموع.
أفاقت على يدي تمسح خدها الآخر، مسحت دموعها بيدي لكنها أبقت على شحوب الملامح، تركتني وسارت في ثبات نحو باب الشرفة الملقاة على أرض الحديقة، أشارت لي بيدها نحو خميلة جانبية، شعرت بخفقان مفاجىء وانا أرى أرجوحة تتسلق أشجار الخميلة بالكاد تتسع لفتاة صغيرة، ثم تخلت عن صمتها لتفشي سراً للمرة الاولى:
  هنا تركتُ نصفي الآخَرْ... في هذا المكان... وتحديداً فوق تلك الارجوحة.
عند بوابة الشرفة وقبل الدخول كان هناك طيف لإبتسامةٍ صفراء باهتة أخذ يرتسم تدريجياً على صفحة الوجه لتهمس في نبرة تمهد لوداع مفاجىء
  سأبقى هنا، لن اعود...
  لكن ... أرجوكِ هذا مخالف للوقت والمكان... يمكنكِ البقاء قليلا، لكن كما تعلمين علينا أن نرجع...
  لم يبقَ ما احيا لأجله هناك، ثم لتعلم ان الارواح التي غادرت خلسة، يمكنها ان تعود في وضح النهار... مرة ثانية.
  فهمتْ... لكن...
  إبحث عن بروازك... ارجوك...
قالتها ثم توارت مسرعة بعد ان اغلقت خلفها باب الشرفة الوحيدة، لم يغمرني سوى فراغ اللحظة المقبلة، فأيقنت أن النار قد تأتي بعد زمن الرماد، عندها لم تظللني أية غمامة في سماء تلك الحديقة، لكنه فراغ لا ينتهي ولاينتمي لذلك المكان، كنتُ احلَقُ فيه، حملني في شبه فقاعة شفافة، فوق أشجار الحديقة، أخذني في خفة النسيم إلى أعلى نقطة مطله حول ذلك المنزل المهجور...، على الجانب الآخر، الملاصق له تماماً، رايتُ بيتاً من القصب يتوسط الفِناء، ظللّتهُ أوراق صفراء، تناثرت من حوله لدالية جفت عروقها منذ زمن بعيد، على إحدى جنباته كان هناك قدحين مهملين ظلا هناك في غفلة من زمن الرماد فوق طاولةٍ منسية، وصوت علا خلف تلك العريشة لفتاة تجاوزت زمن الضفيرة بسنوات قليلة، بدت مسلوبة الملامح، لم أتبينها ملياً، لكنها بدت في شبه صورة قديمة... لبرواز قديم... كانت تردد في غنائية معروفه: ((القهوة لغة الصباح... بين إثنين أو قلبين... أعياهما سهر الامس...))
لمحتني، فلوحتُ لها، لكنها لم تكن لتراني، أو تصغي... إستلتْ قدحاً للآخر، إنزلق من يدي فوق عريشة القصب... تناثر في كل الإتجاهات... فأحترق المكان.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى