الثلاثاء ٢٦ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم تغريد كشك

العيون الحاقدة البلهاء

إنه الحادي عشر من نيسان، عشر سنوات مضت منذ أن كان هذا اليوم يحمل أجمل اللحظات، ولكنه التاريخ يعيد نفسه باستمرار، أيعيد نفسه اليوم بعد هذه السنوات؟!
أغلقت باب سيارتها بهدوء وتوجهت نحو باب المطعم تتقدمها خصلة شيب فوق جبينها وخطوط رفيعة اقتحمت المنطقة المحيطة بعينيها فأضفت على وجهها مسحة من حزن ووقار.
تقدمت نحو باب المطعم تجرّ خلفها سيلاً من ذكريات أعوام مضت، سبقها إلى يد الباب، فتحه وتناول معطفها، تقدمها نحو طاولة في زاوية الركن الداخلي للمطعم وساعدها على الجلوس.
ذاك العجوز صاحب المطعم ما زال يجلس هناك في الزاوية المقابلة ترافقه نرجيلة طويلة تحيطها هالة كئيبة من الدخان.
جلست، تفحصت المكان بدقة، لقد تغير لون الجدران ولون المقاعد والطاولات، وهذا القفص ما زال يضم بين قضبانه ببغاء، لكنه حتما لن يتعلم كيف يردد اسمها كما كان يفعل الببغاء السابق.
رأته يقف أمامها مجددا، طلبت قدحاً من النبيذ الفرنسي الأحمر، زيتون، سلطة يونانية، صحناً من شرائح البطاطا المقلية، قاطعها قائلا: وصحن التبولة.........
لم تتمالك دهشتها، صرخت ... مصطفى أما زلت هنا؟!
لماذا لم أنتبه لوجودك، كيف لم أتعرف إلى صوتك وعينيك؟!
صمت، نظر إليها متفحصًا وجهها الذي بدا كبحر هائج بعد سكون طويل، سألها عن أحوالها، سألته عن عمله،تحدثا طويلاً.
لم أعد صبي مطعم صغير، فبعد أن أنهيت دراستي الجامعية عملت ليلاً ونهاراً في هذا المطعم وتزوجت صفاء ابنة صاحب المطعم العجوز بعد أن اشتريت حصة فيه،
 وأنت ؟! ماذا عنك يا وفاء؟
 دكتورة وفاء، أجابته ضاحكة.
 حقا!
 نعم حصلت على شهادة الدكتوراة قبل شهرين فقط وأعمل الآن أستاذة في الجامعة.
عاد بجسمه النحيل خطوات إلى الوراء، أحس بها سنوات، بل آلاف الأميال تفصل بينهما.
وفاء تلك الصبية التي أحبها بصمت منذ سنوات، تلك الصبية التي كانت تدرس معه في الكلية وتقطن منزلاً للطالبات يقابل شقته.
كان يلحظ اهتماماً في عينيها، كم حاول أن يصارحها بحبه، ذلك الحب الذي ملأ قلبه فرحاً وإيمانًا بالاستمرار في الدراسة والعمل والاجتهاد .
ظل يحبها بصمت طيلة أربع سنوات، يفكر كيف يصارحها بحبه وهو الذي يحمل إليها صينية الطعام ، ينتظر أن تدفع الفاتورة، يحييها بصمت ويرحل، وفي الصباح يلتقيان، قد تستعير مذكراته احيانا، فقط عندما تنقطع عن الحضور إلى الكلية لترافق ذاك الشاب صاحب السيارة الفارهة والعينين الخضراوين، لن ينسى ما كان يبعثه بريق عينيه من خوف في قلبه، ترى هل تزوجته؟
صمت فجأة عندما سمعها تجيبه.
 نعم تزوجته يا مصطفى، سنوات طويله مرَت على بداية المعاناة والألم، تزوجته وسافرت ولكني عدت بعد انقضاء السنة الأولى محامية شابة لم تتجاز الثالثة والعشرين إلاّ بعدة أشهر، أحمل بين يديّ مشعلا من نور وآخر من نار، الأول يؤهلني لحياة مهنية جديدة، والآخر يعود ليرمي بي بين أحضان مجتمع لا يرحم وأهل تمتلىء قلوبهم بالحب مرة وبالحقد والكراهية والقمع مرّات.
قاومت وطفلي لأحيا، قاسيت الجوع والمرض، سهرت أعمل وأدرس رغم كل الأفواه المفتوحة والعيون الحاقدة البلهاء التي كانت تحاول استغلالي ويزيد حقدها مع كل خطوة أسيرها نحو الأمام.
صمتت، أغمض عينيه، وجد نفسه صغيراَ، قزماً أمام جبروتها.
كان يعتقد أنه تعب وقاسى ليصل، ولكنها تحدت، صمدت لتعيش ولتغلق آلاف الأفواه المفتوحة والعيون الحاقدة البلهاء .
سألته عن أحواله.
صمت وأغمض عينيه، أخفض رأسه المثقل بالكثير من الأفكار، أحس أن مطارق المجتمع الحديدية وعاداته الطباشيرية الباهتة قد أعادته عشر سنوات إلى الوراء، هرب نحو الماضي، لم يجد أمامه سوى جبروتها وضعفه، لم يجد أمامه سوى آلاف الأفواه المفتوحة والعيون الحاقدة البلهاء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى