الخميس ١٣ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم ناصر الريماوي

جاليريا

متقنة، توشك أن تنطق، أو هكذا تراءى لي، النظرة الحانية تطغى في تحولاتها الرصينة لتثقب صفحة الضوء الخافتة عند طرف الّلوحة المقابل، الوجوه تزحف ببطء، تشيعها بنظرة أخيرة وعابرة للتحول إلى غيرها، الصالة بدت كدهليز معتم تنوء بهدوء ثقيل يليق بالنخبة، في حضور مقتضب، تحول مع الوقت إلى همس حاد أخذ بالتصاعد، سرعان ما تكفلت قواطع الإسبستوس بامتصاص جذوته.

اللافته المضاءة عند أول الممر، تؤكد على ضرورة التقيد، بالمسافة المحددة للنظر وإستخدام التقنية المتوفرة في تحقيق التكامل البصري، لكل لوحة، أدركتُ شيئاً مما تعنيه تلك اللافته، حينَ توغلتْ بعض المفردات في بروزها المجسم وراء خلفية معتمة وببطء شديد، لكني لم اتحول، تجذرتُ عن قصد أمام بورتريه النظرة الحانيه "هموم على طاولة الوطن"، كان نصف الوجه يتكىء على راحة اليد، أسفل الذقن، بينما تناثرت خصلات كستنائية اللون حول شلال من الشعر المرسل، تدفق من خلال حزمة واحدة، إنبثقت للتو من أعلى الجانب الأيمن للنافذة، زغب خجول ينحدر مع إنحناءات الخد يلمع تحت وهج الإنارة المصوبة، من خلال مصدر نقطي دقيق مخفي، لم تكن السلسله الذهبية التي تدلّت بأيقونتها حتى تخوم الصدر إلا لوحة أخرى للجمال الآسر، تحولتُ مرغماً لإفساح المجال تحت إصرار وافد جديد، اللوحة المجاورة "طموحات شابة" تبعث على كآبة حصرية، لعجوز شمطاء، تبثُ من عينيها كتلاً ملتهبة من شبق يسكن الاعماق، متصابية، نظراتها أصابتني بالقشعريرة، اليافطة خارج الصالة تقفز إلى ذهني من جديد... "نرحب بالنخبة... أولاً" تساءلت في حيرة... ما الذي يمكن للنخبة أن تراه، غير هذا؟!

بعد قليل، كنت أخضع لتأثير اللوحة "الحانية" من جديد، غافلتُ الحضور بالتطاول فوق الشريط الفسفوري الذي يرتكز على مساند فضية على إمتداد الصالة، حنيتُ قامتي في تجاوز ملفت، هممتُ بلمسها، إنتفضتُ وأنا أتراجع دفعة واحدة، كان صوتاً رزيناً لا يخلو من الريبة على الرغم من إنتقاء الكلمات بلباقه لرجل متأنق، برز خلسة: سيدي... كيف يمكنني أن اخدمكْ؟

 شكرا فقط أحاول التعامل مع اللوحة

تقدم مني وهو يوصي بضرورة التقيد بالمسافة الثابتة للرؤية، وراء الشريط،
ثم ناولني منظاراً إسطوانياً دقيقاً: سيدي... هذا سوف يساعد على تحقيق رؤية متكاملة... قالها في لباقة متناهية، ثم توارى مبتعداً خلف حضور كثيف لظلال النخبة، جعلتُ المنظار في قبضة يدي تماماً، وشددتُ عليه.

أمام النافذة المضاءة على عتمة الدهليز، وبعد أن تخلصتُ من ظلال شاركتني المكان في تلك اللحظة، شعرت بإغراء الفتاه المصلوبة على أفق اللوحة، تطاولت فوق الشريط مرةً ثانية، حتى دنتْ من يدي صفحة الوجه الحانية، مررتُ أناملي على صفحتها المصقولة، ثم تجرعت المفاجئة، حين غاصت يدي نحو عمق اللوحة، حيث تسبح المفردات في خلفية داكنة، أغواني فراغها المعتم بالمتابعة، فحركت أناملي نحو خصلاتها المتناثرة، تحسستها، كانت تنبض حية وسط الفراغ، مررتُها فوق وجنتيها، أغراني دفئها بالمتابعه، انزلقت يدي في شغف نحو صدرها النافر، تلاحقت أنفاسي في إضطراب، كان صدر الفتاة ينبض... خلته يعلو ويهبط تحت وطأة الهموم وهي تزين طاولة الوطن... قلت في إرباك حين داهمني هذا الشعور: كم هي جميلة تلك الهموم تحتاج لمن يفك أزرارها عنها قبل طرحها على تلك الطاولة، رغم الشفافية المطلقة للرداء تحت شعار التعامل مع تلك الهموم... لكن... سحقاً لكل الهموم... فكلنا نعشق الوطن.

الايقونة تعترض يدي، في إنزلاقها الاخير... نحو القمة النافرة، احتوتها أصابعي في مجون، دون اكتراث لتسارع ضربات قلبها أو إرتعاش لأناملي الزاحفة، بينما تراخت قبل الإنزلاق الأخير نحو مجهول تمدد فوق تلك الطاولة المفترضة، شددت من قبضتي حول الايقونة، انفصلت عن سلسلة الصدر لتستقر في يدي.

سطعتْ أنوار كثيفة، فتكت بالعتمة، وبشكل مفاجىء، تلتها موجة حادة من التصفيق بين الحضور، ترنحتْ على إثرها كل الوجوه الساكنة وهي تطل من إطاراتها المزخرفة لتنحني امام الجميع، الفتاة الحانية تبسط ذراعيها وتحني قامتها للنخبة، تبعتها العجوز المتصابية، ثم باقي الوجوه على إمتداد اللوحات الاخرى في تتابع غريب، ستائر خشبية بلون الجدران تنسدل تدريجياً معلنةً نفاذ العرض... أما الأيقونة... فلا زالت في يدي!

أربكني توالي المفاجآت، بذلتُ جهداً للتماسك امام النخبة وسط ذهول وحرج بالغين، تحول الجميع إلى بهو الصالة بعد ان تحررت خطواتهم من بطئها امام اللوحات التي بدت كنوافذ مغلقة على الجدار المقابل.

الفتاة الحانية تعبر مسرعة، من بوابة جانبية تمر بين الحضور بخطى ثابته نحو بهو الصالة، تبعتها بنظراتي، وأن أشدد من قبضتي على تلك الأيقونة، حتى توقفتْ أما طاولة تحلق حولها ثلاثة من الحضور كانوا يصغون بإهتمام بالغ لشخص يفيض شرحاً، تبينته على الفور، كان هو ذلك الرجل المتأنق في بذلته الرسمية، وقفتْ إلى يمينه، ثم حنتْ قامتها لتسر له بحديث خافت، دفعني الفضول فأقتربتُ أكثر، تبدلت ملامح الرجل، بشكل مفاجىء وهو يصغي لها، تبادلا همساً قصيراً، ثم إنتصبتْ، وراحت تمسح المكان في شبه دائرة، بعينين نافذتين تبحثان عن شيء ما... حتى وقع بصرها عليّ، فهمستْ للرجل المتأنق وأشارت بيدها نحوي، رشحت بضع قطرات من عرق بارد، على جبهتي، حين تذكرت ما بدَرَ مني نحوها، مما زاد في إرباكي وضاعف من حرجي.

العجوز المتصابية، إلى خارج الإطار، ليست سوى كومة من الطموحات الغائرة فوق مقعد عريض في الغرفة الجانبية، أما الفتاة الحانية فقد بدت حانقة، وهي تقف تضم ساعديها إلى صدرها في تحفز، إنتفضت ثم صرخت في وجه الرجل المتأنق عندما رأتني أعبر الباب برفقته: نعم هذا هو... !!

حاولت التماسك وانا أعلن إعتذاري أمامهم: المعذرة، لم أكن أقصد التحرش... أنا كنت أقصد اللوحة... وحسب.

زمجرت الفتاه في وجه الرجل المتأنق وكأنها عثرت على دليل إدانه: هل سمعتْ؟ لم اكن مخطئة، لقد كان يقصد اللوحة فعلاً، وهذا يكفي... ثم لطمت ساقيها بيديها في نزق وإستدارت، تحركت العجوز في بحر الطموحات بتثاقل نحو الفتاة تطالبها بالتهدئة: لم تكن سوى مبالغة، لها ما يبررها كونها هموماً مفتوحة على جميع الإحتمالات... أنا واثقة.... ثم شملتني بنظرة صافية

ردت عليها الفتاه في حنق بالغ: لديكِ ما يبرر هذا التعاطف، لقد لمحتهُ، كان إيجابياً في التعاطي مع طموحاتكْ...

تبدد حرجي تماماً بعد أن تحولت دهشتي إلى حيرة عندما ردت تلك العجوز وقد طفحت ملامحها بنقاء مغاير لما ألفتهُ عنها مسبقاً: نعم... كانت سخرية معبرة وشاملة... تناولتني على مراحل... لن أنساها... لقد جردتني من كل شيء.

إنبرى الرجل المتأنق للمرة الأولى ليعلق ببرود محير ولباقة نادرة: سيدي كان عليك التماهي مع همومنا حين نفردها على طاولة الوطن، لا أن تحاورها بلمسات جافة وبيد راجفة... أليس كذلك؟

 ربما لأنني لم أحتمل نبضها المفاجىء تحت أصابعي... أعني تلك الهموم.

من خلال الوجوه المتحفزة، أدركتُ بفطرتي، أنني قد غردتُ بعيداً عن السرب... وبمسافة كبيرة، حددها ذلك المتأنق بالهائلة حين كظم غيظاً أخفاه وراء لباقته المحيرة: سيدي... هل أنتَ من النخبة؟
 متذوق للحركة التشكيلية والتجسيد الثلاثي...
 سيدي لا يبدو أنك جئت هنا لتسخر منّا... أنا واثق من هذا... لكن بلا شك، ينقصك التمتع بذلك الحس التركيبي للنخبة... هذا كل شيء.

كان طوال الوقت يوزع بصره بيننا ثم ينكسر بلا إرادة على قبضة يدي المشدودة من حين لآخر، حتى تعثر أخيراً بنزق المبالغة، في إخفاء تلك الايقونة، دنا حتى التصق بي وهو يشير صراحةً لقبضتي، عاودني الحرج والإرتباك مرة أخرى، بينما تأهبت تلك الفتاة الحانية لقطف المزيد من الأدلة...

 سيدي من فضلكْ... وأشار إلى قبضة يدي في إصرار
 ماذا ؟ هل هناك شيء؟
 عذراً، هل إنتهيتَ منه؟ أيمكنني أن استعيده يا سيدي...
 لم أكن أقصد... كانت الايقونة في طريقي... سقطت في قبضتي رغماً عني... أنا... لم...
 عفواً، لا أدري عن أيةِ أيقونة تتحدث، أنا أريد إستعادة المنظار فقط !

ظلال النخبة لا تزال تسبح في هدوء لزج تحت أضواء خافتة لصالة العرض، الفتاة الحانية تضم أيقونتها إلى صدرها النافر، إلتفتُ نحو الرجل المتأنق.. كان مسكونا بدهشة عابرة، بادرته مفصحاً عن ذهولي أنا الآخر : أوه... عفواً تفضل...

حررت المنظار من قبضتي، سلمته له في امتنان، بادرني بسؤال على هامش اللقاء المقتضب: هل أعجبتك اللوحة؟

 توشك أن تنطق... لكن، هل تعرف هذه الفتاة؟
 أية فتاه... سيدي؟
 هذه الفتاه... الفتاة الحانية، التي تحتل كامل المساحة...
 ليس ثمة فتاه سيدي في هذه اللوحة

تبادلنا دهشة مشتركة، في صمت محير، حتى ندت عنه آهة عميقة إبتلعها وهو يقول: أنت لم تستخدم المنظار سيدي... أليس كذلك؟

- نعم... لكني أراها ماثلة أمام عيناي في تجرد تام!

لم ينتظر ردي، كان قد تلاشى بين الحضور، وسط العتمة، وهو يقول في لباقة متناهية: عذراً سيدي، هذا يكفي... لقد تبادلنا إضاعة الوقت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى