الاثنين ٣ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم صبحي فحماوي

القط الصومالي!

بعدما حصل القط الإمبراطوري (روك) على الميدالية الذهبية في مصارعة القطط الدولية، على غرار مصارعة الديكة في بانكوك، ومصارعة النسانيس والأفاعي في هونج كونج، ومصارعة الثيران في إسبانيا، ومصارعة الناس على سطح الكرة الأرضية، وقف على منصة المصارعة الدولية، مستنفراً شعر جسده الفرائي، وجاحظاً عينيه الحولاءين، ومشنفاً أذنيه الطرشائين، وأشار بسبابته المظفرة بمخلب يشبه سونكي البندقية، معلناً عن تحديه لأي قط في العالم، كي يصارعه ويصرعه! وبعد صولات وجولات على خشبة المسرح الدولي، خبط نفسه على الحبال الشرقية للخشبة، ثم قذف نفسه على الحبال الغربية، فالشمالية، فالجنوبية، ولكن أحداً لم يقف في وجهه! وبعد مؤتمرات وتصريحات ومحاورات، لم يعارضه فيها أحد، قال له أحدهم:‏ هنا قط صومالي يتحداك، ويقول إنه سيهزمك بضربة قاضية! فجن جنون القط (روك). وما هي سوى ساعات معدودات، حتى حزم أمتعته، ولبس كل أدوات المصارعة، وطار بطائرة بي بي 55، فأنزلته على سطح سفينة طائرات عملاقة، كانت تغطي شواطئ مقديشيو، ذلك لأن الطائرات لم تنزل في مطار مقديشيو منذ عدة سنوات، لدرجة أن العطش وعوامل التعرية قد شققت مدرجات المطار، فلم يعد صالحاً للاستخدام.‏

ومن حافة السفينة التي تحمل اسم «الجبل الجليدي»، قفز (روك) وأدوات مصارعته تحت إبطه، مثل (تأبط شراً)، فإذا به على اليابسة. ومن هناك انطلق كالسهم، باتجاه مقديشيو... فتش روك عن القط المذكور في كل مكان، فلم يجده..!‏

«أين أنت يا أخو الـ..!» هم هكذا عادتهم. فالمصارعون من هذا النوع الثقيل، يشتمون زملاءهم على حلبة المصارعة بعبارات بذيئة، بهدف التسخين... راح يركض في الحارات، ويصرخ في الطرقات وهو ينادي، فلا يسمع جواباً.. طارد الريح هنا وهنا، وتسابق مع الأرواح والأشباح، أمام كل الجياع المرتمين على الأرض المغبرة، وبعدما أعياه البحث، وضعفت بطاريات عينيه وهو يحدق في الطرقات، قالوا له وهم يتضاحكون:‏

«انظر، إنه هناك، ينام على التراب!» فانتفض القط الإمبراطوري، وتقدم منه بحركة مسرحية إعلامية مبرمجة، وقال له: «هو أنت القط الصومالي الذي يتحداني؟» فلم يجبه المنادى. فكرر استثارته وتحديه، ولكن بلا مجيب. فما كان منه إلا أن هز رأسه تيهاً، ولببه من عنقه، ثم ضربه ضربتين قاسيتين على وجهه، أطارتا الشرر من عينيه، فقام المسكين قائلاً له بصوت متحشرج: «أرجوك أن تتركني في حالي،فأنا لا أتحداك». قال قوله هذا ثم ارتمى على الأرض. لم يستفد روك من تحدي خصمه، فقرر أن يستثير كرامته صارخاً في وجهه: «أنت لا تتحداني يا أخو الـ..! كلهم قالوا عكس ما تقول!».‏

«ولكنني أقول لك: إنني لا أتحداك!» لبّبه مرة أخرى، وزفر في وجهه قائلاً: «هل أنت مستسلم لي؟ أفهمني، هل أنت معي؟».‏

تضايق الصومالي وازدادت تعاسته، فأجاب متحايداً الشر: «أنا مع الله»! فغضب الإمبراطوري روك، وسحب نفساً عميقاً ثم قال لمحطات التلفزة التي تتمترس في المكان، وكأنها دروع غزاة: «من لم يكن معي، فهو ضدي! وما دمت لست معي، إذن فأنت ضدي! طيب خذ» وضربه عدة ضربات لم تزعزع فيه شيئاً. ولكن الصومالي قام من تمدده فوق التراب، ونشّ الذباب عن وجهه وجسده، وانتفض، فاكفهر الجو بالغبار الذي كان عالقاً به، ثم تقدم من القط، وقال له: «هل أنت مستعد للمصارعة؟» فتنطط روك على الحلبة الترابية، وصرخ بأعلى صوته قائلاً: «طبعاً مستعدّ، وستين مستعد! واجني إذا كان فيك ذرة كرامة!».‏

فما كان من الصومالي إلا أن ضرب القط ضربتين سريعتين، شعر الإمبراطوري بهما وكأن تياراً كهربائياً قد مسّه بسوء، فجعلتا الدنيا غُبارية وليست ضبابية في ناظريه... لم يعد يرى شيئاً، فصمت عن الكلام المباح... فهلل الحضور، وأعجبوا بما شاهدوا، وأمسكوا بالقط الإمبراطوري من قدميه، وسحلوه على شوارع مقديشيو الترابية، فكنت ترى الغبار متصاعداً إلى عنان السماء، ثم شاحوه ولاحوه، ثم رموه فوق حاملة الطائرات، التي أوصت له بطائرة مصارعة خاصة، أقلته إلى بلاده...‏

دهش القط الإمبراطوري من تلك الواقعة..! ما الذي حصل؟ فلقد نجحت في معظم جولاتي الصراعية حيثما حللت، ولكنني على يدي هذا الحثالة، فقدت توازني وغبت عن الوعي! عاد إلى ناديه الرياضي، وأنت تعرف أن نادي القطط الإمبراطوري الرياضي الدولي، شيء مهيب، ولا يُمزح معه!‏

وفي اجتماع موسع مع مستشاريه، قرروا له تدريبات شاقة، فتابعها، وحصل منها على الحزام الأسود ـ يا لطيف! ـ وأعلن من هناك، أنه قادم ليرد الصاع صاعين لذلك القط الصومالي الأجرب..! وأنه سيفوز بالضربة القاضية.. سيكون تثبيتاً وهيمنةً نهائية..! وبعد استعدادات وتسخينات، وكل ما هو آتٍ آت، انطلق القط الإمبراطوري مثل انطلاق طائرة فوق باخرة عسكرية، فضرب الصومالي المتمدد ضربتين، أدمتا أنفه، فقام النائم من نومه، ونشّ الذباب عن وجهه، وقال له:‏

ـ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! اعتقدتُ أنك قد ذهبتَ وانتهيتَ من مناكفتي، ولكنك قد رضيت من الهزيمة بالإياب مرة أخرى!‏

لم تطل جولة المصارعة، فلقد ضرب الصوماليُّ القط الإمبراطوري عدة ضربات، أفقدته الضوء.. فلم يعد يرى ما هو أمامه، ولا ما حوله، ثم خرّ مغشياً عليه.. ضربة قاضية..! فتصايح أشباه العراة المحيطين بالحلبة الترابية، والذين تجمعوا من كل الحارات المظللة بالقش، والأزقة الصفيحية، فهتفوا وابتهجوا، وحيوا الفوز الساحق! وهنا تقدم الإمبراطوري روك من الصومالي بروح رياضية، وقال له بانحناء: «أنا أعترف بهزيمتي أمامك، ولكنني مندهش من ذلك! فأنا لم يغلبني قبلك قِطٌ، قطُّ أبداً، لا في مشارق الأرض، ولا في مغاربها، فكيف بأهالي الجنوب الذين...! قل لي بالله عليك، ما هو سرُّ قوتك؟» فانتفض الصومالي، ونش عنه الذباب المتكاثر، والذي أخذ يدمي مقلة الإمبراطور المنهزم، وقال له: «في الحقيقة، أنا لست قطاً كما تعتقد، بل نمر، وأودُّ أن أعلمك أنه لا يوجد قطط هنا في الصومال، فنحن نُمورٌ، ولكن الجوع هو الذي أتلفنا، ورمانا هذه الرمية القذرة..!».‏

حملوا الإمبراطوري المهزوم روك، وشاحوه ولاحوه، ثم قذفوه إلى السفينة التي تحمل اسم ـ الجبل الجليدي ـ حيث كانت تنهار بفعل الذوبان الجليدي عند خط استواء الصومال، وتفقد كفاءتها وهي تبحر مبتعدة.‏


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى