الأربعاء ٥ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم محمود سعيد

مشكلة الهمزة

أليس من الغريب أن نخطئ بالإملاء وبلادنا بالذات هي التي اخترعت الكتابة؟
وعندما أقول بلادنا فأعني بها بلادنا العربية، وتحديداً المثلث المحصور بين لبنان، العراق، مصر. ففي هذه الرقعة الجغرافية المحدودة اُخترع أولٌ حرف للكتابة في العالم، ثم طور بعدئذ إلى أبجدية كاملة، ليجعل من الكتابة والقراءة أهم ابتكار إنساني حضاري، ثم قدم هدية مبهجة إلى العالم كله سلماً للتطور، فتمسك به.

وعندما أقول نخطئ بالإملاء. فاعني أول ما أعني الخطأ في كتابة الهمزة.
أليس هذا بغريب؟
ربما يعتقد بعضنا بأن ليس هناك وجه للغرابة، فشعوب العالم كلها تخطئ في كتابة لغاتها. فعلى سبيل المثال يعتبر الخطأ في الإنكليزية قاعدة عامة تشمل الجميع. كتاباً متمرسين، لغويين، أساتذة جامعات، طلاباً، ناساً عاديين، مثقفين ذي مستويات مختلفة، باختصار جميعهم. أما الاستثناء الشاذ عند الكتاب في الإنكليزية فوجود من لا يخطئ بالكتابة.
هناك احتراف مهني في مجتمعات دول العالم الأول: "أوربا على اختلاف أقطارها ولغاتها، كندا، الولايات المتحدة، استراليا" يدعى بالمدقق اللغوي. والمهنة أو الوظيفة هي: (إدتنج) وتعني التدقيق اللغوي. وهي ظاهرة حضارية متطورة لا سبيل لغض الطرف عنها.

لا توجد مثل هذه المهنة عندنا كاحتراف متاحة خدماته للجميع كما في الدول الأوربية، وإن وجد فوجوده خاص بمؤسسات تعمل في حقل الإعلام من جرائد ومجلات وإذاعات، وربما بعض دور النشر لا كلها. وعندما أقول عندنا أقصد البلدان العربية جميعها، كالعراق حيث نشأت، ومصر ولبنان وسورية والأردن حيث نشرت، وبقية الأقطار العربية التي تزيد على العشرين.

في بلادنا العربية يترك الكاتب ضبط وتدقيق أسلوبه وتعبيره له، أو لجهده، فإن كان متضلعاً باللغة فلا يحتاج لمن يصوب له لغته، أسلوبه، تعبيره. أما إن لم يكن كذلك، ويحترم أدبه وقرّاءه ويطمح لإيصال، ما يبدع بشكل حسن، فقد يلجأ إلى شخص يتلمس فيه خبرة وعلماً، ليقرأ ما كتبه ويصوب أخطاءه. وقد يبدو هذا تصرفاً حميداً لا شائبة عليه، لكن النتيجة تكون عكسية، وقد تصبح كارثية إن لم يكن الشخص المقصود ذا وازع أخلاقي، وإنساني، وضمير حي عادل.

وأمامي شاشة كبيرة عليها تجارب لا تحصى، أهمها تجربتان، الأولى لصديق فيلسوف علماني عميق التفكير، نشر كتاباً فريداً في العلم والفلسفة والتراث، كان من الممكن أن يكون رائداً في حقله، لو لم تقتل جهده الأخطاء الكثيرة من تعبيرية ونحوية وإملائية ولغوية والمبثوثة في الكتاب بشكل لا يتصوره عقل. وكنت تناولت الكتاب بمقالة تشيد بالعمق الفكري وسعة التمكن المعرفي والفلسفي، لكني صدمت لانهيال أخطاء التعبير من كتابية وإملائية، وقسوت في نقد الكتاب، لكن الكاتب عندما التقاني أخبرني أنه ضحية أستاذي جامعة من أصدقائه مختصين باللغة العربية، وكان عهد إليهما بتصحيح لغة الكتاب. وشكرهما في المقدمة التي تجاهلت قراءتها أنا، وكان ذلك خطأً كبيراً مني، فماذا يفعل أكثر من ذلك؟

تأكدت بعدئذ أن هذين الأستاذين، لم يقرأ االكتاب قط، أو ربما قرأا بضعة أسطر أو بضع صفحات منه فقط. لأني رأيت في الصفحة الأولى غير خطأ، ورأيت في بقية الصفحات أخطاءً أكثر.

أما تجربتي مع التدقيق اللغوي فكانت أكثر أسىً ومضاضة. قدّمت بضعاً وعشرين قصة قصيرة للنشر إلى دار قاهرية. وكانت جميع القصص منشورة في مجلات وصحف عربية مرموقة كالآداب اللبنانية، الحياة اللندنية، الأديب المعاصر الدمشقية، مجلة المدى، الخليج الإماراتية، أخبار الأدب القاهرية الخ. أردت نشرها في مجموعة قصص. قلت لصاحبة الدار وأنا أقدم نسخاً من القصص المنشورة: سيدتي، إن هذه القصص لا خطأ فيها، إنها منشورة جميعاً في أفضل المجلات والصحف العربية، وأرجو أن تنشريها كما هي في هذه الصفحات من دون تغيير.
ويبدو أن صاحبة الدار متوافرة على حسّ حاد في استغفال الآخر وخداعه، وأنها تمرست فيه، أجابت: سأرسل لك نسخة ما قبل الطبع النهائي فصححه أنت. كانت تلك خدعة متمرس داهية لم ألتفت إليها لبساطتي. ثم فوجئت بنسخة ما قبل الطبع النهائي تصلني بالبريد، فوجدت فيها مئات الأخطاء. عندئذ أرسلت لها رسالة قلت فيها: إنها شوهت لغة القصص، وأحدثت مئات الأخطاء لم تكن موجودة. وعليها أن تتوقف عن طبع الكتاب إلى أن نلتقي. عليها إن أرادت أن ترجع إلي ما أخذته مني. أو تنشر الكتاب مصوراً كما هو، وتلتزم بالنص حرفيا من دون تغيير. لكنها لم تلتفت إلي ونشرت المجموعة، مع كم هائل من أخطاء مخجلة يزيد على 800 خطأ. بما فيه خطأان لا يمكن غفرانهما قط، الأول خطأ في العنوان، فلم تضع فاصلة أو نقطة، كما هو موجود، فأدّى ذلك الخطأ إلى قلب المعنى كلية، وتشويهه تشويهاً كاملاً. كان العنوان: طيور الحب… والحرب. فكتبته : طيور الحب والحرب. وكانت من الغباء والجهل والغفلة إلى حد بعيد، إذ لم تدرك أن طيوراً للحب والحرب لم تخلق قط لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة. وأن الموجود على الأرض هو طيور الحب فقط، وأن القصة تروي ما لقيته هذه الطيور في أيام الحرب. أما الخطأ الثاني فهو أنها كتبت اسمي محمد ، بدلاً من محمود. وفي مقدمة المجموعة ص 5:
محمد سعيد كاتب عراقي الخ.
اِلتقيتها بعدئذ، قالت: لا حجة قانونية لديك لتدينني.
  وماذا عن ردي، وطلبي لك بالتوقف.
  لا تستطيع أن تثبت ذلك.

نعم، قالت الشيء الصادق الوحيد، أنني لا أستطيع أن أثبت أمام القضاء إن أقمت دعوىً عليها أنني أرسلت الرد، إذ لم أكن خبيراً بالغش والتلاعب بالقانون، حتى لو أرسلته بالبريد المسجل فلا أستطيع إثبات أنني أرسلت الرسالة عينها؟ أما النتيجة فكان إتلاف النسخ التي وصلتني كلها، وتوزيع عدد لا يزيد على أصابع اليد بعد تصحيح الأخطاء في ساعات طوال.

في مجموعة القصص تلك شوّهت دار سيناء الكتابة كما تم تشويه كتاب صديقي الفيلسوف. ومن التشويهات الكثيرة في الكتاب الأخطاء المتعاقبة في كتابة الهمزةً: فالآمال كتبت الأمال. الإنكليزية كتبت الانكليزية، بدا أنه، كتبت بدأ انه. المزاح، كتبت ألمزاح. نعم توجد أخطاء وقعت فيها دار سيناء لا تمت إلى الهمزة بصلة، لكن أخطاء غير الهمزة واضحة للعيان، يمكن تداركها. وأخطاء الهمزة مشكلة فيها نظر.
ولعل من المفيد ذكر تجربة تعليمية، فقد أمليت بعض الكلمات فيها الهمزة على نحو مئة طالب في الصفين السادس العلمي، والسادس الأدبي، وهما الصفان الإعداديان اللذان يسبقان انتقال الطالب في العراق إلى الجامعة. وكان نسبة من كتب الكلمات صحيحة كلها، صفر بالمئة، ثم تفاوتت النتائج بعدئذ، لكن الجميع أخطؤوا في كتابة كلمة "مبتدئاً". منذ ذلك الحين بدأت أفكر بكتابة الهمزة. فمن المستحيل أن يخطئ مثل هذا العدد في نقطة واحدة. لأن هذا يعني احتمالاً أو أكثر مما يأتي:

  1. كتابة الهمزة صحيحةً مستحيلةٌ، وهذا أمرٌ مرفوض ومستحيل لأن الحرف المنطوق يجب أن يكتب صحيحاً.
  2. إننا فشلنا في تدريسها، وهذا صحيح، فإن كنا نجيد التعليم وفق أسس صحيحة فلابد من خلق جيل يكتب بشكل صحيح.
  3. إن طرق تدريسها خطأ، وهذه نقطة يتوجب التوقف عندها لأنها تحتاج إلى دراسة علمية.
  4. عدم تفهم طبيعة لفظ الهمزة.

إنني أميل إلى تبني السبب الأخير، ودراسة السببين الثاني والثالث.
لماذا ؟
هناك الكثير من الأخطاء يقع فيها الكاتب العربي، منها على سبيل المثال عدم التمييز بين الهاء والتاء الملفوفة، (دمْعُهُ. دمعَةٌ) ومنها ما يختص بالإدغام، والتشديد، وإعلال الألف، والقلب: (قلب الواو ياءً، والياء واواً). وأخطاء المعتل، والخلط بين الضاد والظاء الخ. لكن الهمزة تبقى أهم مشكلة يعاني منها الكاتب العربي في جميع مراحل تطور كتابته.
ولعل أبرز الأمثلة كتابةُ الفعل المهموز الآخر مع الضمائر:

اِقرأي. اِقرئي.
قرأا، قرءا،
قرؤوا، قرأوا، قرءوا.
يقرؤون، يقرأون، يقرءون.
ويحدث الشيء نفسه مع الأسماء، فتكتب هذه الكلمة على شكلين:
رَؤُف،، رءوف. رؤوف.
رُؤس، رُءوس. رؤوس. الخ

.

أهم سبب للخطأ بالهمزة هو وجوه كتاباتها المتعددة كما رأينا، فالمفروض أن لا يكون لكتابة أي كلمة سوى وجه واحد فقط، فتعدد أوجه كتابة الكلمة دليل تخبط وعدم استقرار، يجب علينا أن نصطلح على إنهاء ما يقال في نحونا: يجوز الوجهان، فكتابة اللغة قضية لا تحتمل الوجهين، ككفارة الإفطار في رمضان!

لطول النص ولوجود جدول طويل فيه نشرناه في ملف فلاش، وآخر بي دي إف يمكن لكل راغب في المتابعة النقر على زر الملف أدناه لقراءته


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى