الأحد ١٧ شباط (فبراير) ٢٠٠٨

الإعصار ُوالجدول وقصص آخرى

بقلم: أسامة الحويج العمر

الإعصار ُوالجدول

سألتُ الإعصار عن وجهته، أجابني بخوف:

 ليتني أعرف!

أما الجدولُ فكان يترقرقُ بغبطةٍ وهو يعرفُ وجهتَهُ تمام المعرفة.

الحذاء..

أمضى معظم سنوات شبابه مُتنعّماً بفراديس بلادِهِ وخيراتها، كان يشعرُ بأنهُ يعيشُ في الجنة لدرجة أنه رفض الكثير من العروض للسفر والعمل في الخارج. أَحبَّ الجميعَ وشعر بأنَّ الجميع يحبُّهُ، لكنه قرر في النهاية أن يقوم بجولةٍ حول العالم للاطلاعِ على أحدث المستجدات في مجال تحقيق الرفاهية للإنسان، مع قناعته بكون بلاده هي المثال الذي لا يُضاهى في ذلك.

ما إنْ حَلَّقَت به الطائرة ودارت دورتها الكبيرة حتى أخذته الدهشة عندما لاحظ بأنَّ المخططَ التنظيميَّ للبلاد كان في صورة حذاءٍ عسكري!

ومنذ ذلك اليوم... منذ سنواتٍ وسنوات... والأهلُ والأصدقاءُ يبحثون عنه في كُلِّ مكان... دون جدوى.

سرقة..

بالقرب من الحديقة العامة، هَزَّ صراخُ رجلٍ أرجاء الحي:

 النجدة! النجدة! لصٌّ سرق مني ثروة عمري!

هبَّ كُلُّ من في الشارع، والشوارع المجاورة لنجدته. رأوه وقد أمسك بخناق شابٍّ في مقتبل العمر بدت عليه علاماتُ الذعر.

سأله أحدهم بحماسة بعدما أمسك الشابَّ من شعره:

 ما الذي سرقه منك... ذهباً أم فضة؟

وسأله آخر وهو يسحبُ حزام بنطاله:

 أموالاً أم ثياباً؟

أجاب الرجل بلوعةٍ والدموعُ تتلألأُ في عينيه:

 لقد سرق مني جواهر أفكاري!

ذُهل الجميع، واجتاحهم غضبٌ جارف، فهجموا عليه وأوسعوه ركلاً ولكماً حتى أدموه. ومن بين الجموع الهائجة انسلَّ اللصُّ وخطا خطواتٍ واثقة مبتعداً عنهم وهو يكتمُ ضحكاته!

وخلال فترةٍ قصيرة أصبح ثرياً بسبب متاجرته بجواهر الأفكار!.

تفجيرات... تفجيرات

كان فتحي مستلقياً على الأريكة يشاهدُ نشرة الأخبار مع زوجته وأبنائه الثلاثة.

كانت الكاميرا تنقلُ وفي بثٍّ حيٍّ صور ضحايا انفجار سيارةٍ مُفخخة، بدتِ الأشلاءُ متناثرةً في كُلِّ مكان. بينما الجرحى يئنون من الألم وسط شبكةٍ مرعبةٍ من صفاراتِ الشرطة والإسعاف.

تنهَّدَ فتحي بحرقةٍ حزناً على ما آلت إليه الأوضاعُ في البلاد، وانحدرت دمعةٌ من عين زوجته، أما الأطفال فكانوا يتأملون المشاهد بوجوم، ولكن فجأة حدث ما لم يكن بالحسبان، إذ إنفجرت سيارةٌ مفخخة أخرى في موقع الانفجارِ السابقِ، فانفجرت شاشةُ التلفاز وتطايرت عشراتُ الشظايا الملتهبة لتقتل أحد أبناء فتحي في الحال، وتُصيب باقي أفراد العائلة إصاباتٍ مُتفاوتةً، والأمرُ نفسُهُ حدث مع جميع من كانوا يتابعون نشرة الأخبار تلك في مختلف أنحاء البلاد، فكانت كارثةً وطنيةً لم يسبق لها مثيل.

قام الأهالي على الفور بإلغاء جميع القنوات الإخبارية والاقتصار على قنوات الأفلام والمسلسلات العاطفية والأغاني وبرامج الكاميرا الخفية؛ وشيئاً فشيئاً نسيَ الناسُ السياسة ومآسيها، فارتقتِ البلادُ على مَدِّ الفرح العارم، وعاشَ الجميعُ في هناءٍ وسعادة إلى أجلٍ غير محدود!.

اتحادُ بيتنا..

عندما رأيتُ كيف أنَّ رعايا تلك الدول ينتقلون بين الحدود دون تفتيش... دون فتح حقائب... دون نظراتٍ بوليسية متفحصة، يُطلبُ منهم فقط إظهار الهوية ليعيدوها إلى جيب سُترتهم على عجلٍ، والابتساماتُ وكلماتُ الاحترام تحاصرهم من جميع الجهات كحزامٍ من ذهب.

عندما رأيتُ كُلَّ ذلك في دول الاتحاد الأوروبي تذكرتُ على الفور اتحاد بيتنا الذي يجبُ أن أخضع فيه للتفتيش والمراقبة والمساءلة عندما أرغبُ باجتياز حدود غرفة أخي!!

جحيم بين جنتين

وُلدتْ لأبوين في غاية الثراء والحنان، بعد سنواتٍ قليلةٍ انفصلا إثر مشاحناتٍ دامية.. أصبحت تتنقَّلُ ما بين قصر الأم وقصر الأب اللذين لم يبخلا عليها بالمال والحب، لكنها كانت تعاني أشدَّ المعاناة من جحيم الطريق الواصلة بينهما.

أحبَّتْ أن يتحد القصران من جديد ليقطعا الطريق على الجحيم، بكت.. توسلت، طلبت من الأقارب والأصدقاء التدخل.. بلا جدوى..

وفي النهاية.. أثناء سيرها.. سقطتْ وسط ألسنة النار وهي تنظرُ بلوعةٍ إلى الجنتين اللتين تتلألأن على طرفي نقيض!

الجانبُ المظلم..

أراد القمرُ معاقبة البشر على التجاوزات الكثيرة والجرائم الرهيبة التي يرتكبونها بحقِّ بعضهم بعضاً وبحقِّ الطبيعة، فقرر إخفاءَ الجانب المضيء منه عَلَّهُم يثوبون إلى رشدهم ويرتدعون.. وكان الخسوف..

لكنَّ دهشة القمر كانت شديدةً عندما رأى ملايين الناس يخرجون من منازلهم للتمتع برؤية الجانب المظلم منه!

الصدفة..

كان يسيرُ على شاطئ البحر مُستمتعاً بإجازته السنوية وهو يقذف الرمل بقدمه بسعادة متأملاً لآلئ الذهب التي تتغلغلُ بين ثنايا الأمواج في عُرض البحر، تحت شمسٍ قَوامُها النشوة والحبور.

اصطدمت قدمُهُ بشيءٍ صلبٍ، فانحنى وأخرجه من بين الرمال دونما عناء.

كانت صدفة كبيرة، وضعها على أذنه فتوقف عن السير في الحال مستمتعاً بصدى الأمواج الساحر، خيّل إليه أنه يغوص في المحيط مأخوذاً بموسيقا مخلوقاته المدهشة.

تمنى لو أنه كان جزءاً من ذلك العالم المذهل بجماله، أما الصدفة فكانت تتلوّى من شدة الألم وهي تستمعُ رُغماً عنها إلى عذابات النفس البشرية وصراعاتها، أنين المعذبين، بكاء الأمهات الثكالى.. دموع الأطفال اليتامى.. أنهارُ الدماء.. قلبُ الإنسانيةِ المغربلُ بملايين الرماح.. الدمار والخراب في كُلِّ مكان.

أوشكتِ الصدفةُ على الانفجار في أذن الشاب لولا أنه رفعها في حركةٍ منتشية ليقذف بها في البحر، تنفستِ الصعداء، شعرتْ بسعادة لا مثيل لها، غاصت في الأعماق بحماسةٍ.. وعاد هو إلى بحره.

إنسان..

خرج سعيد، من الحديقة العامة متأبطاً الجريدة اليومية ليحمي بها رأسَهُ من أشعة الشمس اللاهبة.

كان وجهُهُ ساحةَ معركةٍ تَدورُ رحاها بين مئات التناقضات والأسئلة المكهربة.. بين الحاضر والمستقبل؛ مطأطئ الرأس كمن يحاولُ إخفاء أحداث المعركة الطاحنة.

على الرصيف المحاذي للحديقة مَرَّ من أمامه مُتسوِّلٌ ممزق الثياب تفوحُ منه رائحةٌ كريهة، فتحول سعيد فجأةً إلى رأسمالي ذي بطنٍ هائلةٍ يُدخن سيجاراً ويسيرُ بخيلاء مفكراً في أرباحه من آخر صفقة. لم يتمكن من رؤية المتسول الذي مَدَّ يدهُ وهو يدعو له بالتوفيق وطول العمر.

بعد قليلٍ مَرَّ من أمام سيارةٍ فارهة يملُكها مسؤولٌ كبير فتحول إلى خروفٍ مجزوز الصوف لم يلبث أن حاصرتهُ عاصفة قطبية كادت أن توديَ به. وحين وصل إلى أحد أفخم فنادق المدينة تحول إلى نملةٍ وُلدت بلا أرجلٍ على وشكِ أن تُسحق.

على بعد أمتارٍ من منزله المتداعي، عاد إلى حالته الطبيعية، موظفاً بسيطاً في إحدى الدوائر الحكومية، وما إن أصبح وجهاً لوجهٍ أمام زوجته وأطفاله حتى غدا جميع هؤلاء!!.

عارية... بجميع الألوان

تقدم الكاتبُ الكبيرُ لطلب يد فتاةٍ بعد قصة حب إعصارية، فاشترى لها جهازاً في غاية الجمال، طوقاً من ورق، أساور وخواتم من ورق، ثياباً وأحذيةً من ورق، أثاثاً ومنزلاً من ورق، بالإضافة إلى أعدادٍ لا تُعدُّ ولا تحصى من الأقلام بمختلف الألوان لتتكحّل وتتزيَّن بها حبيبةُ القلب! وغَلَّفَ كُلَّ تلك الإنجازات بمستقبلٍ من ورق!

بينما كان أهلُ الفتاة يبكون ويلطمون على حظِّ ابنتهم المشققِ وهم يقولون للناس:

 لقد بنت حياتها فوق أساسٍ من الورق المهتك.

كانت تُعنِّفُهُم وهي تقول:

 أحبه من أعماق قلبي.. إنه كاتبٌ كبيرٌ وأنا فخورةٌ به.. لن أسمح لأحدٍ بالمساس بكرامته.

بعد أشهرٍ قليلة حَلَّ الشتاء، فتبلَّلَ المستقبل الورقي مع قطرات المطر الأولى، وانهار فوق المنزل الذي انهار بدوره فوق العروسين، وتمزقت ثيابُ الزوجة العاشقة، وتناثرت أساورُها وخواتمُها على الأرض مشبعةً بالمياه والحبر بمختلف ألوانه وأشكاله..

فأصبحت عاريةً تماماً.. وبجميع الألوان..!!

العاقل..

هرول فارس إلى القبو ودفع باب المخزن بعنفٍ والتقط بندقية أبيه القديمة المحشوة بالرصاص وركض إلى الشارع والعرقُ يتصبَّبُ منه بغزارة، وبدأ بإطلاق الرصاص على المارّة الذين تردَّت بهم أخلاقُهُم إلى مستوىً لم يسبق له مثيل. لكنه فوجئ بأنَّ الطلقاتِ كانت ترتدُّ عنهم دون حتى أن يشعروا بها، ما عدا طلقة واحدة اخترقتْ جسد صخرةٍ كانت مركونةً في إحدى الزوايا، فصرخت هذه صرخةً اهتزت لها أركانُ الحي، ولم تلبث أن تدفَّقتْ دماؤُها بغزارة وهي تتلوّى من الألم، ثم سقطت على الأرض جثةً هامدة.

نظر فارس إلى المشهد بذهول، ثم قَفَلَ عائداً إلى منزله ساحباً البندقية من طرفها واعتكف في منزله فترةً طويلة عبداً بين يدي الكوابيس التي لم تُفارقْهُ ليل نهار، والتي تُصوِّرُ جريمة قتله للصخرة، فحسم أمرهُ وقام بإعدام البندقية شنقاً حتى الموت عقاباً لها على جريمتها الشنعاء!!

قنوات فضائية..

أدار الرجلُ الخمسيني جهاز التلفاز ثم جلس على الأريكة ومَدَّدَ ساقيه على الكرسي الموجود قبالتَهُ وبدأ بالتهام المكسَّرات التي أحضرها معه من السوق.

ظهرت على الشاشة قناةٌ دينية، ضغط زر جهاز التحكم فظهرت قناة إباحية!

حملق فيها الرجل باهتمامٍ بالغ وهو ينظرُ بين حينٍ وآخر إلى غرف النوم خشية أن يأتي أحدُ أفراد العائلة ويضبطهُ بالجرم المشهود!

كانت عيناه ترقصان على إيقاع المشاهد، بينما همهمت شفتاه بشتائم موجهة إلى زوجته القميئة!

بعد دقائق بدأ بتغيير القنوات خشية أن يدهمَهُ أحد ما وهو يتحسر على أيام الشباب، وبقي على هذه الحال إلى أن غلبه النعاس فاستلقى على الأريكة واستغرق في نوم عميق.

فقال التلفازُ لنفسه بحسرة:

 رحم الله أجدادنا الذين لم يكونوا يعرفون إلاًَّ قناةً واحدةً.. ومبدأً واحداً، حيث كان جميعُ أفراد العائلة بالإضافة إلى الجيران والأقارب يجلسون قبالتهم مبهورين مأخوذين بالرغم من هيئتهم البسيطة وطبيعتهم غير المعقدة، أما نحن الأحفاد – ورغم كل ما نتمتعُ به من تطور – لا نعرف إلى من ننتمي، هُويتُنا أصبحت في خبر كان، تظهرُ على شاشاتنا برامجُ وأفلامٌ مُتناقضةً إلى أقصى الحدود.. ضائعون في وحول التنافر والتضاد.

ثم نظر إلى الرجل النائم الذي علا شخيرُهُ وقال له:

 ما أشبهنا بك يا إنسان العصر البالغ التقدم!.

الوطن..

غادرتِ الغالبية العظمى من المواطنين أرض الوطن، بسببٍ الرمال الاقتصادية المتحركة التي أغرقت البلاد في جحيمها، وما رافقها من بطالة وفسادٍ ومحسوبيات وهدرٍ للمال العام وقمعٍ للحريات وضياعٍ للحقوق.

شعر الوطنُ بالغربة الشديدة والحنين البالغ إلى أبنائه الذين تفرقوا في شتى بقاع العالم سعياً وراء الرزق. فأُصيب بمرضٍ نفسي خطير، وبدأ يضمُرُ بالتدريج حتى وصل إلى ربع حجمه الحقيقي، بدا كهيكلٍ عظميٍّ خالٍ من الثروات البشرية والطبيعية.

كاد أن يلحق بهم لولا أن دهمته أمراضُ الشيخوخة المبكرة من صلعٍ تمثل في فقدانٍ مأساويٍّ للمساحات الخضراء، وتدهورٍ سريعٍ في الذاكرة، واكتئابٍ شديد وداء باركنسون الذي جعل جسده الضئيل يرتعشُ بعنف بصورة مستمرة كورقة خريفٍ على وشك السقوط.

عندما سمع الأبناءُ ما آلت إليه أوضاعُ الوطن الأم قَفَلوا عائدين على جناح السرعة وبدؤوا بحقنه بكافة أنواع المغذّيات التي أحضروها معهم من بلاد الاغتراب.. ومازالوا يعملون من أجل بداية جديدة.

بقلم: أسامة الحويج العمر

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى