الاثنين ٣١ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم زياد الجيوسي

صباحكم أجمل\يوم تبكي سمانا

آذار يحمل عصاه ويرحل، أراه يلملم ما تبقى من حوائجه بحقيبة السفر من أجل المغادرة، لم يفرحنا كما اعتدنا منه على هدايا الجمال والفرح، ربما تأثر بالبشر وطباعهم، فخان العهد والوعد، كان الجدود يسمونه آذار أبو الزلازل والأمطار، وكان يقرض كل عام لشهر شباط الذي يسبقه أربعة أيام كانت تسمى "المستقرضات"، فتسيل المياه في الوديان لتغرق العجوز وأغنامها، جزاء لها على شماتتها وفرحها بقرب انتهاء شباط كما يرد في موروثنا الشعبي الجميل، كان آذار رمزا للخير والمطر، كان شهر الربيع والشهر الذي نغني له بطفولتنا:
"آذار يا آذار.. يوم شمس ويوم أمطار"، فلم نعد نرى أمطاره ولا شمسه الناعمة المشوبة بالبلبل، ولم يعد الأطفال يخرجون في الشوارع ليغنوا له، فقد أصبح آذار بخيلا بمطره، ولم يعد يقرض شباط كما كان، ولعله تأثر بالمعاملات المصرفية فأراد فوائد على القرض ولم يحصل عليها، ولعله تأثر بموجة الغلاء العالمية التي يفتعلها أساطين المال ودول رأس المال، فأراد أن يخوض في معمعة الربح والكسب، على حساب الغلابا والمسحوقين الذين ينتظرون الغيث، لا من أجل أن يملئوا أحواض السباحة، ولكن كي يشربوا ويسقوا زرعهم ومواشيهم.

منذ بدايات آذار ونحن نعاني من موجات الحرارة الخماسينية المشبعة بالغبار، فكان صيف مبكرا بدلا من ربيع مزهر، وعانت أجواء رام الله من الغبار كما عانيت أيضا، فهذا الجو الخانق يمنع الحركة والتمتع ببدء الربيع، حتى أن الجفاف ضرب الأزهار والورود الربيعية في أطراف المدينة وفي الحدائق العطشى، ولعل درجات الحرارة وموجاتها تناسبت مع الجو السياسي، فالصراع ما زال مستمرا في القطاع المنكوب ووصل إلى اليمن، ولا نذر اتفاق حقيقي يحل الأزمة ويجلب معه بلح اليمن في ظل صراع برنامجين مختلفين، وزيادة الضعف فينا يغري العدو وصديق العدو، فهذه "ميركل" تعتذر لليهود على دور ألمانيا النازية فيما أصطلح على تسميته محرقة اليهود وإبادتهم، وتعلن أن أي مساس بأمن إسرائيل هو مساس بأمن ألمانيا، وتنسى أن الفلسطينيين والعرب لم يكونوا هم شعب وحكومة ألمانيا النازية حتى يدفعوا ثمن جرائم النازية الألمانية، وفي فرنسا تقيل الحكومة موظف وتطرده من عمله لمجرد أنه انتقد سلوك إسرائيل العدواني، وأما كل الإساءات للعرب والمسلمين ولرسولنا الأعظم، فهي حرية رأي وتعبير يكفلها القانون، ففعلا كما قال المثل الشعبي:
"القوي عايب"، وضعفنا يغري كل الحثالات ويستقويها علينا، وأمة تنام وتضع رأسها بين الرمال، وتتسابق لحجز السيارات الفارهة وأجنحة الفنادق بمبالغ طائلة، كافية للصرف على مشاريع تقي الكثيرون من الجوع، بدلا من إرسال وفود أكبر من الحاجة لقمة عربية المفترض أن تبحث هموم الأمة لا أن تلعب على جراحها.

صباح الخير يا رام الله، صباحك أجمل رغم الحر والغبار والخماسين، رغم الجفاف والحر وضعف موسم المطر، رغم غضب شباط و"حرد" آذار، تبقين الأجمل والأروع بين المدائن، تبقين الأجمل والأحلى رغم خفافيش الظلام الذين لا يتوقفون عن التخريب والتدمير والترويع، تبقين شامخة في وجه الاحتلال وممارساته كما كل الوطن، والتي من كثرها لم تعد وسائل الإعلام تشير لها.

فمنذ يومين فقط اقتحمت قوات الاحتلال سطح مرحبا التي شهدت طفولتي، وقد أرسل لي مواطن من المتابعين لصباحات الوطن يقول: "دخل علينا الليلة الماضية خفافيش الظلام واقتحموا العمارة التي نسكن، يرافقهم بني جنسهم - الكلاب، واخضعوا جميع السكان إلى التفتيش في منتصف الليل، وكانوا يضربون الأبواب بعنف، مما افزع الأطفال والنساء، وهذا اعتدنا عليه ولو أنه غير عادي، إلا أن هناك جارة لنا لا تنجب الأطفال، وقد قامت بالزراعة أكثر من مرة بقصد الحمل، وفي آخر مرة وفقها الله وحملت، وبسبب زيارة هؤلاء الكلاب أجهظت ففتح عزاء في عمارتنا، فأتمنى عليك لما لك من باع طويل وقلم سيال في الكتابة، أن تكتب عن هذا الموضوع لانتشار مقالاتك، ولنكون قد أوفينا رام الله جزء من محبتها، فليس الحب هو في اتجاه واحد بل في كل الاتجاهات"..

وها أنا يا أخي أرفق ما قلته كما هو، وماذا يمكنني أن أضيف إلى ما ورد منك عن ممارسات الاحتلال التي لم تعد تجد من يتحدث عنها في وسائل الإعلام، وإن ورد شيء فهو يرد كخبر صغير وكأن الحدث لا يخصنا، فعلى من نلوم يا صديقي؟ فحتى شهدائنا أصبحوا يردون كأرقام وأسرانا كأرقام والجنين الذي تترقبه أمه بكل الحلم والشوق يقتل، وتترك الحسرة أثرها في الجار والأم والأهل، ولا أحد يتحدث أو يتكلم، بينما لو كان هذا الحدث لامرأة من شتات "الفلاشا" بمستوطنة إسرائيلية مغتصبة لأرضنا، لثار العالم المنافق حزنا وألما، واجتمع مجلس الأمن، ولتسارعت القيادات لتقديم الاعتذارات وإدانة المسببين، فيا ابن مدينتي: أبناء الاحتلال لهم بواكي، وأما "حمزة" فلا بواكي له.

وفي جانب آخر كم سررت حين اتصل بي أبنائي الطلبة في جامعة فلسطين التقنية "خضوري" في طولكرم، ليعلموني عن الدعوة لحملة تشجير تطوعية أطلقوها في منتداهم الجميل، ستكون بدايتها في الجامعة كمقدمة لحملة تقوم بها السواعد الشابة والواعدة، من أجل نشر ثقافة العمل التطوعي على مستوى المحافظة، وقد سرني الخبر كثيرا، فقد دار بيني وبينهم حوارات طويلة بعد أن نشرت صباحي بعنوان: رام الله بتحلى أكثر بشجرها الأخضر، وتحدثنا فيه أن التغيير يبدأ بالعمل التطوعي بدون انتظار المؤسسات الحكومية، وهذه خطوة في الطريق السليم، آمل أن تكون مؤشرا لكل السواعد في محافظات الوطن، وأن يبقى شعارنا: كلما اقتلع الاحتلال شجرة فعلينا أن نزرع عشرة.

ما زالت رام الله تحاول أن تخلق الفرح من بين شلالات الألم، فالفعاليات الثقافية والفنية تجود بها أمسيات رام الله، ولعل أجملها أمسية إقامتها مؤسسة الكمنجاتي يوم الخميس الماضي في مقرها بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف، وقدمت فرقة أنوار القدس قادمة من رحاب الأقصى الموسيقى الصوفية والمدائح النبوية، وكان الحضور كبيرا من أبناء المدينة بمسلميها ومسيحييها إضافة لعدد كبير من الأجانب، ورغم انقطاع الكهرباء المفاجئ إلا أن الحضور أصروا على إكمال الحفل على نور البدر المنير، فكانت أمسية متميزة بجمالها وصفائها، وشعرت بروحي تحلق في عالم آخر من الجمال والتحليق في نور الذكرى وجمالها، لنكمل الليلة في التجوال أنا وصديقين في شوارع المدينة وحوار تناول السياسة والثقافة، اختتم بأنفاس النارجيلة وأكواب الشاي بالنعناع في مقهى رام الله الجميل، فأعادت هذه الأمسية للذاكرة أيام الطفولة وفرق المتصوفين وهو يرفعون الرايات الملونة الموشاة بآيات الذكر الحكيم، ويدقون الطبول والدفوف وينشدون الأناشيد،

وهذه الصورة ارتبطت بذاكرتي في مخيم الوحدات في جنوب عمان الجميلة، حين كانت هذه الفرق تجوب شوارع المخيم وأزقته، وما زلت أذكرها بالطفولة القديمة أو بعد عودتنا لعمان بعد حرب حزيران، حين نزحنا مكرهين من ارض الوطن لنحل نازحين على لاجئين، ولعلنا كنا أكثر حظا من غيرنا الذين سكنوا المدارس والخيام في العراء، فنحن نزلنا ضيوف في بيت جدي لوالدتي رحمه الله في المخيم، لنبدأ رحلة تعب وعذاب في البحث عن بيت يأوينا، فالبيوت المعروضة للإيجار كانت قليلة وأسعارها أصبحت مرتفعة بحكم زيادة الطلب وقلة العرض، وتنقلنا في أكثر من بيت كل منها أشبه بالزرائب من البيوت، ما بين حي اليمانية والنظيف والدبايبة، وكلها أحياء محيطة بمخيم الوحدات تقريبا، وتأخر افتتاح المدارس بحكم الظروف العامة، حتى تمكنت الحكومة من وضع نظام التعليم لفترتين مسائية وصباحية، فالتحقت بإعدادية الأشرفية في صف يجمع الطلبة النازحين من كل مناطق الضفة الغربية، وكل قادم من مدينة أو قرية والكل يعاني نفس المعاناة، الطلبة والمدرسين ورداءة النظام الجديد ذو الفترتين، وتخلصنا لأول مرة من لباس اللون العسكري كطلبة ومن حلق الشعر على درجة الصفر، ولا اعلم هل هي الظروف المادية الصعبة للنازحين التي ألزمت وزارة التربية على الإلغاء أم كانت هناك أسباباً أخرى، وبدأت مساعدات النازحين توزع علينا بالمدارس، فبدأنا بتلقي علب السردين والبسكويت والجبن ونحن طلاب، ولن أنسى أبدا علب اللحمة التي وزعت علينا وتحمل صورة قطة، ليتبين لاحقا أنها كانت علب مخصصة للقطط وليست للبشر، ولكنها استقرت بأمعائنا الجائعة.

صباح الخير يا وطني الممزق والمحتل، وصباحك أجمل يا مدينتي ويا أحلامي البعيدة ويا أملي، صباحك أجمل وأنا احتسي فنجان القهوة في صومعتي المتواضعة، وطيفي الجميل ترف روحه تداعبني وهو في البعيد والى البعيد، صباح آخر وفنجان قهوتنا وشوق يتجدد إلى اللقاء، صباح آخر وعبق النعناع وهديل الحمام وزقزقة عصافير الدوري الكسلى على نافذتي، وغيوم تنتشر في سماء المدينة، فلعل السماء تجود بالغيث بعد انحباس وتبكي سمائنا أمطاراً، وشدو فيروز يصدح:

"لا يدوم اغترابي، لا غناء لنا يدوم، فانهضي في غيابي واتبعيني إلى الكروم، هيئي التلال، كرمنا بعد في ربانا، يوم تبكي سمانا نشبع القلب والشفاه، حبيبتي زنبقة صغيرة، أما أنا فعوسج حزين، طويل انتظرتها طويلا، جلست بين الليل والسنين".
صباحكم أجمل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى